مرت ذكري ميلاد الفنان الراحل (اسماعيل يسين) ال99 دون اهتمام لائق بعظمة هذا الفنان الساخر, ومن لديه القدرة علي إدراك وتفعيل ما لدينا من امكانيات ثقافية وفنية وروحية. ومن لديه إمكانية استدعائها وسط هذا التخريب الذي يسري كالنار في الهشيم في العالم العربي وأيضا الاسلامي؟ كأن نبوءة الفنان الإنجليزي (جورج أورويل) تتحقق بعد 60 عاما علي وفاته, بأن يتحكم في العالم قوي كبيرة تتقاسم مساحته وثرواته وأيضا البشر, وتحولهم إلي أرقام دون هوية أو طموحات تخرج عن إرادة الأخ الكبير, الذي لا تتم أمور إلا وفق مشيئته!, ففي معرض مناهضته للإمبريالية العالمية, نبه إلي خطورة الخطاب السياسي الذي تتحول فيه الاكاذيب والجرائم الي عمل محترم.. بل إنه في واقعنا المعاصر تحول إلي.. عمل ثوري. ولأن من أهم أدوار الفن في الحياة هو تفريج التوتر وتهدئة الخوف في النفوس القلقة الحائرة, فوجدت أن تناول شخصية هامة مثل (اسماعيل يسين) في ذكراه, ليس بعيدا عما يدور حولنا وبنا, فنشأة الفن في الأساس قامت علي هزيمة الخوف في نفس الإنسان البدائي من قوي الطبيعة المجهولة فحاول بمنتجاته الفنية أن يهديء من روع القوي الغامضة التي تناصبه العداء, ويركن هو إليها عندما يحتاج إلي التسريب الانفعالي الملح, وكم من انفعالات تحتاج إلي تسريبها! (اسماعيل يسين) نجح فيما يعجز عنه أغلب المتقعرين في الفن, وهو خلق نمط فني من الحياة, يلمسه الإنسان في نفسه وفي الآخرين, وعندما يضحك عليه, فهو يضحك علي نفسه قبل ما يفعل علي الآخرين, فهو خلق تكوين لنمط الإنسان البسيط المهمش, الذي يحاول أن يجد له موقعا في دائرته الاجتماعية, ويقاوم الاستخفاف به, بتجاوز ازدراء الناس له, بالسخرية منهم ومن نفسه وشكله, بحيث لا تنقطع صلاته مع الآخرين رغم المصاعب التي يواجهها, فيحلها بعفوية وبساطة وخفة ظل, لا تجعل من الحبة قبة, بل هي عبقرية البساطة.. أو السهل الممتنع! فالقدرة علي تشكيل نمط إنساني يحظي بالقبول العام ليس عفويا, حتي ولو كان النمط نفسه يمثل العفوية, كحالة (سمعه), الذي شكل حالة اجتماعية بطريقة وأسلوب مبتكر يخص الفنان, لا يستطيع غيره تقمصه أو تقليده, مهما كانت براعته, لأن النمط الخاص مرتبط بشخص معين استطاع أن يبرع فيه لسمات شخصيه تخصه دون غيره كالشكل والصوت وطريقة الأداء والروح, فالجانب الذي لمع فيه, وصل به للحالة الاجتماعية للنمط, لا يمكن نسخها مع غيره, والسينما المصرية استطاعت أن تغذي خيالنا وعالمنا الداخلي بأنماط فنية عديدة عبرت عن حالة المجتمع المستقرة نسبيا والطموحة نحو حياة أرقي, وبالتالي عبرت السينما عن حالة المجتمع وتوجهاته وقيمه بخلق أنماط إبداعية تمثل الجمال والرقة والعذوبة, كما في (ليلي مراد) مثلا, وأيضا الجدية والاحترام والمحافظة علي التقاليد كنمط (زكي رستم), وأيضا الشر الإجرامي, والشر مع أنه شر ولكن ظريف, فمثلت الانماط السينمائية إفتراضات إنسانية, لإثارة الخيال وتفريج التوتر, والتي بلغت شأنا عظيما عند نجيب الريحاني, وهناك من استطاع أن يخلق أكثر من نمط, كأيقونة السينما المصرية والعربية والإنسانية متعددة المواهب (شادية), أما الرجل الداهية الذي جعلني أتصور أنه مجموعة ممثلين بنفس الاسم, فهو (عدلي كاسب), الذي لا أتصور شخصية المعلم الجزار المتوحش والعنيف هي نفسها للذي قدم نمط الزوج المخدوع أو الموظف المغلوب علي أمره أو الإمعه الذي يقول مالا يفعل ويفعل مالا يقول! أنماط كثيرة قدمتها السينما كتب لها الخلود, لأنها عبرت عن المجتمع بصدق وطموح للنجاح وإثبات الذات, بإسعاد الناس والتعبير عنهم, ولأنها كانت تعبر عن حالات اجتماعية, فهي تشبه المجتمع, فمن يرغب في البحث عن سمات المجتمع في فترة زمنية معينة, فلا شك أن نوعية الانماط السينمائية التي نجحت. فيها حامل اجتماعي يتضمن العديد من الدلائل علي حالة المجتمع النفسية, جراء الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية العامة, فكيفما تكونوا تكون أنماطكم السينمائية! ورغم أن الانماط البشرية تخيل موجود في الفكر والواقع إلا أنه يختلف من الفكر عن الواقع, ففي الفكر يبقي حالة مثالية خيالية, نتطلع إليها ونحقق صورا منها في الواقع لا تتطابق مع المثالية المفترضة, وهو ما يجب إدراكه بالتفريق بين عالم الفكر وعالم الحياة اليومية, فنمط (سمعه) الساذج نمط فني خالص, ولا تجده في الواقع بحذافيره, ولكن تجد منه لمحات وومضات لشخصيات غاية في الذكاء, وأعتقد أيضا أن الفنان الذي أنتج هذا النمط, الذي يلمس جانبا صغيرا أو كبيرا في أي إنسان, يتمتع بعبقرية خاصة جعلته يصل إلي أوتار إنسانية تشكل منها كائن فكري, يبقي حيا علي مستوي الفكر لا الواقع, الإشكالية عندما يخلط المشاهد ما يراه من أنماط ويتصور أنها كذلك في الواقع, خيرة دائما أو شريرة أبدا, ويطبق الانماط الفنية علي الحياة بحذافيرها, ويتوقع نتائج وأفعالا معينة حسب قناعته بالنمط الخيالي, الذي اسقطه علي شخصيات واقعية, فيتوقع مالا يقبله المنطق, ولكن فقط يقبله (النمط) الفني الذي في خياله, فيتوقع الكثير من الأطراف الاجتماعية الأخري التي يدخل معها في علاقات إنسانية, كما أوضحت ذلك الفنانة المتمكنة (مريم فخر الدين) التي أرجعت فشل زيجاتها بسبب تعلق أزواجها بالنمط الانساني الرفيع للمرأة, التي نجحت في تجسيده باقتدار, ومازال فيما أعتقد يمثل مشكلة لكل امرأة! ما يقدم في الفن من أنماط ناجحة حاليا لها أهميتها, رغم الهجوم الشديد عليها من النقاد والمتفرجين أيضا, الذين يشاهدونها وكانوا سبب نجاحها, فهي علي استفزازيتها للذوق السليم والوعي المتزن, إلا أنها منبه علي تردي المناخ العام, مما يتطلب إرادة قوية للإصلاح الاجتماعي, وأذكر أن ابني في إحدي المناسبات قدم لي صديقا له, بأنه مخرج وفنان موهوب, فشرعت في الترحيب به, إلا أن ابني يعلم أنني أبالغ في الترحيب بالناس عامة وهي ليست موهبة لدي بل هي تقليد لنمط من الناس أعجبني فتخلقت به, تقليدا للصديقة الأستاذة (إيمان عبدالمنعم) التي تملك هذه الموهبة, النمط المصري في حسن الضيافة, فتحس عند لقائها أن سحابة عطر أمطرت فغمرتك بالفرح والود من كل جانب فقد استطرد قائلا: إنه من المشتركين في خلق شخصيتي (وديع والمنتج), التي تم تحويلها إلي فيلم هابط بامتياز, فانقلبت من حال إلي حال, كالمتحولين في الافلام الامريكية الهابطة, وأمطرته بوابل من الاسئلة الاستهجائية مثل: كيف يضيع موهبته في إنتاج القبح, وهل هو يقصد إنتاج هذا المستوي من القبح ليفضح الخواء الاجتماعي الذي نعيشه, أم لأن سيطرة الفكر الاستهلاكي المادي فصلت الفن عن أهدافه في مخاطبة العقول وترقية المشاعر وتفريج التوتر, أم ينبه إلي أن الفن لا يجد من يرعاه أو من يهتم بالمواهب, فتترك لتموت علي أعوادها دون إستثمار,.. و..و.. انه كان متوقعا لكل هذه الشحن من الغضب المحب فقد مر بها مرارا وتكرارا ولذا اكتفي بالضحك في إجابته عن كل تساؤل! فالحياة مليئة بأنماط حيه, منها ما كتب له الخلود مادام قادرا علي التعبير عن الناس, ومنها المضلل والكاذب والذي يستحق حديثا آخر! المزيد من مقالات وفاء محمود