الأمرُ بسيط. بإمكانكَ الذّهابُ بمخطوط كتابك- قصص قصيرة، رواية، نوفيلا، خواطر،أو حتي تجميع منشوراتِ الفيس بوك(خواطر هزلية سيكوباتيّة مثلا) إلي مكتبِ النّاشرِ المنشغل بالحديثِ علي الهاتف مع الكاتبِ العالميّ الذي قد لا تراهُ أبداً، ثم بعد أن يغلق الهاتف تتودّدُّ إليه و تتأسف أن قطعت عليه انشغالاتِه، فيتظاهر هو الآخر بإبداء تسامحٍ مصطنع، و تعرض عليه مخطوط كتابك: "الكتابةُ بالسّكين، و نزوات أُخري" يخبرك أن تتركه و سيعاود الإتصال بكَ بعد أسبوعين. أرقُ ثلاثةِ أسابيعَ ينتهي بإتصاله يخبرك أنه إنشغل كثيرًا لذا تأخر في الرّد، ويدعوك للغذاء في مطعمٍ برُفقةِ بعض الكتّاب المشاهير: بعضهم تعرفه و بعضهم لا تعرفهم. في الموعد المحدد تذهب، تسلّم عليهم فرداً فرداً، دقائق بعد الغذاء و يبدأ العرض. يُخرج النّاشر الموسوعة العالمية التي تضم أسماءَ خالدة " ها أنظر سيد و.ص، أخيرًا أدرجوا الملف الكامل لأعمالك الشّهيرة المترجمة و ثبتٌ بجوائزك العالمية" و بالطّبع، السيد و.ص ليس كاتبًا ، ثم تدور العجلة، و كلٌ يستعرض اسمه المخلَّدُ ذكره في تاريخ الأدب، يخبرك الناشر سرَّاً من الجميع أن تمر عليه مساءً. في الموعد تذهب. "اللعنة! أنت مذهل فوق العادة!! كتابك يحمل أفكارًا تقدّميّةً سابقةً لعصرها !!" تنشرحُ أساريرك، لكن، بعض القلق بادٍ علي وجه النّاشر،كمحاولةٍ لتبديده؛ تخبره أنك علي استعدادٍ للمشاركة في تكلفة النّشر، يخبرك بامتعاضٍ (مصطنع أيضا) أن هذه ليست سياسة الدّار، ثم سرعان ما يستجيب. العدد المزمع طباعته هو ألفي نسخة، مئةُ لك علي سبيل الهدية. تشارك في دفع ثمن النصف: ألف نسخة. تأتي العقود، و تمضي علي ورق من عشر صفحاتٍ تتضّمّن حقوق النشر و الترجمة و حقوق المؤلف و الإقتباس السينمائي..إلخ، و لأن عقلك بالطّبع مسحورٌ بأمل أن يكون اسمك ضمن قائمة الخالدين في الموسوعة-التي هي في الأساس أحد مطبوعاتِ الدار الوهمية التي بالطبع لا يقوم بالعمل علي تجهيز تلك الموسوعة أحدهم علي سبيل زيادة الراتب بقدر الاستمتاع باللعبة لا أكثر-لذا؛ لا تقرأ تلك البنود التي تقضي أنّ أقصي حدٍّ للنُسخ المطبوعة هو ألف نسخة. و بندٌ يقضي أنه بعد مرور عامٍ إن لم يتم بيع بقيّة النّسخ يعاد تدويرها أو يشتريه المؤلف بنصف الثّمن. و هو ما يرسله إليك النّاشرُ بعد عام" قلتُ لك كتابك سابق لزمنه، أخبرني إن كنت ستشتري النسخ الباقية أم أقوم بتدويرها كما ينص العقد" . إبداعكَ كطفلك،غالٍ بالطّبع. تذهب و تشتري نصف العدد بنصف الثمن، توزّعها علي أصدقاء العمل، أصدقاء الطّفولة،أو حتي بائع الخبز علي ناصية الشّارع، و الباقي، يتم تدويره. حصّلت الدّار ثمن طبعةٍ لم تُطبع، أخذتَ أنت مئة نسخةٍ هدية، و نصف الباقي بنصف الثمن،آلافٍ مثلك يذهبون للناشر، و لا أحد خاسر، و لا أحد متضايقٌ؛ فبالطّبع؛ دار لا توزّع إلا السّعادة! لا داعي للإسهابِ في الحديث عن سهولة النَّشرِ في العالم العربي -عموما- في الوقت الحالي، و في مصر خصوصًا. أحدهم يملكُ وفرةً من المال، يُنشيءُ دار نشرٍ"نريد أن نشجّع صوتَ الشّباب"-"قادمون في سماء الأدب"-"نجومٌ جُدُد"-"دعونا نصنعُ البهجة!"...إلخ. حاليًا، كثيرٌ من المواهب الحقيقة-حقيقتها في تأثيرها الفعلي علي البشري لكن عدم رواجها لأسباب أخري- تنزوي وسط الصّخب، الأمرُ نُزع عنه جماليةُ الإبداع، و صار مرهوناً بالربحيّة-حتي مع سخف المضمون ولكن بالطّبع لا يهم- بالتأكيد كلُ كاتبٍ يريدُ الانتشار والرّبح أيضًا ولا ضير في ذلك، لكن، ما يشهده سوقُ الكُتبِ في الوقت الحالي بنشره كثير من الإسفاف وما لا معني له، أمام العالم- إن أحدهم طلب ترجمة بعض الأعمال للتواصل الثقافي مثلاً!- لهو : فضيحة بمعني الكلمة. لن نتحدَّث عن أسماء، و لن نتحدّث عن رقابة وزارة الثقافة التي من المفترض أنَّ لها دورًا توجيهيًا رقابيًّا فيما يُنشَر ليس منوطًا بالحجر بالطّبع. فالكل يفهم تمامًا ما هو مقول. لكن، إن كُنّا نتحدثُ عن فِعل النّشر؛ فالأولي أن نتحدّث قليلاً عما يسبقه: فِعلُ الكِتابة. إذا لم تخرج منفجرةً منك،برغم كل شيء/فلا تفعلها/لا تكن مثل كثير من الكتّاب/لا تكن مثل آلاف من البشر/الذين سمَّوا أنفسهم كُتّاباً/لا تكن بليداً ومملاً ومتبجّحاً/لا تدع حب ذاتك يدمّرك/مكتبات العالم قد تثاءبت حتي النوم/بسبب أمثالك/لا تضِف إلي ذلك/لا.. تفعلها/عندما يكون الوقت مناسباً،إذا كنت مختاراً/ستحدث الكتابة من تلقاء نفسها/وستستمر بالحدوث مرة بعد أخري/حتي تموت/أو تموت هي داخلك/لا توجد طريقة أخري ولم توجد قط. -تشارلز بوكوفسكي. ...و لا يبقي منّا إلا الأسماء. لكن، لمَ لا تتمهّل قليلاً وتفكّر قبل أن تنشر ما ترتئيه صالحًا للخلود؟ لمَ لا تُرفق اسمكَ بعملٍ-هذا إن إخترتَ الوجود من خلال الكتابة- حين يُذكر اسمك يلازمه ذِكرُ كتابَك؟ السؤال: هل لذلك القاريء العابر ساكن العام 2050، الذي لا يهوي القراءة كثيراً، ولكن، وضعته الصدفة- أو الاضطرار لا أحد يعلم- أن يكون في مكتبةٍ ليشتري لحبيبته هديّة عيد الميلاد؛ كتابها الذي انتظرتْ أن يتوفّر لديها المال لتشتريه- هذا إن افترضنا صمود الورقيّ حتي ذلك الوقت! (صامدون )- بينما يُقلِّبُ في كتابٍ علي مضض، تشاء الترتيباتُ الكونية، في تلك اللحظة (الكونيةأيضا)، أن تسقط عينه علي مفتتح جملتك، و يشاءُ الشّغف أن يُكمل هو القراءة، يقرأُ الإقتباس مّذَيَّلاً باسمك وعنوان كتابك، يعود للبيت، يضح الاسمين علي الشبكة العنكبوتيّة ويبحث عن نسخة ورقيّة أو أليكترونية متعجّبًا لأمر ذلك الفذّ الذي لم يعرفه أو يحتفي به الاحتفاء الواجبَ أهل عصره؟ حين أقرأ كلمات السيّد أماديوس جاراموند،علي الرغم مما يخشي، إلا أني أشعُر أنه خالدٌ تماماً: مع إمرأةٍ؛ أنتَ تضمنُ الخلودَ لنفسك بنسلك. الكتابةُ، هي مثل أن تمارس الحب مع الورق. هل سأكون مثل القدّيس أوغاسطينوس؛ تجيش في نفسي رغباتٌ لطالما كنت أتوق أن أعبِّرَ عنها لأُؤلئك الذين يقدرون أن يرضوا رغباتي ولكني لم أستطع إلي ذلك سبيلا. علي المرء أن يخشي حين تحينُ ساعته، و يتمثّل له عمله، ويري أن ما سطّرته يده لم يكن ذا بالٍ. لم يُضِف للعالَمِ شيئاً. فقط محض هروبٍ وتوهّماتٍ للخلود. حينها؛ ما أقسي أن، يقطعك سكّينُ النّسيان.