بيشوي. "بيشو"؛ هكذا ينادونه. يأتي والده وهو في نحو الستين من عمره- يومياً إلي المصحة ليزوره ويطعمه بنفسه. بيشوي؛ لم أره أبداً يأكل معنا؛ لا في فطار ولا غداء أو عشاء، وبالتالي لم أر أحداً يناوله علاجاً. عمرُه يقترب من العشرين، لكن له وجه طفل، برغم الشعر الكثيف في صدره وفوق كتفيه وظهره. طفل بعينين خضراوين، لا يطيق أي ملابس علي جسده، بما في ذلك الملابس الداخلية. معه في غرفة "القسم المميز" والذي يسمونه "الفيللا رجال"، ولد آخر، ربما يدعي "سامح"، علي ما أذكر، كان في نفس عمره، أو يكبره قليلا، لم أضبطه ولا مرة يتكلم، لكنه طوال الوقت يخرج لسانه ويدخله، ويضغط بأصابع كفيه المعاقين علي مرتبة السرير، ويقال إنه يصبح خطرا جدا عندما تنتابه حالة هياج، لكنني علي كل حال لم أره مطلقا في تلك الحالة المزعومة. بيشوي وسامح، معهما في الغرفة "المميزة" ذاتها، رجلان مسنان، قلما يبدر من أي منهما كلام، وهما لا يبرحان سريريهما إلا نادراً جداً، ويأكلان بمساعدة ممرض يغير لهما أيضا الكوافيل كلما لزم الأمر. يظل بيشوي أكثر هؤلاء الأربعة حركة، حتي عندما يحضر إليه أبوه قُرب الظهر بالطعام والحلوي. الأب المسكين يمضي خلفه بخطي أثقلها الهمُ، ويقول له في صوت يخنقه البكاء : "البس يا بني هدومك. يا بيشوي متتعبنيش معاك". هو دائما يبحث عن "ياي/ شاي"، و"أوكر/ سكر". وبعد أن يُغلَق بابُ القسم ساعة الغروب، يخرج بيشوي من غرفته ذات الأربعة أسِرة، ويقطع ممرا ضيقا يفضي إلي صالة تفصل يسار المكان عن يمينه، ويتوسطه تلفزيون لا يمكن رفع مستوي الصوت الخارج منه عن حد معين، ولهذا يفضل من يشاهدونه، المسلسلات والأفلام الأجنبية ليتمكنوا من المتابعة بقراءة الترجمة، بما أن الإدارة نزعت من الجهاز الزر الذي يرفع الصوت. لا يهتم بيشوي أصلا بالتلفزيون، وربما هو لا يهتم سوي بالبحث عن كوب شاي أو بقايا كوب شاي، أو بالأدق أي مشروب ساخن أو بارد، فيمد يده الي الكوب البلاستيكي، أو الزجاجة البلاستيكية وينتزعه أو ينتزعها من قبضة صاحبها، وهو يردد: "ياي.. أوكَر". لم يكن هناك أحد يعترض علي تلك الفعلة من بيشوي، إلا أحمد أبو الفضل؛ الذي لو قدر له أن يمكث أمام التلفزيون ليلا ونهارا، لما اعترض. كان يشخط فيه ويهم برفسه كلما اقترب منه محاولا انتزاع الزجاجة البلاستيكية التي لا تفارقه والتي قد تكون مملوءة بالماء، او بأي نوع من المياه الغازية التي يمنعه الممرضون والممرضات من الإفراط في تناولها لأنه مريض بالسكر. يتفرج أحمد أبو الفضل دائما علي التلفزيون من الوضع واقفا ولا يتوقف لحظة عن التعليق علي ما يشاهده، ويحلو له - علي ما يبدو- أن يضايق الآخرين وهم في ذروة التركيز مع ما يُعرض بتغيير المحطة فجأة. هو يحفظ أرقام جميع المحطات، ويعتبر من أقدم نزلاء المصحة، فقد سبق لي أن رأيته هنا قبل ثلاث سنوات، ولكن في القسم الأقل تميزا والذي يسمي "قسم الرجال 2". الأيام هنا مملة، ومع ذلك أحن إليها، وعندي ما يشبه اليقين بأنني سأستعيدها يوماً، وأنني حتما سأعود إلي تلك المصحة لمرة ثالثة، وقد يطول بي المقام فيها، مقارنة بالمرتين السابقتين. لكنني أري أكثر من هم مقيمون هنا متأقلمين مع الوضع، ولا يبدي أي منهم رغبة جادة في الخروج. أريد أن أقول إنه حتي لو تحدث أحدهم في مسألة أنه يريد أن يخرج، فإنه ربما لو وافقوا له علي ذلك، لتقدم برِجل وتأخر بالأخري، ثم لو عاد إلي بيته لن يتمكن من التأقلم معه، أو قد يضيق به أهلُه وزملاء العمل مجددا وبالتالي يساق مرة أخري إلي المصحة التي كانت تعرف من قبل باسم "فيلا الكوثر"، وبات ذلك الاسم مقتصرا الآن علي قسم شديد التميز يضم أثرياء المدمنين، علي ما أسمع. هنا، مَن لم تمر عليه بعدُ فترةٌ طويلة، مثل أسامة أبو النصر الذي كان يرتاح لي جدا، لأنه لم يطلب مني أبداً سيجارة، إلا وأعطيته اياها. أحيانا كنتُ أتمنع لأشاكسه، خصوصا عندما أصاب زجاج نظارته شرخ وتأخر أخوه في اصلاحها. أسامة الذي يقترب من الخمسين، مُطلَّق، وكان يعمل مندوب مبيعات لحساب إحدي شركات المناديل الورقية. لا كلام له إلا عن أمله في الخروج ليعيش مع والديه المسنين... "مش هعمل حاجة تضايقهم. هدخن وأصلي بس، وأشرب شاي، ولو أمي مش عايزاني أشرب شاي، مش هشرب". أنا بعد أن خرجت، أخبرني دكتور الشغل أنه لا يستطيع أن يعتمد "السيركويل 200" الذي كتبه دكتور المصحة لي لأن العلبة الواحدة منه ثمنها 750 جنيها. أما رئيسي في العمل، فاقترح أن ينفذ قسمُنا ملفاً عنوانه "المبدع والألم"، وقال إن الفكرة واتته من كتابة بعض الصحف عن معاناة إحدي عضوات اتحاد الكتاب من مرض نفسي فصلها عن الابداع والعالم بأسره، مع ملاحظة أن أحدا لم يتحرك ليمد لها يد العون. ألم فظيع لا تزيله مسكنات، لكن من رحمة الله أنه يأتي معي في شكل نوبة تستمر ساعة أو أكثر، ثم تتلاشي من دون أن تأخذ معها الشعور العارم بالضجر والاحباط والعجز، الي حد الاقتراب من محاولة الانتحار. في هذه المرة، كان أبو الفضل مندمجا مع إحدي حلقات "جيمس بوند"، فأحببتُ أن أمازحه بالسؤال الذي طالما سمعت آخرين يوجهونه إليه، ليخرجه بإجابته من ملل ذلك الواقع الثقيل. "بتشتغل ايه يا أحمد؟". "بشتغل محامي وقاضي وضابط ودكتور ووكيل نيابة، بس مش معايا غير الثانوية العامة بس". فجأة، ظهر بيشوي واندفع ناحية أبو الفضل لينزع الزجاجة وهو يردد: "ياااي... أوكر"، فصاح فيه الأخير: "امشي بعيد يلا. حد ياخُد الواد ده من هنا". بيشوي، يبقي أهم ما يميزه؛ من وجهة نظر الممرضة الجميلة "سهام"، أن عليه بوسة تجنن... "بيبوس حلو أوي". مقطع من نص طويل بعنوان "أيام الكوثر".