عندما زار صديقي الروائي تلك المكتبة الشهيرة في وسط القاهرة للمرة الأولي منذ بداية العام فوجئ بأنها تعرض عناوين روائية حديثة كثيرة جدا قدرها ب "500 رواية جديدة"، قد يكون الرقم به قدر من المبالغة، ولكنه يعكس صورة عن قوة موجة الكتابة الروائية التي تضرب سوق النشر في مصر. لم ينضم فقط إلي قائمة النشر تحت اسم رواية كتب لصحفيين ودعاة دينيين بل كذلك عشرات من الشبان الطموحين الذين أغراهم اتساع سوق النشر في مصر خلال السنوات الأخيرة وسوق الكتاب أيضا. وخلال الأعوام العشرة الأخيرة حققت الرواية اختراقات كبيرة في سوق الكتاب بمصر، كما تأسس عديد من الجوائز الروائية العربية الضخمة "ماديا"، ما أغري مزيدا من الكتاب علي الاهتمام بهذا الضرب من الكتابة. ولكن السؤال الذي يؤرقني كقارئ قبل أن أكون ناشرا- هو: هل هذه الأعداد الضخمة من الروايات ناتجة عن طلب حقيقي في السوق؟ وهل تتحمل أرفف المكتبات كل هذا النتاج الروائي؟ لا توجد بالطبع إجابة قاطعة فورية، ولكن الجزء الثاني من السؤال أسهل، فالمكتبات الكبري والصغري أيضا - لا تتحمل بالفعل هذا السيل من المطبوعات الجديدة، وترفض لجان المشتريات في سلاسل المكتبات الكبري نسبة كبيرة من العناوين الجديدة التي تعرضها دور النشر عليها، وحتي في حال قبول العناوين، تتصدر الكتب الأكثر مبيعا واجهات العرض وتختفي أغلب الأعمال الأخري وسط الرفوف. ماذا عن وضع الطلب في السوق؟ الطلب كبير بالفعل، فأغلب العناوين الأكثر مبيعا هي من الروايات، ولكن هذه تعد نسبة ضئيلة جدا من الروايات المصدرة، فالمطابع تخرج أسبوعيا العديد من الروايات الجديدة، وأغلبها لا يصل لأيدي عشرات من القراء، ولا يصل لأيدي النقاد علي الإطلاق. النشر الشخصي السر في هذا المشهد هو انتشار ظاهرة النشر الشخصي (Self-Publishing) ولكن بستار من دور النشر، ومعناه أن يتحمل المؤلف تكلفة نشر كتابه بسبب عدم تحمس دور النشر لها، والنشر الشخصي ليس ظاهرة خاصة بمصر ولا بالمنطقة العربية فهو موجود في الغرب أيضا، ولكن عبر بنية تحتية واضحة، منفصلة عن البنية التحتية لدور النشر التقليدية سواء الكبري أوالمستقلة، وبذلك تعمل دور النشر ضمن بنية السوق المحددة المعالم، بينما يخوض بعض الكتاب مغامرات لنشر أعمالهم لا تجلب أغلبها أي انتباه، ولكن بعضها بالطبع يجد طريقه من هذا الركن إلي النشر التقليدي ويشق طريقه. أما في مصر والمنطقة العربية، فالوضع مختلف بدرجة كبيرة، فالعديد من دور النشر المصرية واللبنانية- تلعب دور واجهة للنشر الشخصي، بعضها يقدم للمؤلف بعض الخدمات مثل الاسم البراق للدار الذي يجلب انتباه شريحة من القراء والتوزيع النشط للكتاب- لكن أغلبها لا يقدم شيئا للكاتب تقريبا سوي المساعدة في طباعة كتابه في صورة متواضعة المستوي. مشكلات السوق ولكن كيف يؤثر ذلك علي السوق؟ يظن البعض أن وجود المزيد من الكتب في السوق هو أمر إيجابي بالضرورة، ولكن الموضوع ليس بهذه البساطة، فأولا: قاعدة أن البضاعة الرديئة تطرد البضاعة الجيدة من السوق تنطبق أيضا علي سوق الكتاب، فأرفف المكتبات محدودة وبالتالي ستجد رواية جيدة لكاتب ناشئ صعوبة في إيجاد مكان لها وسط هذا السيل، وإن نجحت فإنها ستعاني لتري النور وسط الأعمال المتراكمة. كما أن عدم وجود جهة تصدر أرقاما عن مبيعات الكتب في مصر يفتح الباب أمام النصابين من محترفي تقديم واجهات النشر الشخصي لاختلاق أرقام غير حقيقة تشير إلي أن عمل فلان أو فلانة يقترب من القمة، وأن الوقت حان لطبعة جديدة وهو ما يتطلب مدفوعات جديدة. ولكن رغم أن الأعمال التي تدخل تحت نطاق النصب الصريح إحدي تشوهات سوق النشر التي تنتج تشوهات في سوق الكتاب- فإنها ليست محل اهتمام هذا المقال، فالمشكلة الرئيسية في سوق النشر هي ضعف قنوات التوزيع وعدم تنظيمها، وضعف البنية التحتية لتوزيع الكتاب، وبالطبع ضعف البنية التحتية للبلاد ككل، ويخصنا هنا منها النقل والبريد. فلو أتيح لسوق النشر المصرية أن تتعامل مع شركات توزيع احترافية وتعتمد علي بنية تحتية أفضل قليلا- وأن تحظي منافذ الكتب بأي إشراف حقيقي، فساعتها سيكون أمام هذا السيل من الإصدارات فرصة أفضل لكي يتم غربلته، وبالتالي يكون أمام السوق ككل فرصة لنمو صحي. هل نأمل في أن تقوم مؤسسة من المؤسسات القائمة والمعنية قانونا بسوق الكتاب والنشر بمصر بدور في ذلك، لا أظن بالطبع، فالمؤسسات الموروثة من الفترة الناصرية تعاني مرض الموت منذ فترة ليست بالقصيرة، المشكلة أننا لم نملك الشجاعة الكافية بعد للإقرار بموتها ثم دفنها، وكذلك لم نؤسس لما قد يحل محلها، "القديم قد مات.. والجديد لم يولد بعد" وهذا تعريف جرامشي للمأزق التاريخي. مدير دار صفصافة للثقافة والنشر