يقف الاتحاد الأوروبي أمام مفترق طرق, بعد ظهور النتائج الصادمة للانتخابات الإيطالية, فما أن حلت الساعات الأولي من صباح يوم الثلاثاء الماضي, إلا وانكشف حجم الانقسام الذي تعاني منه إيطاليا, في ظل غياب أغلبية واضحة يمكنها تشكيل حكومة مستقرة. وكشفت النتائج عن أن أكثر من نصف الناخبين الايطاليين صوتوا لأحزاب تعارض إجراءات التقشف التي تبنتها حكومة التكنوقراط بقيادة ماريو مونتي علي مدار13 شهرا, وهي الإجراءات التي حظيت بدعم و تأييد الشركاء الأوروبيين و بخاصة, ألمانيا ذلك الي جانب, اللكمة التي تلقاها مونتي شخصيا من الشعب الايطالي, بانحداره إلي ذيل قائمة الفائزين بحصيلة لا تتجاوز ال 10 % من الأصوات. وباستعراض مواقف القوي الرئيسية الفائزة إزاء الإصلاح الاقتصادي, نجد أن ائتلاف اليسار وسط بقيادة بيير لويجي بيرساني, الذي يتصدر المشهد, يدعو إلي ضرورة التوسع في الإنفاق الاجتماعي, مع الالتزام باتفاقية الانضباط المالي للاتحاد الأوروبي. وهو ما يحمل في طياته غموضا إن لم يكن تناقضا, في ضوء عدم كشفه عن الموارد التي سيقوم من خلالها بتمويل حزمة السياسات الاجتماعية. أما ائتلاف اليمين وسط بقيادة سيلفيو بيرلسكوني, و الذي يحتل المرتبة الثانية علي الساحة السياسية, فقد بني حملته الانتخابية كلها علي هدم الإجراءات التي اتخذها مونتي. واعترف بأنه أخطأ عندما دعم حكومة التكنوقراط. ذلك الي جانب, تهديداته المتواترة بمغادرة منطقة اليورو, والتنديد ب تدخل الشركاء الأوروبيين وبخاصة ألمانيا في السياسة الداخلية لايطاليا. وعلي نهج راديكالي أكثر تطرفا, تخطو حركة خمس نجوم بقيادة الكوميديان الايطالي بيبي جريللو, والتي شكلت المفاجأة الحقيقية بالانتخابات, بحصولها علي أكبر نسبة من الأصوات بين سائر الأحزاب منفردة.فقد نجح الكوميديان الذي تحول الي سياسي, في الصعود بسرعة الصاروخ علي الساحة السياسية بعد3 أعوام فقط من تكوين الحركة. وطرح أفكارا تشكل انقلابا علي نظم السياسة الأوروبية العريقة, ما جعله يحظي بدعم جيل كامل من الشباب المحبط. يدعو جريللو الي ديمقراطية جديدة بدون سياسيين, بعد أن ألقي باللائمة في تردي أوضاع بلاده, علي فساد السياسيين. يطالب بالخروج من منطقة اليورو, ويرفض سياسة التقشف والاستقطاع من أموال الايطاليين دون أصحاب الثروات الكبيرة, ويطالب بالتصدي للأزمة المالية عبر مكافحة التبديد, وخفض رواتب كبار موظفي الدولة, إلي جانب الارتكان علي وسائل التكنولوجيا الحديثة في قطاع الخدمات و إلغاء الشركات الوسيطة, كما يدعو إلي تأميم البنوك مؤكدا أن ربع أموال الضرائب التي يتكبدها الايطاليون تذهب لدفع الفوائد البنكية علي الدين العام. يعتبر أن كل تلك الجلبة المالية في أوروبا مجرد دائرة من الدخان تهدف إلي إدرار المزيد من الأموال إلي البنوك. وترمز نجومه الخمس الي المجالات الأساسية لحياة كريمة وهي المياه والنقل والتنمية والاتصالات والبيئة.. وتدعو خمس نجوم إلي حل الأحزاب والارتكاز علي المشاركة المباشرة للمواطنين لادارة الشئون العامة من خلال الديمقراطية الرقمية( اعتمادا علي استخدام شبكة الانترنت ووسائل التكنولوجيا الحديثة). لا شك أن نجاح بيبي جريللو الباهر يضعه أمام تحدي كبير بعد أن دخل البرلمان من أوسع أبوابه, خاصة أنه أصبح الرقم الصعب في معادلة تشكيل الحكومة, فبعد أن حظي ائتلاف يسار الوسط بالأغلبية في مجلس النواب, لن يتمكن من الوصول إلي السلطة الا بتأمين أغلبية50% داخل مجلس الشيوخ, وهو ما سيضطره إلي الدخول في مفاوضات مع بيبي جريللو علي الأرجح. وفي هذا السياق جاءت تصريحات نيكي فيندولا الشريك الثاني في ائتلاف اليسار وسط, بضرورة التوصل الي تفاهم مع جريللو, عقب ساعات من ظهور النتائج. ويمكن تفهم ذلك, في ضوء صعوبة التقارب بين ائتلاف بيرساني( يسار) وائتلاف بيرلسكوني(يمين), فضلا عن خروج مونتي من المعادلة بشكل كامل تقريبا, بعد أن خسر, قبل كل شئ. ويظل أفق تفاهم بيرساني جريللو قيد الاختبار, إن لم يكن محلا للشك, خاصة وأن جريللو استبعد في وقت سابق الدخول في تحالف مع أي من الأحزاب! وهو ما سيفتح الباب أمام كل الاحتمالات.