كثيرون يهجرون أوطانهم ومبادئهم وثقافتهم دون أن يثير ذلك اهتمام أحد. وكثيرون أيضا يتحولون عن ديانتهم إلي أخري ولا يكون في ذلك خبر مثير للآخرين. وهناك من ينحدر إلي الهاوية ويسقط في مستنقع الخيانة وهذا ليس نادرا. ولكن عندما يكون هذا المهاجر المرتد الجاسوس هو مصعب حسن يوسف ابن أحد قياديي ومؤسسي حركة حماس الفلسطينية, فإن القصة تستحق الاهتمام وتستحق أن تروي حتي لو لم تكن تستحق الفخر بالطبع. غير أن مصعب يفخر بما فعل ويجاهر به حاليا من مهجره في ولاية كاليفورنيا الأمريكية حيث انتهي به المطاف بعد هروبه من الضفة الغربية عام2007. خلال الأسبوع الماضي أصبح مصعب محور اهتمام واحتفاء الإعلام الإسرائيلي والأمريكي بعد أن كشفت صحيفة هاآرتس الإسرائيلية قصة تجنيده لمصلحة جهاز التجسس الداخلي الشين بيت أو الشاباك الذي زرعه في قلب حماس. وبسبب قربه من قيادات الحركة بحكم انتمائه العائلي كما تقول الصحيفة نجح علي مدي عشر سنوات في تزويد إسرائيل بمعلومات لا تقدر بثمن أسفرت عن اعتقال العشرات من قادة الفصائل الفلسطينية واحباط كثير من الهجمات وهي خدمات قدمها مجانا كما يقول, وكما أكدت الصحيفة, نقلا عن مسئولي الشاباك الذين اطلقوا عليه اسما حركيا خلال فترة خدمته هو الأمير الأخضر. القصة كلها سجلها مصعب أو جوزيف كما يناديه أصدقاؤه في الكنيسة الانجليكية التي يتعلم فيها الآن في كاليفورنيا بين ضفتي كتاب يحوي تفاصيل حياته المثيرة والخطيرة والمضطربة بعنوان ابن حماس. بداية القصة تعود إلي سنوات ليست بعيدة فعمر هذا الشاب وهو من مواليد رام الله لا يتجاوز32 عاما, وهو الابن الأكبر للشيخ حسن يوسف أحد أكثر قادة حماس شهرة ونفوذا في الضفة والمعتقل حاليا في السجون الإسرائيلية وانتخب عضوا في البرلمان الفلسطيني عام2006 وهو في المعتقل. قبل الحديث عن بداية التحول في حياة هذا الابن العاق, كما أطلقت عليه الصحف الفلسطينية لابد من الإشارة إلي أن الانقلابين الكبيرين في حياته وهما التحول إلي المسيحية والتجسس لإسرائيل بدوا مبكرا جدا وهو في العشرينيات من عمره, وبينما ظل سر تجنيدة للشاباك طي الكتمان حتي نهاية الأسبوع الماضي فإن خبر تنصيره أصبح معروفا قبل ذلك بعام تقريبا, ولم يكتف مصعب بإعلانه بل اعتاد أن يشن هجوما حادا علي الإسلام يصل في أحيان كثيرة إلي التطاول مرددا معلومات مغلوطة تنم عن جهل وتشوش فكري واضحين. ومن الطبيعي أن تتلقف قصة مصعب العديد من المنظمات اليهودية والتبشيرية واليمينية المتطرفة في أمريكا وغيرها كما تقوم الدعاية الإسرائيلية بتسويقه باعتباره واحدا من انجازاتها الاستخباراتية. وإذا كانت تلك الجهات تعتبره بطلا حقيقيا فإننا لا نري في حياته سوي قصة عميل يوجد مثله الكثيرون من ذوي النفوس الضعيفة في كل الشعوب. ذلك أنه لم يخن حماس التي يحق له بالطبع أن يكرهها أو ينتقم منها, ولكنه خان وطنه وتعاون مع سلطات الاحتلال ضد أبناء شعبه. يفتخر مصعب بأنه أنقذ حياة إسرائيليين كثيرين من خلال العمليات التي أسهم في احباطها ولكنه لم يدن أبدا القتل الإسرائيلي للمدنيين الفلسطينيين. عاش مصعب طفولته مثل أي فلسطيني يتجرع المهانة اليومية للاحتلال عند الحواجز وفي مؤسسات التعليم والشوارع وكل مكان يذهب إليه. لم يكن هناك ما يعذبه أكثر من هذا الذل الدائم إلا الصراع الداخلي بين المنظمات الفلسطينية, كل المؤشرات كانت تقول إنه في سبيله لأن يصبح أحد قادة حماس بحكم التوجه والنشأة والوراثة. وبالفعل قطع أولي خطواته علي هذا الطريق غير أن اعتقاله أوقف مسيرته. تجربة السجن الإسرائيلي التي تعرض لها وهو في الثامنة عشرة من عمره تركت شرخا كبيرا في شخصيته الهشة تطور بعد ذلك إلي انهيار كامل لكل قوي المقاومة والصمود داخله. تهاوت مبادئه وأفكاره ومعتقداته, كفر بكل شيء.. خرج إنسانا آخر. ما حدث يرويه بنفسه في أحد أحاديثه التليفزيونية.. يقول: نشأت أكره الاحتلال كغيري وشاركت في الانتفاضة الأولي. صمت رمضان وعمري5 سنوات. لم أكن قد علمت أن أبي من مؤسسي حماس. في المدرسة الثانوية أصبحت رئيس الكتلة الإسلامية وتابعت معارك فتح وحماس. تعرضت لضرب وحشي علي أيدي القوات الإسرائيلية التي اعتقلتني وعمري18 عاما بسبب توجهاتي الإسلامية. كنت أتصور أن قادة حماس طيبون مثل أبي حتي عرفتهم علي حقيقتهم في السجن حيث بدأت رحلة الصحوة. صدمتي كانت مروعة عندما وجدت أن معتقلي حماس يعذبون المعتقلين الآخرين معهم للاشتباه في تعاونهم مع إسرائيل, التعذيب كان وحشيا طوال الليل كنت أسمع الصراخ لمدة عام كامل قضيته في المعتقل. خدمات مجانية لا يمل مصعب من الكلام لوسائل الإعلام فهو يعتبر أن الحديث عن تجربته واجب ديني, ويتحدث كثيرا عن الإسلام والمسيحية وحماس والسلام, وحديثه يأتي معادا ومكررا ومليئا بالتناقضات والأفكار الخيالية, وبالطبع محاولة مستميتة لإضفاء الشرعية علي كل ما قام به, لكن مافعله, وليس ما يقوله الآن, هو ما يهمنا أكثر. أي تلك الخدمات التي قدمها لإسرائيل مجانا كما يقول. فهو لم يتقاض أجرا عنها لأن دوافعه كانت فكرية وعقائدية. في التقرير الذي نشرته هاآرتس عنه الأسبوع الماضي ذكرت بعض تفاصيل تلك الخدمات منها المساهمة في اعتقال قياديين مهمين مثل مروان البرغوثي أمين سر فتح وإبراهيم حامد القائد العسكري لحماس في الضفة وعبدالله برغوثي صانع متفجرات حماس وهو لا يمت بصلة لمروان. بالإضافة إلي اعتقال العشرات من المهاجمين وتفكيك الخلايا. كما أسهم في افشال عمليات لاغتيال الرئيس الإسرائيلي الحالي شيمون بيريز عندما كان وزيرا للخارجية, والحاخام المتطرف عوفيديا يوسف, وتقول الصحيفة إن مصعب له الفضل في إفلات والده من الاغتيال والاكتفاء بسجنه فقط. ووفقا لما تقول أيضا فإن قادة الشاباك لم يخفوا إعجابهم الشديد بهذا الأمير الأخضر الذي ظل يقدم معلوماته القيمة من1996 بصورة يومية وأبدي شجاعة وذكاء كبيرين. وقبل أيام نقلت صحيفة التايمز البريطانية أقوالا بنفس المعني عن ضابط المخابرات الإسرائيلي الذي تولي توجيه مصعب ويدعي لوئي. وقال هذا الضابط إن الكثيرين مدينون لمصعب بحياتهم دون أن يعرفوا. لا يكتفي مصعب في أحاديثه الكثيرة بالتأكيد علي وحشية حماس واستحالة الوصول إلي سلام معها. ولكنه يوجه سهامه أيضا إلي المجتمع الفلسطيني كله قائلا إنه مجتمع يقدس الموت والإرهابيين الانتحاريين,وان الثقافة الفلسطينية تري المفجر الانتحاري شهيدا ومع ذلك فهو يحب هؤلاء الناس ولكن يتمني انقاذهم من أفكارهم, والكثير من أحاديثه لا تستحق مجرد التعليق أو السرد لفرط سذاجتها وحجم الجهل والهوس الذي تشي به, وهو يعتبر أن المسلمين في ضلال وهم لا يعرفون حقيقة دينهم الذي يجب إعادة النظر به لأنه لم يعد يصلح بعد1400 سنة. والشيوخ لا يبلغونهم بحقيقة أن النبي محمد صلي الله عليه وسلم كان له50 زوجة. وترهات كثيرة علي هذا النحو. ولدي جوزيف حسن يوسف حلمان أخبر بهما هاآرتس الأول هو العودة إلي غزة مرتديا زي الوحدات الخاصة الإسرائيلية لتحرير الأسير الإسرائيلي جلعاد شاليط, وهو يبدي خوفه من أن تفرج إسرائيل عن إرهابيين فلسطينيين أسهم هو في اعتقالهم إذا قبلت صفقة لتحرير جنديها, وإذا كانت تلك الأمنية هي مهمة محدودة وعاجلة لا تحتمل التأجيل فإن حلمه الثاني يتضمن عملا طويل الأمد وهو العودة إلي فلسطين والاستقرار في رام الله مع المسيح في مملكة الرب عندما تقوم. وإلي أن يحين الوقت سيظل السيد جوزيف, مصعب سابقا, منتظرا في كاليفورنيا.