قبل شهر تقريبا كان هناك احتفاء نقدي بصدور الأعمال الكاملة للشاعر اللبناني المبدع وديع سعادة. وقد ذكرني ذلك بأن لي معه حكاية صغيرة. كان ذلك في بغداد, لعام 1987 أو 1988 وكنت لمحته يذهب ويجيء وحده في بهو الفندق المزدحم بقامته النحيلة القصيرة, علي ما أذكر, وعينيه الصاحيتين. صافحني وعرفني بنفسه وقال إنه يريد أن نتحدث قليلا. كان يعمل بالصحافة أيامها بينما كنت أخشي الكلام تماما وأردت أن أعتذر لكنه قال إننا لن نتحدث طويلا ووافقت. أسئلته الدقيقة الذكية حول الكتابة, وهو الموضوع الوحيد الذي كنت أجد الجرأة للكلام فيه دون توتر, عاونتني علي الكلام, وعندما انتهينا كان راضيا وطمأنني قائلا إن هذا هو ما أراد أن يسمعه, وافترقنا. لم يمر وقت طويل حتي عاد وفي يده ديوان صغير بغلاف أبيض فقير نوعا وأهداني إياه. كان في عنوان: مقعد راكب غادر الباص, وكان الإهداء: إلي إبراهيم الذي له مقعد في القلب, (أذكره هنا بسبب المناسبة, ولأنه أدهشني وأحببته). ألحقت الديوان إذن ببقية الكتب التي عدت بها من هناك, ونسيت الأمر بعد ذلك تماما. راحت السنوات تمر, ثم بدأ اسمه يتردد من حولي, ورحت أتابع قصائد للشاعر وديع سعادة, كلما أتيح لي, من دون أن أربط بينه وبين الرجل الذي التقيته في بغداد. كان, بقصائده المتفرقة في صورها المدهشة التي يقتنصها وهي تعبر مثل فراشات ينشئ منها, شأن ساحر, عوالمه الفاتنة الموجعة, قد صار مصدر إلهام للعديد من شعرائنا الشباب, بل إن بعضهم استعار عالمه بلا حرج. ذات مرة, خيل إلي أن اسم هذا الشاعر الذي أقرأه أحيانا, ليس غريبا علي, وأنه يشتبه واسم شاعر آخر التقيته قبل سنوات طويلة في بغداد. هكذا قضيت بقية الليل أبحث في رفوف المكتبة عن ذلك الديوان الصغير بغلافه الأبيض حتي وجدته, وتبينت أنه هو, حينئذ سعيت للبحث عنه, واتصلت به في استراليا التي كان هاجر إليها, وطلبت منه أن يعد بنفسه مختارات من شعره, حيث لم يكن صدر له شيء في مصر حتي ذلك الوقت, من أجل نشرها في سلسلة: آفاق الكتابة التي كنت أشرف عليها لحساب الهيئة العامة لقصور الثقافة. أعد المختارات وأرسلها وصدرت. ثم نفدت بعد ساعات من طرحها. مر الوقت إذن واقترب موعد المؤتمر الشعري الذي كان يقام بالتبادل مع مؤتمر الرواية كل عامين, وأنا رأيت أن دعوته للحضور مسألة مهمة, وأنه سوف يلتقي هنا بمحبين عارفين بقدره أهم كثيرا من شعراء آخرين جرت العادة علي دعوتهم. اتجهت إلي مكتب الدكتور جابر عصفور, برغم علاقتنا فإنني لم أكن طلبت منه شيئا قط, حدثته بشأن وديع سعادة وضرورة دعوته إلي المؤتمر. وهو رحب بذلك وطلب مني أن أعتبر الأمر في حكم المنتهي. اتصلت بوديع وأخبرته. كان سعيدا, ولم يكن, علي ما أذكر, جاء القاهرة من قبل. إلا أن بطاقة السفر لم تكن وصلته وقد اقترب الوقت. اتجهت إلي الدكتور جابر وتحدثت معه بشأن البطاقة التي لم تصل بعد. وهو سألني: هو عايش فين؟ قلت: في استراليا قال: لأ يا شيخ, أنا فاهم إنه عايش في لبنان. تذكرة استراليا غالية جدا. يعني ممكن بثمنها نوجه الدعوة إلي أربعة أو خمسة شعراء ممن يعيشون في أي بلد عربي. واعتذر. انتهي اللقاء وقد شعرت بقدر هائل من الحرج والاستياء. خاطبت وديع الذي كان أعد حقائبه وأخبرته بما جري. وهو ثار في الهاتف ثورة هائلة, ما أذكره الآن من كلامه أن هذا هو ما كان يتوقعه بالضبط, وأن هذا هو دأب العالم العربي, الأمر الذي دعاه للهجرة بعيدا عن وطنه, حاولت أخبره أن لا جريرة لي في الأمر لكنني سكت. ظللت أسمعه صامتا حتي انتهت المكالمة وقد خفت صوته قليلا, إلا أنه لم يعتذر عن شيء. مر زمن آخر ثم علمت من أصدقاء أن وديع كان بالقاهرة وأنه التقي بأصدقاء ثم عاد إلي استراليا. مرة أخري أخبرني صديق أنه جاء ليقرأ نماذج من شعره في أتيليه القاهرة وأعطاني رقم هاتفه هنا إذ أردت أن أتصل به. صار اللقاء الوحيد بيننا هو ذلك الذي جري قبل ربع قرن تقريبا في بغداد. لا بأس أخيرا من القول إن هيئة قصور الثقافة لم تكن ترسل نسخا من الكتب إلي مؤلفيها المقيمين خارج مصر, ولكنني أكدت إرسالها إليه. جري اعداد خمس نسخ في لفافة وأرسلوها إليه, ولأن ورق اللفافة لم يكن ملائما فقد تهلهلت في الطريق, والبريد الأسترالي رأي أن تسليم اللفافة علي هذه الصورة فيه إهانة لشرف المهنة التي ينتمون إليها, أخبرني أنهم أعدوها في شكل ملائم, وأرفقوا بها خطابا يعتذرون فيه نيابة عن البريد المصري, وسلموها له. المزيد من مقالات إبراهيم اصلان