مفاجأة بشأن موقف إيران من الهجوم الإسرائيلي المقابل على أصفهان    الحكومة تنفي عودة عمل الموظفين يوم الأحد بنظام ال"أون لاين" من المنزل    نقابة المهن التمثيلية: "ننعى ببالغ الأسي وفاة الفنان صلاح السعدني"    بالصور.. محافظ المنوفية يفتتح مسجد "الجامع الشرقي" بعد تطويره بالجهود الذاتية    رئيس بعثة الأهلي يشكر السفير ويشيد بجهود السفارة المصرية في الكونغو    الأهلي يواجه أويلرز الأوغندي في أول لقاءاته ببطولة ال«Bal»    كاسيميرو: ساورتني الشكوك حول رحيلي عن ريال مدريد عند بكاء أنشيلوتي    انخفاض جديد في سعر جرام الذهب عيار 21 بمنتصف التعاملات.. كم يسجل الآن؟    ضبط شخصين بتهمة تصنيع المخدرات في الجيزة    ضبط عاطل متهم بالتنقيب عن الآثار أسفل مسكنه في القاهرة    "مدير مشروع قوى عاملة مصر"يطالب بإفساح المجال لطلاب المدارس التطبيقية للالتحاق بالجامعات التكنولوجية    ضبط عاطلين بتهمة الاتجار في المواد المخدرة بالإسكندرية    الداخلية تكشف حقيقة سرقة أحد المبانى التابعة لإحدى محطات القطار بالإسكندرية    «معيط» من واشنطن: منظومة التأمين الصحي تستهدف حماية كل أفراد الأسرة المصرية    رئيس الوزراء يستعرض تقريرا حول خطة وزارة الثقافة لتفعيل مخرجات الحوار الوطنيّ    "أساليب جديدة مُتعددة التخصصات في المُمارسة الأثرية" تدريب من منحة اليونسكو في بولندا    دعاء يوم الجمعة مكتوب.. «اللهمّ افتح لنا خزائن رحمتك»    196 عمارة بمدينة بدر لسكن موظفى العاصمة الإدارية بنسبة تنفيذ 98.5%    اتفاقية بين تيدا وشين فنج لإنتاج ألياف البوليستر والفايبر جلاس باقتصادية قناة السويس    نجمة يد الأهلي: هدفنا الفوز بكأس الكؤوس.. ومواجهة بريميرو صعبة    "الانتداب البريطاني انتهى".. رسائل نارية من محمود عاشور لبيريرا    بمشاركة وزير الشباب.. الجامعة البريطانية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي يطلقان أكبر ماراثون رياضي    قانون التأمين الموحد وموازنة وخطة 24/ 25 على مائدة مجلس النواب.. ووزيرا المالية والتخطيط يعرضان البيان المالى للموازنة والخطة الإثنين.. وخطة النواب: 5.2 تريليون جنيه إيرادات متوقعة بمشروع الموازنة    توريد 799 طن قمح لصوامع وشون القليوبية وحصاد 15 ألف فدان    هل الخميس المقبل إجازة رسمية؟.. الموعد الرسمي لعطلة عيد تحرير سيناء 2024    وزير الخارجية يعقد جلسة مشاورات سياسية مع نظيرته الجنوب إفريقية    CNN: إسرائيل تحتاج لدعم كبير من الحلفاء للدخول في حرب شاملة بالشرق الأوسط    إلغاء تحليق رحلات البالون الطائر بالبر الغربى لشدة الرياح صباحا بسماء الأقصر    بولندا تعلن إقلاع مقاتلات لتأمين مجالها الجوى خلال هجوم روسى على أوكرانيا    القاهرة الإخبارية: الضربة الإسرائيلية رسالة لإيران في عقر دارها    تحطم طائرة عسكرية روسية ومصرع أحد أفراد طاقمها    10 مايو.. تامر عاشور والعسيلي بحفل شم النسيم    رئيس جامعة القاهرة يستعرض تقريرًا عن تقدم تخصص الصيدلة في تصنيف QS الإنجليزي    أعراض التهاب الجيوب الأنفية على العيون.. تعرف عليها    تعرف على موعد إجازة شم النسيم 2024 وعدد الإجازات المتبقية للمدارس في إبريل ومايو    قافلة طبية مجانية لفحص وعلاج أهالي «سيدى شبيب» شرق مطروح.. السبت المقبل    ارتفاع أسعار الدواجن اليوم الجمعة في الأسواق (موقع رسمي)    "الزمالك مش أول مرة يكسب الأهلي".. إبراهيم سعيد يهاجم عمرو الجنايني    ميرنا نور الدين تخطف الأنظار بفستان قصير.. والجمهور يغازلها (صورة)    مخرج «العتاولة» عن مصطفي أبوسريع :«كوميديان مهم والناس بتغني المال الحلال من أول رمضان»    ألونسو: مواجهة ريال مدريد وبايرن ميونخ ستكون مثيرة    20 مدرسة فندقية تشارك في تشغيل 9 فنادق وكفر الشيخ وبورسعيد في المقدمة    أزمة نفسية.. تفاصيل إنهاء فتاة حياتها بحبة الغلة في أوسيم    طلب إحاطة لوزير الصحة بشأن استمرار نقص أدوية الأمراض المزمنة ولبن الأطفال    وزير المالية يعرض بيان الموازنة العامة الجديدة لعام 2024 /2025 أمام «النواب» الإثنين المقبل    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 19 أبريل 2024.. «الدلو» يشعر بصحة جيدة وخسائر مادية تنتظر «السرطان»    «التوعوية بأهمية تقنيات الذكاء الاصطناعي لذوي الهمم».. أبرز توصيات مؤتمر "تربية قناة السويس"    حرب السودان.. كلفة اقتصادية هائلة ومعاناة مستمرة    «العشرية الإصلاحية» وثوابت الدولة المصرية    أخبار الأهلي : موقف مفاجئ من كولر مع موديست قبل مباراة الأهلي ومازيمبي    شريحة منع الحمل: الوسيلة الفعالة للتنظيم الأسري وصحة المرأة    فاروق جويدة يحذر من «فوضى الفتاوى» وينتقد توزيع الجنة والنار: ليست اختصاص البشر    والد شاب يعاني من ضمور عضلات يناشد وزير الصحة علاج نجله (فيديو)    الجامعة العربية توصي مجلس الأمن بالاعتراف بمجلس الأمن وضمها لعضوية المنظمة الدولية    دعاء للمريض في ساعة استجابة يوم الجمعة.. من أفضل الأوقات    سكرتير المنيا يشارك في مراسم تجليس الأنبا توماس أسقفا لدير البهنسا ببني مزار    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    دعاء الضيق: بوابة الصبر والأمل في أوقات الاختناق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أفگار ابتدائية
نشر في أخبار الأدب يوم 30 - 05 - 2015


2
‎في كل من العبارات الآتية غير المؤذية نسبيا ينبع المعني علي نحو بارز من فهم الحس العام لمفهوم البدايات : بدأ كونراد مسيرته الأدبية ب Almayers Fally تبدأ الكبرياء والهوي Pride & Preyudice بالجملة الآتية بدأ بوب Pope الكتابة في سن مبكرة كان همنجواي قبل أن يبدأ الكتابة يبري اثني عشر قلما هذا ما ينبغي أن يفعله المرء في البداية يمكن القول إن المدنية بدأت في الشرق الأدني بمجرد أن بدأ يعرف أوديت معرفة أفضل بدأ سوان يشك فيها.
‎من البداية إلي النهاية ظل فلوبير هو الفنان كما أن عبارات من قبيل في البدء كان الكلمة أو في بدايتي تكون نهايتي تنتمي إلي نسق آخر من المعني غير أنه في كلا الزمرتين من العبارات تشير تنويعات في مفهوم البداية إلي لحظة في الزمان إلي مكان أو مبدأ أو فعل كما أن هذه الإشارات بنفس الدرجة من الوضوح هي أبنية لفظية تستخدم تنويعات من المصطلح بداية بطريقة دقيقة التحديد نسبيا.
‎وهكذا يرتبط مفهوم البداية في كل حالة بفكرة الأسبقية أو الأولوية. وفي النهاية فإن الأمر شديد الأهمية هو أن البداية في كل حالة يشار إليها لكي تحدد وتوضح وتعرف زمنا أو مكانا أو فعلاً لاحقا وبإيجاز فإن الإشارة إلي بداية تتضمن أيضا علي وجه العموم الإشارة إلي قصد تال. وقد لانسهب في مثل هذا القول كل مرة ولكن حينما نشير إلي بداية رواية ما علي سبيل المثال فإننا نعني أنه من تلك البداية من حيث المبدأ تتتابع هذه الرواية أو أننا نري أن البداية هي النقطة الأولي -في الزمان أو المكان أو الفعل- من إنجاز أو سيرورة يمتلكان ديمومة ومعني ومن ثم فالبداية هي الخطوة الأولي في الانتاج القصدي للمعني.
‎وفي الفصلين الأول والثاني أصف الشروط المتعلقة بدلالة وقصد البدايات في أي أوضاع وبأي أدوات تتشكل البدايات ولأي أغراض توجه أنواع مختلفة من البدايات وأي نوع من الأذهان وأي نوع من الأعمال تميل إلي الإصرار علي أهمية البدايات وفي وصف سبق أدخل ضربا.. ثانيا من البدايات وهو ما أسميه البداية المحض -النقية الخالصة- أو اللازمة -غير المتعدية- وهي التي ليس لها قصد إلا أن تكون بداية بمعني أن تجيء أولا وفي الجزء الرئيسي من الكتاب -الفصل الثالث والرابع والخامس- أقوم بتنمية مستتبعات تلك الإلماحات المبكرة: كيف يستتبع اهتمام بالبدايات نوعا معيناً من الكتابة والفكر والمعني وكيف تنتسب البدايات بوجه عام وبوجه نوعي إلي استمراريات مختلفة وكيف أنه علي نحو حافل بالمفارقة يكون اهتمام بالبدايات في الأغلب نتيجة طبيعية لعدم الاعتقاد بأن أي بداية يمكن تحديد موضعها ويعتمد كل ذلك بطريقة مهمة في ظني علي التعميم الآتي:
‎سواء كان الاهتمام بالبدايات عمليا أو مغرقا في الطابع النظري فإن هناك رابطة حتمية تجب ملاحظها بين فكرة البداية وحاجة إنسانية أولية أصلية للإشارة إلي بداية أو تحديد موضعها.
‎ولكن كل هذه المشاريع العامة للكتاب ليس لها في هذه المرحلة إلا أهمية مخلخلة للقاريء لذلك يصبح من الضروري بالنسبة إليّ أن أناقش أولا ملابسات هذه الدراسة: فلماذا ترشح مثل هذه الدراسة نفسها لمؤلفها ولماذا جري تتبعها بهذه الطريقة علي وجه الخصوص وكيف يتم الوصول إلي أساس عقلي لها.
3
‎البدايات جذابة كمشكلة للدراسة بادئ ذي - بدء لأنه علي حين أن المرء يستطيع عزل بداية ما تحليليا فإن تصور البداية نفسه مرتبط عمليا بشبكة كاملة من العلاقات وهكذا يقع بين كلمة بداية وكلمة أصل نسق دائم التغير من المعاني معظمها بطبيعة الحال يجعل إحدي الكلمتين أولاً ثم الأخري بعد ذلك تنقل أولوية وأهمية وقوة تفسيرية أكبر.
‎وأنا أستعمل علي نحو متسق بقدر الإمكان كلمة بداية باعتبارها تمتلك المعني الأكثر فاعلية وكلمة أصل باعتبارها الأكثر سلبية وهكذا فإن س هي أصل ص علي حين أن البداية أ تؤدي إلي ب وفي الموضع المناسب آمل أن أبين مع ذلك كيف أن أفكارا من الأصول بسبب سلبيتها تستخدم في استعمالات أعتقد أنه ينبغي تجنبها.
‎ولكن حتي هذا التمييز يبدو غليظا نسبيا عندما يتأمل المرء عدد الكلمات والأفكار في الفكر والكتابة المتداولين التي تحوم حول مفهوم البدايات: تجديد جدة ابتكارية -أصالة- ثورة تغير مواضعة تقليد فترة سلطة -حجية- تأثير - ولم نذكر إلا القليل وهي في مجموعها تصف المجال الفسيح نسبيا الذي تقع فيه هذه الدراسة ولا ينبغي أن يثير ذلك الدهشة لأن معظم الكتابة قد وضعت هذه التصورات في الذهن إلا أنني مهتم اهتماما محوريا بما يحدث حينما يشرع المرء بوعي ليخبر أو...
‎ في علي سبيل المثال أصول التراجيديا اليونانية بداية الوعي وهكذا إلي ما لا نهاية أو ليعرف ما تستتبعه بداية ما وخصوصا فيما يتعلق بالمعني الذي ينتج نتيجة لبداية معطاة.
‎وحينما أصبحت في أول الأمر مهتما بالبدايات منذ سنوات استرعت انتباهي بعض المشاكل باعتبارها من حيث الأساس تشكل المأزق المهني للكاتب المهتم بالنقد الأدبي كيف ينبغي أن يبدأ الكتابة؟ ثم اكتشفت أن ذلك السؤال يخفي أربعة أسئلة أخري علي الأقل:
‎1- بعد أي تدريب يبدأ المرء في الكتابة؟
‎2- بأي موضوع في الذهن يبدأ المرء في الكتابة؟
‎3- ما هي نقطة انطلاق الكتابة - اتجاه جديد أو نقطة تواصل نقاطا قديمة؟
‎4- هل هناك بداية ممتازة للدراسة الأدبية أي بداية مناسبة أو مهمة بشكل خاص - تكون مختلفة تماما عن بداية تاريخية أو سيكولوجية أو ثقافية.
‎وكل سؤال من هذه الأسئلة يصطدم بالكاتب اليوم ومن الواضح لي الآن أن ما تمثله ليس بأي حال مقصورا علي قضية مهنية بل إن كلا من هذه الأسئلة بالأحري يستتبع قضايا نظرية وعملية بنفس القدر.
‎ولنفحص التعليم العام الذي يجلبه فرد ما إلي النقد الأدبي اليوم فمهما تكن الأشياء الأخري التي تدرب عليها لن يكون هذا التدريب بما يشبه اليقين علي فقه اللغة الكلاسيكي وهو التخصص المحدد في أوروبا وأمريكا الذي كان من الناحية العملية متطلبا بصرامة وبشكل تام de rigeur للدارس الأدبي حتي الحرب العالمية الثانية فدراسة الأدب في الجامعة كانت تعتبر امتيازا يكسبه الدارس حينما يلم بفقه اللغة الكلاسيكي ببعض التفصيل وكذلك بمبادئ دراسة النصوص التي قننتها سنوات من الممارسة ولم تعد لذلك مفتوحة أمام التفسير الذاتي. وتقص الذكريات المنشورة لدارسين متبحرين من أمثال ليوسبيتزر Lea Spitger وإيردين بانوفسكي Erwin Panofaky وإريك أوير باخ Erich Auerbacl وإرنست روبرت كورتسيوس Erneat Robert Curtiuo وحجم الأعمال الذي أنتجه سي إس لويس C. S Lewis وأمريجو كاسترو Amerigo Coatro وفرديناند بالدنسبيرجر F.Baldensperger وتيوفيل سبويري T.Spoerri وآخرون من أمثالهم تقص حكاية تحط من شأن الباحث اليوم الذي لا يكاد يقرأ لغة أخري -ليست اللاتينية بالتأكيد- والذي يظن النص هو أحد الكتب في سلسلة ذات أغلفة ورقية.
‎لقد كان سبيتزر قادراً في سنينه الأخيرة أن يكتب مئات الصفحات عن معاني كلمات مثل وسط milieu وعرق race كما ظهرت في ست لغات وستة آداب طوال أربعة أو خمسة قرون علي نحو مكتمل لأنه قد تعلم علي يدي ميير لوبكه Meyer - Lubke أن يبحث عن أصول الكلمات وبالرغم من كل اهتمامه الميتافيزيقي بالإنسان فإن سبيتزر في مقالاته الموثوق في حجيتها يقدم كتلا ضخمة من المعلومات الدقيقة من الواضح أنه تلقاها أولا من مدرس يصفه سبيتزر بأنه عند الرجوع إلي صيغة فرنسية معينة.. سيستشهد بصيغ من البرتغالية القديمة والبرجامية الحديثة -في ايطاليا- والرومانية الماسيدونية والألمانية والسلتية واللاتينية القديمة. وما يثير الإعجاب هنا لا يقف عند نوع المعلومات التي يمتلكها بحاثة مثل سبيتزر بل يتعدي ذلك إلي حقيقة أنها معلومات متلقاة تناقلها الجيل من الجيل السابق.
‎ولا توجد فائدة كبيرة في تأمل لماذا لم يعد معظم الناس يعتبرون التعليم بمثابة إضافة حلقات إلي سلالة حاكمة تاريخية. ونحن نتوقع أن يمتلك الطالب المتدرب علي الأدب معرفة سطحية بالإنسانيات المترجمة ولكن فهما ضروريا لمعرفة أخري لشبه معرفة يفترض أنها تقع علي نحو طبيعي بحذاء الأدب وتؤثر فيه بطريقة ما إنه سيعرف الكثير عن علم النفس الفرويدي وعن الماركسية في أحد أشكالها وعن ماركيوز ونورمان أو براون Norman O.Brown ولينج Laing وما أشبه وينبغي ألا يؤخذ ذلك ببساطة علي أنه هجوم علي الدارس المعاصر أو علي إدراكه لما هو لازم. وفي الحقيقة إن مصيرنا كدارسين اليوم هو علي وجه الدقة مصير طلابنا فكم منا متمكن من فقه اللغة الكلاسيكي؟ ففي أحسن الأحوال قد تعلمنا اليونانية أو الألمانية لاجتياز امتحانات القراءة وبالنسبة إلي معظمنا كان فقه اللغات الرومانسية -المشتقة من اللاتينية كالفرنسية والإيطالية والإسبانية... إلخ- شيئا نقرأ عنه عندما نأخذ مقررات في القراءة المتسارعة للفرنسية أو الإيطالية وكان محل بيع الكتب برفوفه الكثيرة من الأعمال المترجمة -فرويد ونيتشه وبروست وهسه وبودلير- يقربنا علي نحو أوثق وأسرع من عالم المعرفة بالقياس إلي أي وسيلة أخري متاحة علي الفور. ومن المؤكد أن القليل من الطلبة اليوم يستطيعون الانتقال كما فعل بانوفسكي من جامعة إلي أخري للاستماع إلي علماء بارزين علي حين يستطيع أي أحد الانتقال بسرعة شديدة من كتاب إلي آخر من دراسة فترة أو ثقافة إلي أخري.
‎وإحدي طرق تخفيف وطأة هذا التغير وحتي تجميل حقيقة أنه قد حدث هي الاحتجاج بأن الأدب نفسه قد مر بالتغير نفسه فمن المحتمل أن يكون شاعر ينتمي إلي العصر الوسيط أو عصر النهضة أوسع تبحرا من ويليام كارلوس ويليا Willian Carlos Williamsie كما أن دارسا لتشوس Chaucer قد يعرف علي وجه العموم اللاتينية والانجليزية القديمة علي حين أن متخصصا في دي . اتش لورنس D.H. lawrence ليس في حاجة إلي ذلك وربما كان بالفعل لا يعرف ذلك ولكنني أقل اهتماما بمثل هذه العموميات من اهتمامي بحقيقة أنه إذا كان كاتب حديث مثل جويس أقل تحصيلا لتعليم منظم من ريتشارد هوكر Richard Hooker فإن الأول بكل تأكيد مزود بمعرفة أكبر مرتبة علي نحو شديد الاختلاف والمشكلة التي تواجهنا اليوم عندما ندرس جوبس أو حينما نقرأ هوكر دون تدريب في الكلاسيكيات أو الدين أو حينما نعبيء علم النفس في دراسة نص أدبي هي مشكلة عدم الانتظام أو عدم الاستمرار. أي أن خلفية أقل وتدريبا منتظما أقل ومعلومات أقل تقنينا ونسقية تفترض قبل أن يبدأ المرء في القراءة والكتابة أو العمل. وهكذا فإن المرء حينما يبدأ في الكتابة اليوم يكون المرء بالضرورة أكثر اتصافا بصفات من يعلم نفسه بنفسه يجمع ويرتب المعرفة التي يحتاجها في سياق الإبداع. ويبدو تأثير الماضي أقل جدوي وأقرب إلي إحداث قلق كما دلل ناقدان قريبا العهد هما دبليو چيه بيت W.L. Bate إو هارولد بلوم Harold Bloom
‎لذلك قال رولان بارث Roland Barthes معيدا صياغة باشيلار Bachelard إن دراسة وإنتاج الأدب اليوم هي دراسة وانتاج تحويل التشكيل فلكي نقرأ جويس يجب أن نتتبع ضروب تحويل التشكيل تماما كما حولت قراءة جويس تحويل تشكيل المنهج التعليمي التقليدي.
‎واليوم من المسموح به بدرجة أقل أن يتخيل المرء نفسه يكتب ضمن نطاق تقليد ما حينما يكتب نقدا أدبيا. ولا يعني ذلك بحال أن كل ناقد الآن هو رجل ثورة يقوم بتدمير القانون المقر -الشريعة الأدبية- لكي يقدم بدلا منه قواعده الخاصة.
‎فالصورة الأفضل هي صورة جوّال ينتقل من مكان إلي آخر بحثا عن مادته ولكنه يظل رجلا من الناحية الأساسية بين بيوت-6-. وفي ذلك المسار فإن ما يؤخذ من مكان ينتهك في النهاية طريقته المعتادة في الوجود: فهناك دائما تبديل في ترتيب المواضع -مغايرة- مثلما نقرأ محاكاة بقلم پاوند Pound أو لويل Lowell فنحن نقرأ إعادة توزيع لأصل انجليزي سكسوني أو إيطالي يشغل حيزا خارجيا أوسع وأقل تحديدا داخل قابلية التوقع من الأصل.
‎ويجدر بنا أن نتابع إلي مدي أكبر قليلا تصورات من قبيل الخارجية والبينية فهي لا تشير إلي نوع من التلفيقية النقدية المواكبة بل تصف بالأحري تحولاً حدث في الواقع العامل للكاتب الواعي بذاته فلم يعد قادرا بسهولة أن يقبل - لأسباب كثيرة روحية أو سوسيولوجية - موضعا في متصل كان يمتد سابقا إلي الأمام والوراء في الزمان. وقد سبق أن فهم إليوت Eliot أن التقليد هو إنجاز أو منال للقلة وليس ملكا للجميع. كما أن كاتب اليوم ربما يكون أقل ارتياحا مع الحقيقة العاطلة من الزيفة حقيقة السبق والتقدم والأولية في تعارض مع دانتي علي سبيل المثال الذي كان علي وفاق مع فرچيل وربما لم يعد يستطيع أن يعرف ماذا يعني أن يقف داخل خط تسلسل -انحدار- مباشر.
‎ويبدو التاريخ والتقليد أقل قابلية للتوصيل في سرد متتابع لأن التاريخ كما يقول فوكو Foucault يظهر لنا الآن بوصفه يشمل وحدات من المسعي كبيرة جدا -تطور طرز التجارة التبدلات السكانية التحولات البطيئة في العادات الزراعية أو العقلية وما إلي ذلك- بحيث تتجاوز مدة حياة الفرد-7-. لذلك فإن المعرفة أقل تجسدا علي نحو منتظم سواء في مادة تناول مثل فقه اللغة أو في معلم مثل ميير لوبكه أو في حبكة تكشف تقليدية مثل حبكة رواية لدكنز.
‎وفضلا عن ذلك فالخارجية والبينية في الكاتب الحديث هي النتائج الحتمية لافتقار الإيمان بالعمل المحدود -المنفصل- ولكن المتكامل كلية أو لافتقاد القدرة عليه ويشعر الكاتب الحديث في الأغلب بدلا من ذلك بحافز لخلق كليات جديدة ولتعهد ميول عشوائية ولإنكار تام للحركة إلي الأمام ويرمز الخلاف التاريخي بين فيلا موفتز Wilomowitg ونيتشه بعد نشر الأخير لميلاد المأساة عام 1872 علي نحو مكتمل للتمييز الذي أقيمه-8- وفي الأساس تركز النزاع حول فكرة النص الكلاسيكي أكان واحدا في سلسلة يتعين تبجيلها وتعهدها وتنقيحها ووصفها وفق أفضل تقليد متبحر؟ أم كان بالأحري كما اعتقد نيتشه -ولكن ليس بهذه البساطة التي تصوره هنا- نصا نقش عليه كما ينقش علي لوح للكتابة كوكبة من القوي -غرائز ودوافع ورغبات وإرادات- ماتزال حاضرة في العصر الحديث وماتزال علي نحو غير ملائم محتفظة بقدرتها علي الجذب وإثارة النشوة. وبإيجاز عند فيلاموفتز كان النص نسقا من الحدود والضوابط الداخلية حافظت عليها دون مساس أجيال متعاقبة -تراث متواتر في الزمان- وعلي حين أنه عند نيتشه كان دعوة إلي ضروب تغريب لا يمكن التنبؤ بها عن المعتاد ومناسبة لرحلات غير مشروطة إلي ما أطلق عليه كونراد بدقة قلب الظلام. ويشهد وزن معظم الكتابة الحداثية المقرة في الكم وحده علي انتصار نيتشه.
‎ولأنه لا يوجد نقص في النقد الذي يعلن الانتصار فليست هناك حاجة هنا إلي تكرار تيمات في الكتابة الحديثة من قبيل العدمية والجزع والخواء أو الصمت. بيد أنني مهتم بملاحظة كيف أن هذه التيمات تعكس مأزق الناقد لا صعوبة يواجهها الأدب فالكثير من النقد الحديث باستعماله معجم الدراما الروحية الرفيعة لوصف ما هي في الواقع ضروب من الجدة النصية قد فقد الفرصة لمنافسة مادة تناوله في الابتكارية وإعادة توزيع الفضاء النصي. وأنا أعني أن أقول إن إحدي السمات المميزة الرئيسية التي يشترك فيها جويس وييتسي وكونراد وفرويد ومان ونيتشه وكل الآخرين كانت في البداية ضرورة أن يروا عملهم يرجع أولا إلي أعمال أخري ولكن أيضا إلي الواقع وإلي القاريء بواسطة التجاور وليس علي نحو تعاقبي أو سلالي فالعلاقة الحقة تكون بواسطة التجاور علي حين أن العلاقة السلالية -عن طريق عائلة حاكمة- تكاد أن تكون دائما العلاقة التي تعامل بسخرية التي يهنأ بها ويعبث بها أو ترفض. لذلك أصبح علي إنتاج المعني داخل عمل ما أن ينطلق بطرق مختلفة تماما عن ذي قبل ولو كان ذلك فحسب لأن النص نفسه يقف إلي جانب أو بجوار أو بين كتلة كل الأعمال الأخري - لا في توافق معها ولا في خط تسلسل -انحدار- منها.
‎وترد علي الذهن أمثلة توضيحية كثيرة جدا وكلها تجمع الطاقة السطحية وانقطاع الاستمرار مع اهتمام غير محتمل بالأسبقية بالماضي إن اختيار جويس للأوديسة علي سبيل المثال لا يقول: انظر إلي ما حدث للفكرة الإغريقية النبيلة حينما تهبط إلي دبلن 1904- ولكن بالأحري أوديسيوس مثل بلوم وتليماخوس مثل ديدالوس وإيثاكا مثل شارع إكلز والفصل الثامن عشر مثل الفصل الأول وهلم جرا أو خذ لا وعي فرويد وهو مفصول عن الوعي في البداية ولكنه يؤثر في الأحلام والحياة اليومية بواسطة التشويهات والمبالغات والأخطاء التي لا تنقل الكل اللا واعي وفي الحقيقة إن كل حياتنا الواعية غير متصلة بمبادئ اللا وعي في التنظيم التي بدورها تكرر وتنوع هذه القطيعة الابتدائية إلي ما لانهاية وإذا أخذنا مثلا ثالثا من الأرض الخراب لإليوت مكتملة بهوامشها وجدنا أنها مجموعة من الأصوات تكرر وتنوع وتحاكي بعضها بعضا والأدب عموما.
‎وهناك طريقة أخري لنقل فكرة التجاور هذه بالقول إن نصا ما لا تمكن قراءته قراءة فعالة باعتباره تعقيبا ولا يمكن وصفه بواسطة التعقيب فليس للنص نقطة مركزية ولا مسار مركزي: فهو لا يحاكي موضوعا مكانيا أو زمانيا وصوته أقرب إلي قلم يكتب بطريقة غير واعية أو هادفة من قناع شخصي يسرد قصصا ومن وجهة نظر الكاتب يكون النص علي الأرجح حبرا علي صفحة أو طية في ورقة أو ما يسميه مالارميه Mallarme فاصلا في القراءة un eapace de la lacture - 9- إنه طموح لا ينتهي لأن يكون نصا فالنص شيء ما يشبه علامة محض تمضي رسالة المؤلف في صناعتها ومن وجهة نظر الناقد يكون النص تحديا لتقديم برهان علي أن ما يقرؤه هناك لا يستطيع من حيث الإمكان أن يحاكي الحياة وكل كاتب مجدد كبير واع بتجديده علي وجه التقريب منذ أوسكار وايلد قد كرر إنكاره -أو حتي إدانته- لطموحات الكتابة في المحاكاة ولذلك يبدو نص ما علي نحو أكثر جوهرية مكتفيا بذاته فحسب نصا له إشكالياته المستقلة عالية التخصص بدلا من أن يكون تمثيلا لأي شيء آخر.
‎وهكذا يواجه الناقد عدم الانتظام -الشذوذ- من جميع الجوانب. ولأنه لا يستطيع أن يمتلك ملاذا مباشرا في التقليد لحل مشاكل كتاب مثل جويس ولأن مراجعة -ومراجع جويس- هي شكليات معرفة أخري تتصف بأنها بدائل مؤقتة فإن الناقد يميزه بإحكام نعت لوكاتش للرواية أي أنه وعلي نحو متعال بلا مأوي -10- فهو سيبدأ كل عمل كما لو كان مناسبة جديدة وبدايته بنفس قدر بداية أي كاتب حديث تتناول موضوعا لكي تبدأه لكي تجعله يواصل المسير لكي تخلقه. وكما أن البداية متعلقة بما يتلوها مباشرة فكذلك تتعلق أجزاء كتابته أحدها بالآخر علي نحو غير منتظم واثق منحرف عن المركز ولكن هذه العلاقات علي حين أنها تالية بمعني شديد الحرفية ليست تالية بأي معني سببي ببساطة فمثل هذه العلاقات لا يمكن رسم حدودها مثلما لا يمكن رسم حدود تعاقب الأصوات في الأرض الخراب وهي أيضا ليست تابعة علي نحو متماثل لأي نقطة مركزية ثابتة تماما كما أن قلب الظلام توقع عن عمد الخلل في أي مخطط بسيط مرتكز علي البحث أو المسعي. وفي الحقيقة سأدلل فيما بعد علي أن نظام الانطلاق من البدايات كما وصفتها لا تمكنه الإحاطة به علي نحو مطابق بواسطة أي صورة علي الإطلاق. فبينما يمكن استيعاب سيرورة كتابة رواية كلاسيكية ومسار حبكتها ضمن نطاق صورة للزمان وهو يفض أطواءه أو يتفتح كما تنتشر عائلة وتترابط أجيالها فإن الناقد في قراءته للأرض الخراب أو الأناشيد -المقطوعات- الپاوند Cantoo لا يستطيع أن يجد دعك من أن يخلق صورة يمكن وفقا لها فهم الكاتب أو موضوعه وسأدلل علي أن تأليف الكتابة الحديثة يبتعد عن ويتصارع مع أي من طرز الصور هذه ويرفضها باعتبارها لا علاقة لها بالكتابة وتحدث نفس العملية في مسلك الكاتب الحديث.
‎ويوجد هنا خطر معقول في أن يساء فهمي باعتباري أقول إن انعدام الصورة يعني بالمماثلة إنعدام قصد أو غرض محدد. فأنا أقول العكس بكل دقة. فالقصد الذي هو بدرجة كبيرة وإن لم يكن حصرا قط متعين بواسطة بداية هو طريقة لقصر عمل ما علي عنصر واحد الكتابة ومع إسقاط الثقة من التمثيل القائم علي المحاكاة يدخل العمل مملكة التاريخ القومي الشعبي إذا استخدمنا عبارة فيكو للتاريخ العلماني حيث تتفتح أمامه إمكانات غير عادية من التنوع والتغاير ولكن حيث لا يمكن إرجاعه علي نحو طبع سلس إلي فكرة تقف فوقه وتفسره-11-. وبكلمات أخري هناك فقط نسق واحد من الواقع للكتابة -وليس اثنين - فكرة/ صورة وكتابة- يشتمل علي إنتاج المعني ومنهج التأليف وتوزيع التأكيد وكذلك الميل لإحداث الأخطاء ونقاط عدم الاتساق وهلم جرا أي أننا نعتبر الأدب نسقا من التكرار لا من الأصالة Originality ولكنه نسق غريب الأطوار -منحرف عن المركز- من التكرار وليس نسقا من التماثل-12- فاللفظ تكرار مستعمل من أجل تجنب ثنائيات من قبيل الأصيل ضد المشتق أو الفكرة وتحقيقها -تنفيذها- أو النموذج/ النموذج القياسي ضد المثل ومنحرف عن المركز عبارة مستعملة لتأكيد إمكانات الاختلاف داخل نطاق التكرار ولتدل علي أن المؤلفين والأعمال والفترات والمؤثرات إن تكن تصورات تتعلق بالكتابة في حالات مخصوصة فهي في الحقيقة ألفاظ تستخدم لوصف نقاط عدم الانتظام ذات الدرجات المتفاوتة وصفات ضمن الكتابة ككل وكما أوضح فوكو فإن فكرة المؤلف تسمح بتشكيلات غير منتظمة من الكتابة مثل الثرثار The Tatler أو رابليه Rabelais ومشايع لرابليه أو فرويد وماركس ففي بعض الحالات تدل كلمة مؤلف علي بنية أو علي نوع من العمل أو أسلوب أو نوع من اللغة أو موقف أو مجموعة من الكتابات المتفرقة فهذه الكلمة مثال ممتاز للتكرار والانحراف عن المركز.
‎لذلك فإن القصد هو تصور يشتمل علي كل شيء ينتج عنه لاحقا مهما يكن الناتج غريب الأطوار ومهما تكن النتيجة غير متسقة. وأنا لا أعني من ناحية أخري أن القصد هو معادل أكثر دقة للكل totaltg -إنهما بالأحري مثل زوج المصطلحين نموذج Model ونموذج قياسي Parediganf وهما يستوعبان من أجل الاستعمال الأدبي العملي بنفس دقة استيعاب سحابة. ويجب علينا محاولة أن نكون دقيقين- وأنا أعني بالقصد ميلا عند البداية للقيام علي نحو عقلي بشيء ما بطريقة متميزة إما علي نحو واع أو غير واع ولكن علي الأقل بلغة تبدي دائما -أو دائما علي وجه التقريب- علامات مقصد الابتداء في شكل ما وتنخرط دائما هادفة في إنتاج المعني. وفيما يتعلق بعمل معين أو متن من الأعمال فإن قصد البداية ليس في الحقيقة شيئا يتعدي الشمول -الاندراج- المخلوق inCluaivemess الذي ينتج العمل داخل نطاقه.
‎ويصف ستيورات هامبشايرStuart Hampshire هذا الجهد المراوغ كما يأتي: إن أهمية كاتب سواء أكان شاعرا أو فيلسوفا أو مؤرخا وما يجعله جديرا بالدراسة الآن. بوجه عام لا يكمن علي نحو رئيسي في القصد الواعي وراء عمله بل في الطبيعة الدقيقة كما نستطيع الآن رؤيتها لا صراعات ونقاط عدم الاتساق الإبداعية الماثلة في عمله-14-.
‎وأنا أتفق تماما مع هامبشاير إلي المدي الذي يسير فيه ولكنني أختلف معه بمقدار إحجامه عن تطبيق القصد علي الصراعات ونقاط عدم الاتساق كذلك وفضلا عن ذلك أضيف أن القصد علي الرغم من صياغاته الواعية ليس أبدا غير متسق مع المنهج علي الرغم من أن القصد الواعي - ومتي كان واعيا علي نحو خالص إطلاقا؟.. كثيرا ما يكون علي خلاف مع المنهج.
‎والآن تبرز أطروحة بول دي مان Paul de Man القائلة إنه في النقد يجعل عمي النظرية نفسه فيما يتعلق بجوانب معينة من الأدب من الممكن لتلك النظرية اكتشاف أكبر الاستبصارات قيمة-15-. فالقصد إذن تبعا لمعني اللفظ بمعني هو التفاعل بين مثل هذا العمي ومثل ذلك الاستبصار وبعبارة أخري إن القصد هو الصلة بين وجهة النظر ذات الغرابة الخاصة والشواغل المشتركة.
4
‎قد حاولت حتي تلك النقطة أن أبين أن الناقد الأدبي الحديث حينما يبدأ الكتابة لا يستطيع أن يمد نفسه بأسباب الحياة داخل تقليد يرتكز علي سلالة حاكمة ولا يرجع ذلك فحسب إلي أن هذا التقليد غريب عليه بحكم التدريب والظرف ولكن أيضا إلي أن التبرؤ منه هو قصد معظم الأدب الحديث ومادة تناوله ومنهجه. لذلك يجب عليه أن يضطلع بعمله بروح المبادرة وهو أيضا يجب أن يلتمس نقطة انطلاق أكثر ملاءمة ومدار بحث Topoo مختلفا لدراسته وقد ظللت أوميء علي نحو شديد الاتساع إلي أن مثل هذا المدار هو البداية أو البدايات التي تقدم مشكلة أكثر دقة وأكثر تطلبا مما يقدمه الجديد فالبدايات تفتتح عمدا إنتاجا آخر للمعني انتاجا ينتمي إلي قومية أو شعب -في تعارضه مع انتاج مقدس- وهو -آخر- لأن هذا الانتاج في الكابة يدعي لنفسه وضعا بحذاء أعمال أخري إنه عمل آخر أكثر من كونه عملا يقع علي سلسلة انحدار من س أو ص. فالبدايات كما أتناولها تقصد هذا الاختلاف إنها أول مثل له انها تشق اتجاها علي طول الطريق.
‎لذلك فالبداية مشكلة يتعين دراستها كما أنها موقف يتخذه أي كاتب وعند الناقد تبدأ رواية ما.. كما تبدأ بالنسبة إلي الروائي الذي كتبها بقصد كتابة رواية لا مسرحية أو قصيدة.
‎وكمشكلة تبدو البدايات ممتلكة نوعا من التجريد القاتل للانفصال والاستقلال وبخلاف فكرة يفكر فيها المرء علي مبعدة منها تكون البداية أصلا مشروعا منطلقا في مساره وهناك مثلان سأرجع إليهما علي نحو دوري هما تريسترام شاندي Triatan Slandy والاستهلال Prelude وكل منهما ليس في أول الأمر إلا بداية وكل منهما يمهد لشيء آخر ومع ذلك فكل منهما يجمع قدرا كبيرا من المادة قبل أن يجتاز البداية فكيف يحدث ذلك؟ أو علي نحو أكثر دقة: إذا كان الناقد يدرس البدايات فكيف يمضي في ضم المواد من أجل دراسته؟ كيف ترتب مواده؟ أين تبدأ؟
‎وفي حالة كتابنا هذا قد بدأت كما هو ظاهر بهذا الفصل الذي يحلل ويقصد إلي ما سيجيء. ولكن في واقع الأمر فإن خطوتي الشكلية النظامية الأولي تتخذ في الفصل الثاني تأمل في البدايات التي أحب أن أتكلم هنا عنها بإيجاز هنا بعد أن اقترحت مشكلة البدايات أول مرة نفسها علي أصبح واضحا بما فيه الكفاية أن قراءتي وتدريسي تتوجه علي نحو وتزايد إلي المسألة أحيانا مباشرة وأحيانا تلميحا ولكن دائما بعبارات مسائل إضافية في ذاتها وانطلاقا من ذاتها باعتبارها أمورا تجري مواجهتها في ممارسة النقد كما بحثت عن طريقة لربطها بالقضايا الرئيسية التي تتعلق بها. وعلي سبيل المثال فإن كل دارس للأدب يتعامل بالضرورة مع الأصالة ومع الموضوع المتعلق بها الخاص بالمؤثرات والمصادر ولكن عددا ضئيلا جدا من النقاد هم الذين حاولوا علي نحو نسقي.
‎ دراسة الأصالة بلغة علمانية بالتعارض مع لغة سحرية. وقد وجدت حينئذ أن نقادا من أمثال بول فاليري Paul Valry والذين لم يكن التجريد الإبداعي أو العمومية التأملية بالنسبة إليهم عائقا أمام الفكر بل تعزيزا للفكر وإمدادا له يقدمون نوعا من الكتابة يمكن أن أتعلم منه علي نحو مباشر. إن نثر ڤاليري النقدي علي الرغم من كل رهافته خال بالفعل من النزعة الكلبية فهو لم يقاوم قط النقاء كموضوع ومع ذلك لم يحجم قط عن إخضاع النقاء لشبكة من الملابسات اقتطف فاليري معظمها من الضغوط المباشرة عليه. وفي علاقاته بليونا ردو Leonardo وما لارميه Mallarme نستطيع أن نري كيف أن ثقل الضغوط الفلسفية والثقافية الشخصية علي التوالي تؤثر فيه وكشاعر مدين لما لارميه وصديق له كان فاليري مضطرا إلي تقييم الأصالة والاشتقاق -الاكتساب- علي نحو يقول شيئا ما عن العلاقة بين شاعرين التي لا يمكن اختزالها في صيغة بسيطة وكما كانت الملابسات الفعلية ثرية وجب أن يكون الموقف مثلها وهنا مثال من خطاب حول مالارميه:
‎ ما من كلمة تأتي أيسر أو أكثر علي قلم الناقد من كلمة التأثير ولن نجد تصورا أكثر إبها ما منها وسط كل التصورات المبهمة التي تؤلف ترسانة السلاح الموهومة للجماليات ومع ذلك لا يوجد شيء في المجال النقدي ينبغي أن يكون مدعاة لاهتمام فلسفي أكبر أو يثبت أنه أكبر جدوي للتحليل من التعديل المستمر لأحد الأذهان بواسطة عمل ذهن آخر.
‎وغالبا ما يحدث أن يكتسب العمل قيمة مفردة في الذهن للآخر مؤدية إلي نتائج فعالة من المستحيل التنبؤ بها ليس من الممكن قط في حالات كثيرة تأكيدها وما نعرفه
‎بالفعل هو أن هذه الفاعلية المشتقة ضرورية للانتاج العقلي من كل الأنماط. وسواء في العلم أو الفنون إذا بحثنا عن مصدر انجاز ما لاستطعنا ملاحظة أن ما يفعله إنسان ما إما أن يكرر أو يدحض ما كان انسان آخر قد فعله يكرره في نغمات أخري يرهفه أو يوسعه أو يبسطه يشحنه أو يسرف في شحنه بالمعني أو يرده ويقلبه ويدمره وينكره ولكنه بذلك يفترضه ويكون قد استخدمه خفية. فالأضداد تتولد عن الاضداد.
‎ونحن نقول إن كاتبا يكون أصيلا حينما نعجز عن تتبع التحويلات المحتجبة التي تعرض لها الآخرون في ذهنه ونعني أن نقول أن اعتماد ما يفعله علي ما فعله الآخرون يبلغ من التعقيد وعدم الانتظام مبلغا مفرطا. وهناك أعمال تشبه أعمالا أخري وأعمال هي علي العكس من أعمال أخري ولكن هناك أيضا أعمال تكون علاقتها بانتاج أسبق شديدة التعقيد بحيث نصير مرتبكين وننسبها إلي التدخل المباشر للآلهة-16-.
‎إن فاليري يحول التأثير من فكرة غليظة عن وزن كاتب معين يتواتر في عمل كاتب آخر إلي مبدأ شامل لما يطلق عليه الانجاز المشتق وهو بعد ذلك يربط هذا المفهوم بعملية مركبة من التكرار توضحه بأمثلة مضاعفة ولذلك أثر تقديم نوع من الفضاء الثقافي نوع من الطابع الاستدلالي -الخطابي- يجري فيه امتحان التأثير. فالتكرار والإرهاف والتوسيع والشحن والإسراف في الشحن. والرد والقلب والتدمير والانكار والاستخدام الخفي مثل هذه المفاهيم تحول بالكامل فكرة حظية -مبتذلة- هي -التأثير- إلي مجال مفتوح للإمكان وڤاليري حريص علي الإقرار أن المصادفة والجهل يلعبان أدوارا مهمة في هذا المجال وأن ما لا نستطيع رؤيته أو العثور عليه كذلك ما لا نستطيع التنبؤ به - كما يقول تنتج تعقيدا وانعداما للانتظام مفرطين. وهكذا توضع حدود مجال التقصي بواسطة أمثلة تبدأ طاقتها اللاامتثالية الطافحة في حملها خارج المجال. وبعد ذلك إرهافا شديد الأهمية في كتابة ڤاليري فحتي وكتابته تلزم الصمت عن النسق الواسع للعلاقات المتناثرة في تنوع الرابطة بين الكتاب فإنه يبين أيضا كيف أعد المجال عند حدوده يقدم علاقات أخري من الصعب وصفها من داخل نطاق المجال.
‎وبتعلمي قدر ما استطعت من فاليري شرعت فيما أسميته تأملا في البدايات ولأن مدار البحث ليس تقليديا ولا معتادا فليس بإمكاني أن أعرفه علي نحو هندسي مقدما. وقد اضطلعت علي أية حال بأن أسمح له بأن يجعل نسقا من العلاقات ممكنا مجالا أو كوكبة من الدلالة تتحرك فيه كتابتي لكي تجمع في كلا الأكثر جسامة والأكثر تخلخلا من الأفكار صورا وأمثلة تزدحم حول البدايات ومنطق العرض الذي أتبعه ليس تعاقب التمهيد أي أن عرضي لا يتبع مسارا محددا مقدما بواسطة العرف والمحاكاة والتتالي أو الموضوعات. وشكل الكتابة الذي اخترته كان المقال التأملي - أولا لأنني أعتقد انني أحاول إقامة وحدة بينما أواصل الكتابة وثانياً لأنني أريد أن أدع البدايات تولد في ذهني نوع العلاقات والأشكال الأشد ملاءمة لها.
‎ولأكن أكثر صراحة. إن كل ضرب من الكتابة يقيم لنفسه قواعد لزوم -وثاقة الصلة بالموضوع- فأشياء معينة مسموح بها وأشياء أخري ليست كذلك.. وأنا أسمي قواعد اللزوم هذه سلطة -حجية- بمعني القانون الصريح والقوة الموجهة الصريحة -وهو ما نعنيه عادة باللفظ- وبمعني تلك القوة المضمرة أو الضمنية لتوليد كلمة أخري سوف تنتمي إلي الكتابة ككل. -وأصول الكلمة authority عند فيكو هي: ملكية Propsius : Property من ذاته auctor : autos : suis ipaius ومهمة التأمل الاستهلالي هو رسم تخطيط لهذه السلطة فيما يتعلق بالبدايات بواسطة السماح لها بأن تعرض بأكبر قدر ممكن من الوضوح والتفصيل وللقيام بذلك بأكبر قدر ممكن من الحرية مع الحفاظ علي الشكليات الضرورية للوضوح لم أحصر نفسي في الرواية أو الشعر ولا أدعي أي أصالة مذهلة وإلي هذا المدي بقدر الإمكان اهتممت بأعمال وشخصيات ذات ذيوع واسع. ولكن لا جدوي من البحث في هذه الصفحات عن شواهد جمعت أو رتبت بطرق معتادة.
‎وما دامت كل بداية مختلفة ومادام لا يوجد أمل في التعامل مع كل واحدة منها فإنني ارتب الأمثلة في سلاسل ليست القاعدة الداخلية لا تساقها هي منطق التعاقب البسيط ولا التماثل العشوائي وبدلا من ذلك فإنني اتبني مبدأ الترابط الذي يعمل بمعني من المعاني ضد التعاقب البسيط والمصادفة لأن موضوعا مثل البدايات هو بنية أكثر منه تاريخا ولكن هذه البنية لا يمكن رؤيتها مباشرة أو تسميتها أو الإمساك بها. وفضلا عن ذلك هناك قول رولان بارث عن البنية: في الواقع يتواطأ كل شيء ليجعل البني التي يبحث عنها المرء تبدو إما بسيطة ساذجة أو غائبة: استقامة الخطاب طبيعية الجمل التعادل الظاهر بين الدال والمدلول التحيزات المثقفة -تحيزات التأليف الشخصية أو الأسلوب تواقت المعاني الاختفاء النزق ومعاودة ظهور بعض خيوط الموضوعات وكماسبق أن قلت لا يوجد نموذج تعاقبي للاتباع وأكثر الأمور أهمية هو أنه مادام مجال الإمكانات بأكمله أمام البداية يبلغ من الرحابة والتفصيل واللاعقلانية درجة كبيرة ومادمت ابني دراستي علي ما هو قابل للاستيعاب عقلانيا فإن الروابط أو الصلات بين الخطوات في سوق الحجة ستقام تبعا لما يقره موضوع البدايات.
‎والكثير من هذا الإقرار مؤقت بل يبدو اتفاقيا في التأمل ولكن قيمته يمكن اقامتها تدريجيا في الفصول التالية وهي فصول سأمضي فيها لأجعل ترابط الأفكار أشد رسوخا وأنا أرغب في الاصرار علي أن ذلك ليس مسألة إثبات التأمل علي نحو عياني وبدرجة أقل ليس السماح للتأمل أن يسلك بوصفه نموذجا قياسيا للدراسة الامبزيقية إلا إذا تبني المرء بطريقة فضفاضة تعريف توماس كون Thonas Kuhn للفظ باعتباره اتفاقا بحثيا-18- وعندي أن المسألة هي السماح للبنية بأن تضاعف نفسها في فروع أكثر في مشروعات أعتقد أنها تجعل القص الخيالي وانتاج النصوص والنقد والتحليل وتشخيص المعرفة واللغة مثيرة للاهتمام علي وجه خاص -وفي بعض الحالات تجعلها ممكنة-.
5
‎كما ذكرنا آنفا فإن المقال الاستهلالي التأملي -الفصل الثاني- يقدم بنية ثقافية وتحليلية للبدايات بنية فضلا عن ذلك تخّول وتقصد موقفا معينا فلسفيا ومنهجيا من الكتابة. وفي الفصول الثلاثة التي أعقبت الفصل الثاني تقصيت أهمية البدايات كما بسطت في التأمل - للقص الخيالي النثري وللمشاكل التاريخية والحديثة الخاصة بإنتاج وتحديد ما يكون -في المحل الأول- نصا أدبيا وللنقد إذا فهمناه بالمعني الواسع.. وفي كل من هذه الفصول الثلاثة هناك تأكيد متساو علي ما يبدأ به العمل المدروس وعلي كيف تتضمن تلك البداية من جانب الناقد منهجية متعينة لفهم ذلك النوع من الأعمال.
‎وتأكيد ما يشكل بداية معناه بدرجة كبيرة قصد مسار متعين فلماذا وكيف تتحدد بداية ما القصد والمنهج يشتملان علي فعل مركب من المعرفة والخبرة والفن ويدرس الفصل الثالث كيف أضفت الرواية الكلاسيكية شكلا نصيا علي رؤية للبدايات اجتماعية وتاريخية وسيكولوجية بمنحي خاص: فالرواية هي المحاولة الكبري في الثقافة الأدبية الغربية لإعطاء البدايات دورا مستمرا ومؤسسا ومتخصصا في الفن والتجربة والمعرفة. ويعالج الفصل الثالث البداية والاستمرار في الرواية حتي وقت اكتشافات فرويد علي حين يتناول الفصل الرابع البدايات باعتبارها جوانب من وظيفة ما يمكن تسميته بالنص ما بعد الروائي.
‎وهنا سنري كيف بدأ النص الذي هو محل رئيسي للعثور علي البدايات أو لوضعها في معاناة عملية خاصة في الكتابة الحديثة بمجرد أن شعر الكتاب أن شكل السيرة الشخصية الذي تطلبته الرواية -واستنفدته علي نحو ما- لم يعد يستحق بذل جهودهم وأصبح النص الذي كان في الأصل نتاجا للمعرفة والفن في الكتابة بداية جهد لتحقيق المعرفة والفن خلال كتابة من نوع انتهاكي علي نحو عنيف.
‎وفي النهاية يلتقط الفصل الخامس البداية في واحد من أشد أشكالها المعاصرة جلاء وتحددا باعتبارها مشكلة عن مشاكل الطابع الخطابي أي باعتبارها مشكلة كيف يحدد المرء موضع بداية أو يشير إليها من أجل المعرفة النقدية أو عنها معرفة من نوع يأتي بعد النصوص الموصوفة في الفصل الرابع.
‎لذلك فإن الفصول الثالث والرابع والخامس تضم وحدة تتقدم فيما يشبه التسلسل الزمني فالفصل الثالث يغطي تقريبا جدا القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والفصل الرابع يغطي أواخر القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين. والفصل الخامس يغطي منتصف القرن العشرين وتهدف هذه الوحدة إلي اعتبار البدايات موضوعا للدرس بواسطة رؤية كيف أن معناها وشكلها قد تحققا قصديا ومنهجيا وتحولا بمرور الزمن.
‎وعلي الرغم من مظهر المدي والتنوع في هذه الفصول الثلاثة الطويلة فإن من الواضح أن بؤرتها تستبعد التحليل المدعم للملابسات الاجتماعية السياسية التي تؤثر في القص والنقد والنصوص عموما. وفي الواقع فكما أوضح اللغويون من همبولت Humboldt إلي مارسيل كوهن علي نحو مقنع فإن هذه الملابسات تؤثر في اللغة نفسها تأثيرا وثيقا والامتناع عن فرص هذه الملابسات هو تضحية كما يجب أن نؤكد للقاريء وليس فعلا من أفعال الكسل أو النزوة. ففي الخطاب العام يوحي ذكر بداية ما -وكذلك البدايات عموما- علي الفور بتثبيت تاريخ مفرد أو حادث مفرد وهو ممارسة - نظرا لنوع الاهتمام الحماسي بالبدايات عندي - شديدة التقييد وليس معني ذلك أنني وضعت نفسي خارج نطاق العينية والموضوعية واحتضنت الغموض أو التأمل الوهمي. إن البداية بالأحري كائن له حياته الخاصة وهي حياة لا تفسر تفسيرا كاملا بواسطة تحليلات ملابساتها التاريخية السياسية ولا يمكن حصرها في تاريخ معطي في الزمان يسمي البداية بأل التعريف.
‎فالبداية نشاط ومثل كل الأنشطة الأخري يرتبط بها مجال للفعل وعادات ذهنية وشروط يتعين تحققها ويجب دائما إعادة تأكيد أن هذه الترابطات موضوعة في الزمان والمجتمع أي بمعني أوسع أنها تقع في الزمان والمجتمع. ولكن بما أن دراسة للبدايات هي أساسا في مختلف الأحوال ستكون حول اللغة التي يستخدمها أي امريء يبدأ -أو يتكلم عن بداية- فإن الملابسات وثيقة الصلة وإن تكن قابلة للفهم هي ملابسات لغوية. وعلي حين أن هذه الملابسات لا يمكن انتزاعها من الزمان الاجتماعي التاريخي بالمعني الأوسع فإن لها تماسكا وحتي تاريخا خاصا بها وإن هذا التاريخ وهذا التماسك للبدايات هما ما يعنيني هنا وعلي الأخص تاريخ وتماسك البدايات كواقعة من وقائع اللغة المكتوبة ومثل هذا الموضع للبدايات في تعارضه مع تاريخ وتماسك الواقع الاجتماعي هو أقرب إلي أن يكون أكثر داخلية لأنني وأنا أناقش النشاط الذي تقوم به البداية فإنني أقصد مجموعة كاملة من الأشياء المتعينة في الكتابة أو بسبب الكتابة في المحل الأول فالفكر والعاطفة والإدراك هي وظائف لفعل الابتداء فعل الكتابة.
‎فهل مثل هذا الموقف مفرط في تخلخله في انتقاصه من اهتمامات أوسع؟ وعند معظم أبناء جيلي كان النقل والثقافة والتاريخ والتقليد والإنسانيات ككلمات وكأفكار تحمل نبرة موثوقا بها للصدق حتي وإن لم تقع لسبب أو آخر بسهولة في متناول استيعابنا ولم يكن لدي رغبة في الاستغناء عنها ولو فقط بسبب أنها ككلمات وأفكار تظل تبدو جزئيا المرساة التي تثبت العالم الذي نقطنه ولو فقط بسبب أنها أيضا تظل موضوعات لتبجيلنا وكذلك بسبب أنها - حينما نحور عبارة صاغها ريتشاردز I.A:Richards آلات نفكر بها ومن الناحية المزاجية أنا أمتلك كمية مساوية من عدم التسامح إزاء بيانات الابتهاج بثقافة وتاريخ وتقليد مجتمع معين وكذلك إزاء الهجمات النارية علي الثقافة والتاريخ والتقليد باعتبارها أدوات الكبت التام الصريح وكلتا هاتين الحالتين المزاجيتين وهما لا تكادان تتعديان ذلك - غير مسئولتين بل وما هو أسوأ من ذلك فهما غير مثيرتين للاهتمام. وأحيانا تكونان مفيدتين باعتبارهما تذكرة بحقيقة أن التقليد يواصل البقاء علي نحو ما وبأنه يستطيع أيضا في بعض الأوقات أن يكون قمعيا. وفي أغلب الأحيان من الأفضل ألا تعامل مثل هذه المواقف ببساطة باعتبارها موضوعات للمدح أو القدح علي الإطلاق لكي - كما يقول ميرلو بونتي Merleau Ponty عن عبارة لفظية نسمع ما يقولونه-19- وهذا المدخل ليس مسألة تلق سلبي بل مسألة مسعي نشيط وكما يشرح ميرلو بونتي : الأفكار المكتسبة نفسها يحاط بها في شيء ما يشبه حياة ثانية -حينما تسمع- وإدراكا ثانيا-20- وهكذا استعمل كلمة كتابة للاشارة أحيانا إلي الحياة الأولي ولكن في أحيان أكثر للإشارة إلي الحياة الثانية والبداية باعتبارها الفعل الذي يصلهما علي غير انتظام ويقتنص وصف ريلكه Rilke للعنصر الأساسي في فن رودان Rodin جوهر أفكاري فيما يتعلق بالكتابة والبداية عند هذه النقطة بالضبط حيث يجيئان معا: هذا السطح الضخم علي نحو متغاير المتنوع التأكيد المتناسب بدقة الذي يجب أن يصعد منه كل شيء-23-.
6
‎كتاب هيوكنر Hagh Kenor الكوميديون الرواقيون The Store Comedians يميز مفردة متكررة في أعمال فلوبير وجويس وبكيت Beckett وهي كتبية الكتب ولا ينبغي التقليل من أهمية المدي الذي ينشغل فيه خيال الكاتب بواسطة وسيطه الخاص للتعبير وبطريقة أو بأخري يكون الوسيط نوعا من الحافز العملي للكاتب أو علي أقل تقدير علة مادية أوسطية بأشد المعاني مباشرة وليس فلوبير وجويس وبكيت وحدهم بل دانتي وشيكسبير وييتس وجوته وكثيرون غيرهم هم الذين تفعمهم بالحيوية في خيالهم كتابات أخري - بوصفها كتابة - تحركهم نحو استجابات متنوعة في الكتابة أيضا ولست متأكدا من أن هذا النمط من التفاعل المتخصص بين الكتابات الذي ربما من المقرر أنه مقيد نوعا ما قد دُرس قط كظاهرة عامة علي الرغم من الواضح أن كتاب إي . آر . كورتسيوس E. R.Curtius الأدب الأوروبي والعصور الوسطي اللاتينية يدرس المشكلة أثناء فترة مخصوصة بتبحر لا يباري-23- ويعطي كل من كنر وكورتسيوس للمرء عرضا ممتازا للمدي الذي تنشغل فيه طاقات الكاتب بالكتابة فوق كتابة أو بإعادة الكتابة أو الكتابة عن كتابة أو الكتابة التي تستدعيها كتابة ايزدي والقطبان الأقصيان لكوزمولوجيا الكتابة هما الكتابة باعتبارها مجرد كتابة -وتنتسب إليها صور الكتاب موضعا للسخرية وللكتاب ممجدا - بواسطة بكيت ومالارميه علي التوالي- والكتابة كإعطاء للإذن الكتابة كفتح للإمكان الكتابة كابتداء أشكال أخري من الإدراك والسلوك الإنسانيين -وعمل كيتس عند تصفح ترجمة تشابمان لهوميروس أول مرة مثال علي ذلك وبينهما يوجد المجال الكامل من علاقات ممكنة أخري بين الكتابات التي استغلها بورخيس وسط المؤلفين المحدثين بأكبر قدر من الدأب في أساطير المكتبة Bribleofables الذكية.
‎وإذا فضلنا استعمال قاموس أقل أدبية أو عاطفية لوصف العمليات المتضمنة في مثل هذه العلاقات استطعنا القول إن الكتابة هي مثلث متغير دون انقطاع من سك الشفرة وفك الشفرة والبث. ولكن ذلك يجعل ما أظنه أمرا فاتنا جامحا كثيفا يبدو آلية فاقدة الحيوية وليس علي المرء إلا أن يقرأ الفصل الاعتراضي لهاروك بلوم عن النقد المناقض ليلاحظ كيف تستطيع فكرة الكتابة ضد الكتابة-24- أن تكون مؤثرة بعمق وبحث للاهتمام. وبعض الأمثلة الفاضحة لما أناقشه تمكن ملاحظته هنا. فالراوي/ المؤلف في حكاية حوض لسويفت التي ربما كانت أكثر أساطير المكتبة اكتمالا في تخيلها علي الإطلاق يشرح دوره ككاتب بألفاظ بعيدة جدا عن التسامح. وحينما يقول إنه لا يستطيع تخيل لماذا ينبغي أن نأخذ علي عاتقنا تقديم الفطنة للعصور التالية بينما لم تقدم العصور السابقة أي مدد لعصرنا فإنه يتكلم وككاتب حديث حقيقي ممنوع حرفيا من أن يجد مكانا لكتابته بواسطة تراكم الكتابة السالفة-25-.
‎وكما أن الكتاب المحدثين في معركة الكتب يشتبكون في مشاجرة مع القدماء لأن الآخرين يعترضون رؤيتهم فإن كاتب حي فقراء المؤلفين المستأجرين الجائع يرغب في الكتابة لكي يمنع كتابة أخري من أن تسبق إلي احتلال المكان الذي يأمل أن يجده لنفسه. فكل قطعة من الكتابة يجري تخيلها باعتبارها كتلة تشغل الحيز النادر. لذلك يكون واجب الكتابة أن تقصي كل كتابة أخري.
‎وتعارض ذلك الموقف رحابة كتابة كوليردج Coleridge التي في قصيدة ترحيب مثل إلي وليام وردزورث تعيد خلق تلاوة أغنية طويلة متصلة لآخر في الشعر. فالعظماء الحقيقيون كما يقول كوليردج
‎لهم جميعا عصر واحد ومن مكان واحد مرئي
‎يسكبون التأثير: فهم في القوة والفعل
‎دائمون وليس الزمان معهم
‎إلا وهو يعمل من أجلهم وهم فيه
‎وصحائفهم ليست أقل قداسة من الصحائف القديمة
‎وستوضع مثلهم مع الشهرة التدريجية
‎وسط سجلات الإنسانية
‎بصدقها العميق أغنية حلوة متصلة
‎ليست نتيجة تعلم بل حظرية-26-
‎فالعظمة تمحو تعاقب الزمان وإزاحاته. فالشعر العظيم هو مكان نفسه وزمانه المتصلين فهو الذي يدمج ويمزج في فكرة واحدة كتابات أخري. وعند كاتب حي أجراء المؤلفين لسويفت فإن الكتابة الموجودة تشغل المكان المشروع لكتابة أخري أكثر حدة وتدافع عن نفسها بأنانية ضد هذه الكتابة الأخري. أما عند كوليردج فالكتابة قادرة علي استدعاء الصوت الناطق وهي تبتعث الحياة في كل تعقيدها -الحب والخوف والمعرفة والألم.. وما إلي ذلك- وهي تسمح بوهم الحضور الحي -ولكنك أنت نفسك تظل أمام عيني وحولنا معا تلك الرؤية السعيدة للوجوه المحبوبة--27- وعلي حين ينتهي المؤلف / الراوي عند سويفت وهو يكتب عن لا شيء يجد كوليردج نفسه في مكان ما بين التركيز الذاتي العميق والصلاة منبثقا كما قد نخمن وهوشخص أفضل أكثر اكتمالا من أجل تجربة شعر شاعر آخر.
‎ويدمن كل من كوليردج وسويفت علي نحو غير عادي اقتباس النصوص كما لو كان ذلك لتوضيح الأثر المزعزع -بالكسر- حرفيا - سواء رحب به أو لم يرحب - الذي تمارسه الكتابة الأخري علي كتابتيهما. وعلي طول مدي تجربة الكتابة كله أي بين وبتضمن القطبين الأقصيين المذكورين آنفا فإن التضمين -اقتباس النصوص- هو تذكرة دائمة بأن الكتابة هي شكل من الإزاحة لأنه علي الرغم من أن التضمين يستطيع أن يأخذ أشكالا كثيرة فإن في كل شكل ترمز الفقرة المقتبسة للكتابة الأخري باعتبارها انتهاكا وقوة إقلاق وتشوش تتحرك إمكانا للاستيلاء علي ما يكتب حاليا. والتضمين كأداة بلاغية يستطيع أن يساعد علي التكييف -التوفيق- والإدماج والتكذيب والمحاكمة والدفاع أو الإخضاع.
‎وهكذا فإن الخوف من أن يكون المرء غير أصيل يجري تجاوزه بواسطة طموح لأن يكون بمعني من المعاني أكثر أصالة وأكثر تنبؤا من حتي الإنسان الأول الذي كتب في أي وقت مضي.
‎فأين إذن تكمن سلطة الكتابة في الإنشاء وكيف يمسك المرء بالمبادئ التي تنشيء الكتابة؟ هل تستقر في الإنسان الذي كتب علي نحو وجودي؟ أو في الإنسان الذي يكتب علي نحو وجودي؟ أو بعيدا عنهما بل في مبدأ مشترك يشتركان معا فيه ولكن لا ينطق به إلا واحد منهما؟ وكان دور الناقد تقليديا أن يطرح هذه الأسئلة وأن يجعل هذه الاختلافات اختلافات مفعمة بالحياة؟ وبرغم ذلك فإن هذه المسائل لا يكون لها معني - كما هي الحال في نزاع نيتشه فيلياسرفيتس Wilianortj إلا إذا كانت الكتابة المعنية معتبرة ثابتة ووثائقية. وبمجرد أن تعد الكتابة باعتبارها نصا طاقة من ناحية أو باعتبارها صرحا ينتمي إلي سلسلة نوعية من الصروح المشابهة.
‎من ناحية أخري فلن تستطيع سلطة الكتابة في الإنشاء لن تستطيع أن تستقر ببساطة في الامتياز السابق للمتكلم. وإما أن تكون سلطة الإنشاء كما ظل فوكو يحاول دون كلل أن يثبت صفة للخطاب لا للكتابة -أي كتابة تطابق مع قاعدة التشكيل الخطابي- أو أن تكون مفهوما تحليليا وليست شيئا فعليا متاحا. وفي كلتا الحالتين تكون سلطة الانشاء رحالة: لا تكون أبدا في نفس المكان ولا تكون أبدا في نفس المركز دائما كما أنها ليست نوعا من القدرة الأنطولوجية علي استهلال كل حالة من حالات المعني وما تعنيه كل هذه المناقشة لسلطة الإنشاء هو أننا لا نمتلك مقولة وجودية طيعة للكتابة سواء أكانت سلطة مؤلف أو ذهن أو روح عصر Zeitgeiat قوية بما يكفي علي أساس ما حدث أو وجد قبل الكتابة الحالية لتفسير ما يحدث في الكتابة الحالية أو أين تبدأ وتجربتنا بالكتابة تبلغ من التنوع والتعقيد حدا يجل عن أي تفسير مكتمل علي سبيل المثال لماذا وكيف أنتجت سوق الغرور Vanity Fair كرواية وليست كقطعة موسيقية أو مسرحية.
‎وأنا أعتقد أن الكتاب قد اعتقدوا وظلوا يعتقدون أن الكتابة نمط من الكون -العالم- لأنه علي وجه الدقة يمكن داخل نطاق نسق الاقتباس غير المتصل وداخل نطاق المرجع والازدواج والتوازي والايماء التي تشكل جميعا الكتابة وسلطة الانشاء أو القوة النوعية لفعل نوعي من الكتابة أن يعتقد أن ذلك كله شيء ما مكتمل ومخترع شيء ما شامل ومصنوع إذا شئت من أجل المناسبة-30- وهكذا يتم التقليل من سلطة الإنشاء السالفة أو أي أساس عقلاني مرتكز علي الوجود الأسبق لشيء آخر. وليس من الممكن محوهما بالكامل لأن من المؤكد أن طفولة المرء وظروفه الاجتماعية الحالية والفترة التاريخية التي يعيش فيها تجعل ضغوطها محسوسة علي الرغم من ذلك. ولكن بداية الكتابة ليست شيئا ما يتعين دفعه إلي الوراء أبعد وأبعد حتي يتم التعرف علي مجموعة من القوي باعتبارها التي حددت تلك البداية. لقد قال كونراد في مقال متأخر زمنيا إن الكتاب هو صنيع -عمل-.. وكتابته مشروع ولسنا في حاجة إلي أن نأخذ ذلك أساسا باعتباره تذكرة أخري بالكتابة كإنكار ascesis وفقا لتقليد فلوبير - جويس. فهو بالأحري علي نحو أكثر إيجابية تأكيد للكتابة كفعل وإن تكن فعلا من نوع خاص من حيث الجوهر لذلك فإن البدء في الكتابة هو تشغيل مجموعة من الأدوات هو اختراع مجال لها لكي تتحرك وتؤثر.
‎هو تمكين للأداء.. كل فن فكل عمل فني يمتلك حركته الخاصة أو أداءه الخاص كما كتب الشاعر هوبكنز Hopkins عام 1885 إلي أخيه-31-.
‎وإذا كان الكتاب اليوم لا يستحضرون صراحة ربة الإلهام في البداية فإنهم مع ذلك مايزالون واعين تماما أن قوة ما غير العلية الفسيولوجية تدفعهم عادة إلي الكتابة فالكتابة ليست واقعة من وقائع الطبيعة تماما مثل القراءة التي هي مهارة عالية التطور لا تكتسب إلا بصعوبة. وللكتابة نوعها الخاص من الفعل وأحلامها الخاصة وقيودها الخاصة وكلها مكتسبة بدون شك وكلها بدون شك وثيقة الارتباط بالسياق السيكولوجي والاجتماعي والتاريخي ويصدق ذلك علي القراءة أيضا ولكن البدء في الكتابة وذلك صحيح بالنسبة للروائي والناقد بقدر متساو مايزال يستلزم ربة الإلهام القديمة لكي يدل علي ولكي يكرس إعادة توجيه الطاقة الإنسانية من العالم إلي الصفحة وربما أيضا إذا كان لنا أن نصدق جينيه Genet لكي يدل علي مولد نوع مختلف من اللذة لذة الكتابة لكي يقرأ المرء نفسه-32- ومن ذلك الوقت فصاعدا فإن الكتابة الحرة أي كما يقول بارث Barthes الكلمات مدركة بصرف النظر عن أي متطلبات تفرض عليها متطلبات الشكل والمعني والتجربة-33- ليست إلا حلما من النادر أن يكون قابلا للتحقق وكما أحاول أن أوضح لقد كانت الرواية الكلاسيكية في آن معا محاولة للحلم بالحلم الذي يتجسد في البطل الروائي وأداة متعمدة للتحرش بالحلم وتنحيته بعيدا عن خصوصيته وحريته وفي الحركة من حلم السلطة الخالصة إلي تحرش صادم يعيد الكتابة إلي وجودها كنص يوجد الاختراع.
‎وربما كان من الإسراف القول إن الرواية الكلاسيكية تمضي اليوم في شكل مشروع للناقد ولكن ذلك ليس شديد الانحراف عن الحقيقة.. ليس اختراع مجال للدراسة -اللغة الانجليزية الرواية موضوع فاوست- واختراع مناهج للدراسة -تاريخية أو متعلقة بالنماذج الأصلية أو فرويدية- واختراع أهداف ومواصفات أليست كل هذه الاختراعات من النوع الذي يسمح داخلها برؤي الاستمرار الخالص والتقدم والفاعلية وحتي الانجاز؟ وفضلا عن ذلك فإن الناقد اليوم يتعرض للتحرش في الواقع الراهن كما كان البطل الروائي. إنه يتعرض للغزو بواسطة المعارف المضادة للسيكولوجيا وعلم اللغة بواسطة اتساع وتفصيل الضغط المعاصر وبأكبر قدر ككاتب بواسطة المكتبة ذلك الوحش الخاص لواقع عمله الذي ينبئه عن الكتاب الآخرين والذي يعزل -أو يفرد- الكتابة وهكذا في هذا الانعزال الجزئي عن العنف والمرض يقف من حيث الأساس مدافعا عن الكتابة وحدها-34- ومن ثم:
‎الكتابة هي علي وجه الدقة ما يتجاوز الكلام إنها تتمة لا ينقش عليها لا شعور آخر -فلا يوجد لا شعوران- بل علاقة أخري بين المتكلم -أو السامع- واللاشعور. لذلك لا يستطيع الكلام أن يضيف شيئا إلي الكتابة فما كتبته بدءا من لحظة الكتابة يمنع كلامي من أن يوجد فما الذي أستطيع أن أقوله أكثر أو أفضل مما كتبته؟ ينبغي أن يقنع المرء نفسه أن الكلام يتخلف وراء الكتابة -ولذلك وراء الحياة الخاصة- التي لا تزيد عن بث نوع من الكلام: أنا دائما بمقتضي التعريف أشد غباء وأشد سذاجة.... إلخ مما أكتبه: أنا لا أشبه ما أكتبه- والنوع الوحيد من المقابلة أو المواجهة الذي يستطيع المرء أن يدافع عنه إذا كان مضطرا سيكون حيثما يسأل الكاتب أن يفصح عما لا يستطيع كتابته-35-.
‎وتقديم هذه الأفكار الابتدائية عن البدايات موضوع هذا الكتاب كان الوسيلة للإبانة عن المقال بالكتابة.
‎وبالنسبة إليّ وربما بنفس القدر بالنسبة إلي القاريء اليقظ فإن ما أكتبه يقول ما أعنيه ويذكرنا معا بما لم أكن قادرا علي كتابته.
‎إن كونراد وشخصيته مارلو يمسكان في جمال بمأزق الكاتب انسان يتكلم إلي آخرين في حضورهم ويعلن الكاتب عن طموحه إلي أن يجعل القاريء يري وما يدور الكلام عنه يستغرق وقتا وكثيرا من الكلمات. وجيم Jim وكيرتز Kurtj ليسا موضوعين للرؤية أوضح من معاني الكلمات المستعملة في وصفهما إن سجلا مطبوعا - رواية أو أقصوصة أو بعض الصفحات هو موضع ذلك التناقض الظاهري الذي فيه يقوم الكلام بالكتابة وحيث تبقي الكلمات لإحياء ذكري ما لم يقل بعد كل شيء.
‎شدة تأثير البدايات:
‎وبعد ذلك لمرات عديدة في أرجاء بعيدة من العالم أظهر مارلو نفسه راغبا في تذكر جيم تذكره بالكامل بكل تفصيل وعلي نحو مسموع.
‎وربما سيكون ذلك بعد العشاء علي شرفة مكسوة بأوراق نبات بلا حركة ومتوجة بالأزهار في الغسق العميق الذي تتناثر فيه كالنقاط أعقاب السيجار.
‎وقد كانت الكتلة المستطيلة لكل كرسي من القصب تؤوي مستمعا صامتا وبين الفينة والفينة يتحرك توهج صغير أحمر فجأة وينشر الضوء علي أصابع يد كسول أو جزء من وجه في سكون عميق أو يضيء ومضة قرمزية في زوج من العيون المفكرة يحجبها جزء من جبهة ملساء ومع الكلمة الأولي المنطوقة نفسها يصبح جسد مارلو الممدد مرتاحا داخل الكرسي شديد السكون كما لو أن روحه عادت بجناحيها من الماضي-36-.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.