غرام بالتفاصيل. وانحياز لجانب تم إسقاطه من حسابات الأنظمة الحاكمة المتعاقبة. مشاهد حقيقية لأناس حقيقيين من لحم ودم يعيشون علي هامش الحياة. تلك هي السمات الغالبة علي رواية عمرو العادلي الجديدة "رحلة العائلة غير المقدسة". تفاصيل التقطها بعين ماهرة وصاغها في 264 صفحة من القطع المتوسط، غاص وتوغل في أدق تفاصيل عائلة تعيش حياة أشبه بالموت، راضية بالقليل الذي حازته، وباحثة طوال الوقت عن أسباب للرضا. عمرو العادلي كاتب وباحث في علم اجتماع الأدب صدرت له ثلاث مجموعات قصصية: خبز أسود، وجوابات للسما، وحكاية يوسف إدريس، وثلاث روايات: إغواء يوسف، وكتالوج شندلر، والزيارة. و"رحلة العائلة غير المقدسة" هي روايته الرابعة هنا يكشف عن جوانب أخري لها. البعض يري أن الرواية مغرقة في التفاصيل.. أنا مهتم بالتفاصيل في كتاباتي كلها منذ البدايات. ولكن هذه الرواية مختلفة فقد يختلف استيعاب التفاصيل فيها وتفسيرها من كاتب لآخر، فهناك من يري أن من الجيد تصوير كل ما تقع عليه عينه أثناء كتابة الرواية، وأنا لا أؤيد ذلك وأراه إسهاباً يتعلق بقدرة الكاتب علي السرد ولا أراه ممتعاً للقاريء لأن التفاصيل يجب أن تكون متعلقة بالموضوع وفي "رحلة العائلة غير المقدسة" هناك مشهد هدم المنزل الذي كانت تسكنه العائلة، وكان عليّ أن أذكر جميع تفاصيل المنزل بعد عملية الهدم لأن هذا هو ما تبقي منه وهذا الوصف يفوق في أهميته وصف المنزل كما جاء في بداية الرواية عندما كان قائماً، والرواية وصفية بالمقام الأول وإذا أغفلنا الوصف فلا وجود للرواية، شريطة أن يأتي هذا الوصف خادماً للأحداث وممتعاً للقاريء. ما الذي أردت أن تشير إليه من خلال شخصية عيشة؟ اتفق واختلف معي كثيرون حول شخصيات الرواية إلا شخصية "عيشة" التي اتفق جميع قراء الرواية وكذلك الدراسات التي كتبت بشأنها علي أنها تشبه شخصية "فاطمة تعلبة" في رواية "الوتد" للراحل خيري شلبي، ولكني لا أري ذلك فقد أردت أن تكون شخصية مصرية حقيقية فقط، وأردت أثناء الكتابة أن أجعل كل من يقرأ شخصية "عيشة " يقول أن هذه هي الأم المصرية بكامل تفاصيلها ومعانيها، التي رغم سوداوية ما تعيشه إلا أنها تحاول بشتي الطرق أن تزيل البقع السوداء من كل صفحة تقرؤها في روايتها الخاصة التي تحيا أحداثها بشكل يومي. رجل شارك في حرب أكتوبر وكان من المقاتلين في معركة الدفرسوار ووصل به الحال إلي عامل سويتش يتقاضي مليمات لا يقوي بها علي مواجهة سيل الحياة الجارف وتتركه الدولة دون أن تمد له يداً أو تلقي إليه بالاً..كانت هذه هي شخصية الزوج كما كتبتها، الواضح أن في الحكاية إسقاطا ما علي الواقع؟ هذا سؤال في غاية الأهمية ويحيلنا بدوره إلي إحدي القصص التي كتبتها، وهي قصة حقيقية، وكانت تدور أحداثها حول تكريم عامل بوفيه فقد ساقه في الحرب ولم تستطع الدولة إلا أن تضعه في وظيفة عامل بوفيه يصعد السلم وينزله مرات ومرات كل يوم في سبيل خدمة الموظفين الذين لم يشتركوا في الحرب ولم تبتر لهم ساق كما حدث له، وهذه التفاصيل تتشابه كثيراً مع شخصية الزوج في "رحلة العائلة غير المقدسة" وأردت أن أشير إلي أن من يكد ويكدح في بلادنا لا يتم تقديره كما ينبغي في حين يحظي المترفون المنعمون بالتقدير والحياة الهانئة. تلك الشريحة التي سلطت عليها الضوء موجودة بيننا وحية ترزق وما هذه الأسرة إلا نموذج لشريحة كبيرة من المصريين تكاد تصل نسبتها إلي الأربعين بالمائة. زادت عدد الروايات بعد ثورة يناير بشكل ملحوظ كيف تقيم تلك الظاهرة؟ رأيي في الكتابة الجديدة لا يطرب آذان من يسمعونه من أصحاب الأقلام الجديدة لذلك دعني أضع رأيي في نطاق العمومية. هناك كتاب يملأون الدنيا ضجيجاً وإن طلبت منهم كتابة موضوع تعبير عن عيد الأم سوف يرسبون الكتابة بالأساس هي تعبير عن طريق اللغة وأغلب هذه الكتابات تحفل بشخصيات تقع خارج حدود الواقع الملموس، وأحياناً تكون هناك تفصيلات مأخوذة بطريقة "القص واللزق" من روايات أجنبية وواقعنا الخاص لا علاقة له بالمسوخ والمتحولين وهذه الشخصيات بعيدة كل البعد عن ثقافتنا. هناك أيضاً الحوار داخل الرواية الذي يعتبر عنصر كسر للسرد ويجب أن يأتي متسقاً ومناسباً للشخصية ولا يعقل أن نقرأ رواية يمتد الحوار بها لأكثر من خمس صفحات.هذا غير منطقي وغير مقبول وإذا لم يأتِ الحوار خادماً للموضوع وممتعاً للقاريء فلا فائدة تُرجي منه . إذن..هل يكون ذلك هو الدافع الذي يقود بعض الأقلام الجديدة إلي الكتابة بلغة بسيطة كي تصل إلي القاريء؟ أغلب من يكتبون الكتابة الجديدة يكتبون بلغة بسيطة أقرب ما تكون إلي السطحية يقرأها بسطاء سطحيون أيضاً ويتم اعتبار ذلك نوعاً من أنواع الثقافة وأنا أرفض هذا الرأي بالكلية، فالعمل البسيط المتواضع لن يقرؤه إلا شخص متواضع فكرياً وبالتالي تكون المحصلة النهائية لا شيء، ومن يري أنه يكفي اجتذاب القارئ نحو القراءة حتي ولو كانت سطحية ومتواضعة في عرض الأفكار ولكني لا أجد نفعاً في ذلك، لأن العرض الخاطيء للأفكار يؤدي إلي رؤية مشوشة وحصيلة معلوماتية واهية. الروائي بهاء طاهر صاغ وجهة نظره حول ماهية المثقف وقال إن "المثقف معلم للسلطة".. كيف تراه أنت؟ أري أن الواقع الثقافي في مصر يكاد ينحصر في شريحة لا تتخطي نسبة الواحد بالمائة من الواقع الفعلي بدليل أن هؤلاء ممن يطلق عليهم لفظ المثقفين يظهرون علي الفضائيات ويتقعرون في الكلام فينفر منهم المشاهدون، ولا يراهم أحد سوي بعض الأقارب والأصدقاء من قبيل المجاملة ليس إلا، وأحياناً تراهم علي صفحات بعض الجرائد الثقافية التي لا يقرؤها إلا المثقفون أيضاً فهم يقرؤون لبعضهم البعض، كما أننا نعلم جيداً كيف يظهر هذا النوع من المثقفين علي تلك الفضائيات. كيف؟ يأتي الكاتب الذي لديه هوس الظهور علي الفضائيات ويرسل تلخيصا لكتابه إلي مذيع المحطة ويتم الاتفاق ويظهر أمام الناس ظناً منه أن هناك من ينتظره والواقع أن من يشاهده هم بالأساس أناس يعرفونه ويعرفهم.