علي مدي عمر الإنسان يرتبط بشخصيات يتأثر بهم، لكن قليلا من هؤلاء يؤثر في مستقبله بشكل مباشر، من الذين ينطبق عليهم هذا القول بالنسبة لي جمال الغيطاني، فبتوقيع منه تحولت من محرر تحت التمرين إلي صحفي ليس له مستقبل سوي في عالم الصحافة. علي مدي أكثر من 23 عاما ارتبطت بالغيطاني، فإما أن أراه يوميا أو نتحدث تليفونيا، من هنا كنت شاهدا علي أحداث كثيرة، بعضها أسرار ربطتنا أكثر، فعلي الرغم من أن إحدي سمات الغيطاني الأساسية أنه حكاء، من طراز فريد، إلا أن المقربين جدا منه، يعرفون أنه عكس ذلك، فهو " كتوم" إلي أبعد الدرجات، كتوم إلي حد أن قلبه في أحيان كثيرة يخونه، فكانت أكثر من عملية في هذا القلب. بالتأكيد أنا لا أتحدث عن ملاك، فهو بشر له أخطاؤه وحسناته، ولكن بالنسبة لي يظل هو " الكبير" الذي علمنا أن نصبح " كبارا" في عالم لا يعترف سوي بذلك، هذه الجملة ليست لغزا، بل هي القيمة الكبري للغيطاني.. ففي الصحافة دائما بين من هم في سن متقارب، منافسات قد تضر بالمتنافسين معا وتبعدهما عن أي إجادة، لكنه غرس فينا أننا مجموعة من المهارات التي تتشكل أمامه.. فأحسن توظيف كل منا، فأصبحنا ننظر لبعضنا البعض علي أن كل واحد منا يكمل الآخر، ولا ينافسه. فهذا الكبير لم يقف يوما ضد أن يعطينا مساحات واسعة نظهر فيها هذه المهارات، لذا خضنا بجرأة ونحن في مقتبل حياتنا الصحفية معارك .. كان يحمينا، فلم يكن يعطي أذنه لمسئول لينكل بنا، ففي العام 1998 خضت معركة شرسة حول " منحة التفرغ" التي تعطيها وزارة الثقافة، فقد استطعت أن أخترق مناقشات اللجنة، وفوجئت بحملة شرسة ضدي من قبل أحد المسئولين في الوزارة في ذلك الوقت، وكذلك من الأديب الكبير الراحل فتحي غانم رئيس اللجنة، ومارس الجميع ضغوطا، لكي تتوقف الحملة، التي كشفت الفساد في طريقتها لاختيار المستحقين لهذه المنحة، فما كان من الغيطاني سوي أن يكتب علنا: " هكذا أصبحت أعمال لجنة التفرغ قضية علي كل المستويات الأخلاقية، الثقافية، الاجتماعية، بعد أن نجح الزميل طارق الطاهر بأدائه المهني الرائع أن يضع ما يدور في دهاليز اللجنة أمام الرأي العام، وحاول بعض أعضاء اللجنة استخدام الأساليب البالية في التعليق علي ما ينشر". طوال رئاسته للتحرير لم يستجب " للتقاليد البالية" سواء التي كانت تستهدفني أو تستهدف زملاء لي، فعلي سبيل المثال أتذكر أن أحد رؤساء هيئة قصور الثقافة، كان لا يعجبه كتاباتي عن الهيئة، فكان لا يمل عن الشكوي الدائمة للغيطاني، حتي جمعنا لقاء ثلاثي في إحدي المناسبات، ففوجئت به يقول له: " علي فكرة طارق رئيس تحرير أخبار الأدب بعد عشر سنوات" وكنت وقتها مازلت محررا تحت التمرين، لكن الرسالة وصلت. هذا الاستطراد يبين كيف أدار الغيطاني الجريدة طوال سنوات رئاسته، التي اقتربت من ال18 عاما، لم يبخل عليها بوقته وصحته، أجل الكثير من مشروعاته الإبداعية من أجل أن تستمر قوية، وتحقق له ما أراد لاسيما أنه من اللحظة الأولي وضع له " خريطة طريق" نسير عليها إلي الآن، انحياز واضح للمواهب، فمن مصطلحاته التي صكها " تقليب التربة" والهدف من هذا التقليب كشف الموهوبين من كل انحاء المحروسة والمراهنة عليهم، فتجاورت أسماء إبداعية من مختلف الأجيال والاتجاهات علي صفحات الجريدة، وقد احتل الكثير من هذه الأسماء مكانها اللائق حاليا في حياتنا الأدبية والثقافية، كما سعينا علي مدي السنوات الماضية في توسيع مفهوم الأدب والثقافة، ليشمل كل قضايا المجتمع، فلم ننعزل لحظة عن الهموم الكبري، من هنا جاء انحيازنا لأهالينا في قرية المريس بالأقصر، حينما كان هناك مشروع لنزع ملكية أراضيهم التي عاشوا فيها هم وأجدادهم، لتحويلها لمشروع استثماري، تصدينا لذلك حتي وأدنا هذا المشروع، وعندما غرق أهالينا في العبارة، لم نصمت ونقل نحن جريدة أدبية، بل تصدينا " لفساد الدولة". هذا الميراث الذي تركه الغيطاني سرنا عليه، فانحزنا منذ اللحظة الأولي لثورة 25 يناير 2011، وكنا ليس فقط منحازين لامتدادها الثوري في 30 يونيو، بل أقول بإطمئنان كبير، أننا من الذين أشعلوا وقودها، عندما تصدينا لحكم الأخوان المسلمين الذين أرادوا أن يجردوا الوطن من هويته. الغيطاني استطاع أن يخرج بالجريدة " سريعا" من الفكرة اللصيقة للصحافة القومية، فكان لنا صوتنا الخاص في القضايا المرتبطة بحرية الوطن وهويته ، فهذه واحدة من الثوابت التي لن نحيد عنها، فلا يمكن لبلد أن تنهض دونما حريات وممارسة حقيقية للديمقراطية، قد نخطئ أو نصيب في هذه الممارسة، لكن لا يمكن أن نتنازل عن دفاعنا عن فكرة " الحرية" فهي ليست فقط جوهر الإبداع، بل جوهر الحياة نفسها، هذه الحياة التي لا يمكن أن نعيش فيها ونسمح بالعبث بتراث أجدادنا، من هنا خضنا ولازلنا العديد من المعارك ضد العبث بالآثار.. فهي معركتنا الممتدة من 23 عاما ومستمرة. هذه هي قيمة الغيطاني.. غادر " أخبار الأدب" لكننا لم نستطع أن نغادر رؤيته، لأنه بناها علي أرض صلبة، وجعل منها منبرا للثقافة العربية والإنسانية، فتجاورت أسماء مصرية بجانب العربية إبداعا ونقدا ومحاورة، ولم نغفل للحظة- أيضا- أهمية الترجمة في بناء الشعوب، فشهدت الجريدة مترجمين احتلوا الان الصف الأول بترجماتهم من مختلف اللغات. و رغم ذلك، بالتأكيد أي جريدة تريد أن تستمر لا يجب أن تقف عند حد بعينه، من هنا قد نختلف عن الغيطاني الآن في التفاصيل وفي أحيان أخري في طريقة المعالجة، لكن لا يمكن أن نتصور الجريدة سوي أنها المدافعة عن حرية التعبير والرأي والتصدي للعبث الذي يطال أحيانا الروح، وكذلك الاحتفاء بالمواهب أيا كانت أعمارهم، لذا عندما فكرنا في الاحتفال بسبعينية ميلاده، فكرنا أن نحتفل بقيمه الأساسية، أن نلقي الضوء- بقدر المستطاع- علي تجربته الإبداعية في مراحلها المختلفة. فهذا العدد ليس عن الغيطاني، إنما هو مهدي لكل الأجيال، لا سيما المبدعين الشباب، لذا أعتبر هذا العدد " ميلاد جديد" للغيطاني- في عيد ميلاده السبعين- ففيه رصد لتجربة واحد من أهم الروائيين، علينا هضمها جيدا، واستخلاص أهم ملامحها، منتظرين المزيد من إبداعاته بإذن الله.