انتقلت, بعون من الله ومشيئته, من حجرة المكتب إلي الصالة, حيث عبرتها إلي الحجرة الكبري ودخلت من الباب. ضغطت الزر وأشعلت النور, وتجاوزت الدولابين الصغيرين بخشبهما الاصفر. وجلست علي حافة السرير المنصوب في هذه الناحية, وهناك كان السرير المشابه منصوبا هو الآخر, لقد خلت هذه الحجرة الآن من الولدين, إلا أن أمهما تغير الملاءات وتفتح الدولابين, تنظر فيهما قليلا, ثم تخرج. كان سبب جلوسي هو التطلع الي الكراتين الممتلئة بالكتب ( نحو 150 كرتونة) والمكومة عاليا من الجانب الأيسر من المكان, قانون الايجار الجديد يجعلك مثل رجل يجلس وهو يهم بالقيام, اي يقعد طيلة السكني نصف قعدة, وليس معقولا ان تعد ارففا وتفرغ كراتين كتبك التي قضيت عمرك تجمعها وترصها علي ارفف, لتقوم بعد ذلك تلمها وتعيدها الي الكراتين وتحملها الي مسكن آخر.. وهكذا.. سبع سنوات منذ انتقلت من إمبابة والحال هكذا. في زياراتي شبه اليومية لهذه الكراتين التي ساءت حالها كنت افاجأ بكتاب انزلق من كرتونة مجهولة واستقر هنا أو هناك, غالبا ما يثير في خاطري ذكريات قديمة وعزيزة, غالبا ايضا ما يجعلني في دهشة من أسباب احتفاظي به حتي الآن. المهم انني قمت أقترب ولاحظت ان الشريط اللاصق لحواف احدي الكراتين قد انخلع طرفه وتدلي جانبا, نزعته كاملا وفتحت حافتها وهي محشورة وملت أنظر, عرفته فورا ما أن لمحت كعبه الأحمر الممتلئ, انه الكتاب الكبير دكتور زيفاجو لصاحبه السيد بوريس باسترناك 1890 - 1960 خلصته من مكانه, وعدت الي حافة الفراش. كانت هذه هي الطبعة الأولي من الترجمة التي نشرتها نخبة من الأدباء العرب في عام 1959 وهو العام التالي لحصول صاحبها علي نوبل عام (1958) بعدما هرب خارجا إلي الخارج حيث لم يتمكن من نشرها في وطنه بسبب هجومها علي النظام الشيوعي. ونحن تحمسنا هنا بشدة للرواية التي احتفي بها الغرب بينما هاجمها كل نقاد الاتحاد السوفيتي, من دون أن تتاح لهم, غالبا فرصة قراءتها في ترجمتها الأجنبية, ومما زاد من تعاطفنا مع الكاتب هو اضطراره للاعتذار عن قبول الجائزة, وأنه امضي العامين الأخيرين من حياتها محاصرا ومقهورا. ( رحل 1960). بقي أن الرواية (630 صفحة من القطع الكبير) ذيلت بالديوان الذي وضعه باسترناك تحت عنوان قصائد يوري زيفاجو ولم يسمح بنشرها في الاتحاد السوفيتي إلا عام 89 بعد قيام البيريستوريكا. أذكر الآن, بعد أقل من أربعين عاما علي قراءتها, أن الرواية كانت تتمتع باستهلال شديد الحيوية والتأثير رحنا نتدارسه في حجرة صديقنا الراحل ضياء الشرقاوي, واليك المشهد. راحوا في سيرهم يرتلون (الراحة الأبدية) وحين كانوا يتوقفون بدت أقدامهم, وجيادهم, وهبات الريح, كأنها تردد انشادهم,وأخلي المارون الطريق للموكب, ثم رسموا اشارة الصليب علي صدورهم, وتساءل بعضهم, بدافع حب الاستطلاع: من الذي يدفن؟ فأجيبوا: (زيفاجو) أوه. زيفاجو ليس هو بل زوجته حسنا لا فرق لترقد روحها بسلالم انها جنازة جميلة وانسابت الدقائق واحدة تلو الأخري, دون رجعة, وردد الكاهن وهو يرسم شارة الصليب وينثر التراب فوق جسم ماريا نيكلولايفنا: له الارض وما فوقها, الارض وما فيها وجرت بعد ذلك حركات مهيبة, فأقفل التابوت ثم دقت المسامير, وأنزل إلي الحفرة وتهاوي التراب فوق الغطاء, فيما كانت أربعة معاول تردم القبر علي عجل, وارتفعت تلة صغيرة, وتسلق عليها طفل في العاشرة من عمره, وكانت حالة الذهول وتبلد الشعور هي وحدها التي دلت علي أنه أراد أن يقول شيئا فوق ضريح أمه ورفع رأسه وسرح نظره, من المرتفع الذي وقف عليه, في الطبيعة التي عراها الخريف, وغطي الطفل وجهه بيديه وأجهش بالبكاء. كنا نتدارس, بعدما انتهينا من الرواية, هذا الاستهلال الذي رسم حدود ومناخات العالم الذي شب فيه (يوري زيفاجو) حتي انتهت حياته الطويلة شديدة القسوة, طبيبا يغادر الحافلة ويمشي ليلفظ أنفاسه ويعثر عليه إلي جوار الرصيف. كنا نقارن كيف رسم مشهدي الاستهلال ولنهاية ونظن أنهما علمانا الكثير, وقد حقق الامريكي (دافيد لين) فيلما كبيرا عن الرواية لعب فيه المصري عمر الشريف أهم أدواره تقريبا: (دكتور زيفاجو) وحقق ذيوعا ونجاحا كبيرين. رحت أقلب صفحات الكتاب إذن وأشمها بحرص بعدما جفت وتبدل لونها وصارت عشرية أكثر وأوشكت كل واحدة أن تضيق بالأخري وأنا مازلت مكاني علي حافة السرير الضيق, وتذكرت سوفيتيا كبيرا آخر يدعي بوستوفسكي (صاحب الوردة الذهبية) كان قال: ان ما يجري مع الكتب أشبه بما يجري مع أشجار الليمون التي لانشم رائحتها إلا من مسافة بعيدة كما لو كانت الشجرة محاطة بسياج من رائحتها, ولست أعرف السبب الذي تقصده الطبيعة من هذا, ولكن لايسعني إلا التفكير في أن الآدب الجدير بالصيت الحسن يشبه أزهار الليمون, يحتاج إلي بلاد بعيدة, وإلي وقت طويل لكي يحظي بالتفريط ولكي تقدر قوته الحقيقية, ودرجة كمالته ورسالته. الآن أقوم واقفا بعدما جلست كفاية, لن أعيد الكتاب, طبعا, إلي الكرتونة هكذا فكرت وأنا أمد يدي إلي زر النور أغلقه ورائي وأغادر. المزيد من مقالات إبراهيم اصلان