حين جئت إلي الأهرام قبل71 عاما لمحته جالسا علي مكتبه المواجه لي, صامتا لا يتحدث إلا ردا, ولا يقول إلا خيرا, فإذا جاءت سيرة الشعر, ينكسر صمته وينطلق في حديث حماسي عن المتنبي,كأنه عاشق لا يمل الحديث عن معشوقه, لا يستطيع أحد أن يوقفه, وجمعنا حب الشعر برغم اختلاف تعاملنا معه, فهو شاعر يعاني مخاضه, وأنا كناقد أتذوق وأعلق وأحلل. اتفقنا واختلفنا حول الشعر مرارا لكن بقيت المحبة والاحترام والتقدير تحكم علاقتي بصديقي وزميلي الذي فارقنا دون أن يودعنا الشاعر محمد عبدالعزيز شنب, الذي لم يحظ بالتقدير النقدي اللائق بشعره ومكانته, وربما كان السبب عائدا لطبيعته التي تميل إلي العزلة وترفض الأضواء. محمد شنب أحد الذين أخلصوا للغة العربية وأحبوا طرائقها, وبرغم جنوح شعراء كثيرين إلي تلمس الطرائق والأساليب الجديدة في كتابة الشعر إرضاء لنوعية من القراء, إلا أنه ظل علي وفائه لأوزان الخليل بن أحمد, رافضا ما عداها, عن اقتناع أن التجديد والمعاصرة إنما تكونان في المعاني والأساليب والموضوعات, أما الوزن فهو من الأساسيات التي لا تمس, لهذا كان رفضه التام لأشكال القصيدة الحديثة وبالذات قصيدة النثر, عن مبدأ آمن وتمسك به, غير عابئ بأية خسارة تلحقه جراء موقفه. وفي شعر الراحل تتبدي لغة قوية رصينة, وصور جميلة وأخيلة بديعة, إذ امتلك ناصية البيان وطوع اللغة للتعبير عن الصور التي يريدها وساعده علي ذلك تمتعه بفطرة شاعرة توفر له قدرة علي اختيار اللفظ وأشكال التركيب. ترك لنا شاعرنا عدة مسرحيات شعرية وعديدا من الدواوين, وكانت أقرب أعماله إلي قلبه مسرحيته المتنبي فوق حد السيف التي أودع فيها مشاعر الحب الصادقة التي يكنها للمتنبي ومزجها بشاعريته وخياله المجنح ليقدم لقارئه مسرحية تفوق فيها علي نفسه, وكان طبيعيا أن تفوز هذه المسرحية النابعة من القلب بالمركز الأول في مسابقة المجلس الأعلي للثقافة, ومن مسرحياته أيضا التي كان يعتز بها صعلوك في وادي الملوك. وتتبدي شاعرية محمد شنب حتي في اختياره لعناوين دواوينه وإعطاء المحسوس صفة الملموس والعكس فالعطر يتكلم أحيانا عطرك يتكلم, والمطر يظمأ عندما يظمأ المطر, والملح يسكر الملح سكرها, والقرنقل ينزف نزيف الفل.. وهكذ الأمر في باقي الدواوين. وشعر شنب يقوم علي الوعي بالتراث والمعاصرة, ومفردات مأخوذة من الواقع المعاش, إلي جانب تنوع الأغراض الشعرية, يقول في إحدي قصائد ديوانه البحتري يناشد الربيع المجيء: زهرتان علي دم الشطآن.. توقظان الأفراح بالأحزان تسبقان الأسي الذي يتلظي .. في طلول بديعة الجدران وهو شاعر يستروح العيش في التاريخ ويستدعي أحداث الماضي لتعبر عن الحاضر في سياق بديع, يقول في إحدي خماسياته التي اعتاد نشرها يوميا في الأهرام خلال شهر رمضان الفضيل علي امتداد7 سنوات تحت عنوان دال واحة الإيمان: يا صاحبي سنظل نبكي كيف ضاعت قرطبة ستظل تنحدر الدموع من الجفون المتعبة تتمزق الأحلام والكلمات صارت مجدبة كانت هنالك في زمان المجد جد مرحبة في البدء ترفل في النعيم وفي النهاية مسبغة وتشاء إرادة الخالق أن تكون خاتمته بقصائد كتبها فرحا بقيام ثورة52 يناير إذ لم تحل آلام المرض بينه وبين مشاركة بني وطنه فرحة التحرر من كابوس الاستبداد, يقول في قصيدته وفي لحظة فتح المجد بابا التي أهداها لثورة52 يناير وشهدائها: وفي لحظة فتح المجد بابا.. وأيقظ شعبا يئن اكتئابا كما انفجر الموت بعد جفاف.. كما اندفع النيل يروي الهضابا رأينا الجماهير تكسر قيدا.. وتأسو جراحا وتنهي عذابا لقد زحفت تسترد قواها.. وقد حطمت في الطريق صعابا ونحن إذ نودع محمد عبدالعزيز شنب جسدا, نبقيه معنا في القلوب شاعرا مبدعا وأخا وصديقا وفيا, وكلي أمل أن يشاركنا اتحاد الكتاب الذي كان شاعرنا من أعضائه أو المجلس الأعلي للثقافة الاحتفاء به عبر تنظيم احتفالية لهذا الشاعر الكبير الذي لم ينل حقه من التقدير.