لم يكن الزي المدرسي يزعجني، كما كان يزعج أقراني، بالعكس كنت أراه جميلا يوحد بيننا حتي لا نبتعد عن بعض، وان ابتعدنا يجمعنا في حلقة التشابه مرة أخري. لن نضيع من بعضنا سنلقانا لن يغزونا آخر.. سنعرفه إن اقترب.. المختلف منبوذ في عالمنا، وفي عالمي. ولكن ما أتعبني لاحقا هو كيف مرت سنون عمري وأنا في ذلك الزي.. أرتديه فكريا وأنا قد بلغت الثلاثين من عمري.. أحاول أن أتشابه مع الجميع؛ حتي لا يفرقنا شيء ، أتغاضي عن أفكاري المخالفة لهم لأعود وأشبههم.. أتشبث بهم لأقصي درجة حتي لا أُضيعني. كيف كنت أحاول أن أشبه أبي رغم انزعاجي من طريقة معاملته لأمي.. أود أن أنصهر فيه حتي لا نختلف ونبتعد. أُقلده حينما يتكلم.. نظرة عينيه حين يصمت.. كنت أسجل شجاره مع أمي .. أختبيء في خزانتي وأترك موبايلي يلتقط أصواتهم.. أسمعهم مرتين وأبكي عدة مرات ، كان يمزقني أني لن أستطيع تدخين السجائر مثله للحساسية التي أعاني منها، كان بمثابة أول إخفاق في طريقي للمحاكاة . أصبحت أكرر ما يفعله من تذمر في وجهها دون وجه حق، وأنا أراها كل ليلة تبكي وتشكي لبارئها .. وتبتسم أن دخلت عليها الغرفة فجأة.. كثيراً ما كنت أسأل نفسي ما الذي يجبر هذا الملاك علي تحمل طباع مثل طباع أبي ؟ وبالإضافة لعدم تقديره لأي شيء تفعله.. لماذا تصمت؟ لا أدري كيف تربيت ومشاعري مختلطة بين الحنان والتسلط.. بين التسامح والكراهية ؟!! لم أستطع أن أكون مثل أمي ولا مثل أبي رغم أني طبقت ما يفعله حرفيا مع زوجتي.. حتي يظل موجودا بيننا في صورتي.. حتي نتشابه جميعا.. لكنها لم تتحمل مثل أمي وكانت تعترض علي معاملتي لها بهذا الشكل، وكانت تشتكيني لأمها وأبيها ولكن ما ضايقني حقاً هو أنها أشتكت لأمي التي ظلت توبخني علي فعلتي، كانت عيناها تحكي أكثر من فمها .. لم أستطع أن أبرر سبب فعلتي، ولن تفهم هي مقصدي من ذلك. يوم أن تعرفت علي زوجتي كانت تفتح حسابا لتودع مبلغا في البنك، وهو نفسه الذي كان يعمل به أبي، هادئة وناعمة وصوتها آسر، نظراتها التي كانت تهرب من ملاحقة عيوني لها، جعلتني أحبّها، أتمني أن أتزوجها، لم أصرح لها بمشاعري. لا أدري .. هل لأنها كانت تشبه أمي كثيراً أيام صباها - مثل الصورة التي في مكتب أبي - أغرمت بها؟ لجأتُ لأمي التي سعدت بذلك واتصلت بوالد الفتاة علي الفور وحددنا موعدا، كانت كل الخطي سهلة وتم الزواج بعد ستة أشهر. كنت أتمني أن يكون أبي بجانبي أو بجانب أمي وقت العرس.. أصدقائي كانوا يحسدونني عليها، وكان الأمر يؤرقني كثيرًا، لدرجة أني أخبرتها أن تحول حسابها لفرع آخر؛ حتي أبعدها قدر الإمكان وأتجنب كلامهم. مضت أعوام ولم أنجب. كان حلمي أن أكون أبا ولكن هذه المرة كنت سأتغير وأتمرد علي طريقة أبي معنا هكذا سألت ربي ووعدته بذلك.. أنني سأكون حنوناً كأمي، لن أقسو علي أبنائي .. لن أسمعهم شجاراً .. لن أضرب أمهم أمامهم.. ذهبنا لجميع الأطباء ولكن دون جدوي، مصيري اختلف عن مصير أبي، ولذلك لن يقلدني ابني مثلما فعلت.. ربما هي تلك الميزة في حياتي، أني لم أترك شبيها لي .. لن أترك ابنا علي هامش الحياة. لم اسأل أمي عن معاملة أبي حتي بعد ان مات، ولم أتوقع كل هذا الحزن عليه منها، لم تنزع يومًا الأسود حتي يوم فرحي، قالت مبتسمة" الأسود موضة" أمي كانت جميلة ومازلت تحتفظ بذاك الجمال والوجه الأبيض الصبوح، حتي بعد أن توفي أبي طلبها عمي للزواج، لكنها رفضت رفضاً قاطعاً. وما أدهشني هو تقدمه إليها بعد شهرين من وفاة أبي.. زوجته كانت علي قيد الحياة وتقوم بكل واجباها، وأصغر أعواما كثيرة من أمي، ورغم أنه كان مستعدا لتطليقها فور زواجه من أمي إلا أن أمي حسمت الأمر. لم أتدخل أنا؛ لعلمي بأنها ستفعل الصحيح دومًا. زوجتي عندما علمت بالأمر كانت ردة فعلها مثيرة للعجب، صدمت حينما قالت لو كنت مكانها لوافقت علي الفور..لو كان أبي حيا لتغيرت معاملته لأمي خاصة لو علم موقفها مع عمي.. ولكني استمررت في معاملتي لزوجتي بنفس الطريقة رغم أنني ليس لدي أخ!