أسعار العملات اليوم الجمعة 19-4-2024 مقابل الجنيه.. مستقرة    وزير الإسكان: تنفيذ أكثر من 900 حملة ضمن الضبطية القضائية بالمدن الجديدة    إنطلاق موسم حصاد القمح في الشرقية وسط فرحة المزارعين    عضو ب«الشيوخ»: النظام الدولي فقد مصداقيته بعدم منح فلسطين عضوية الأمم المتحدة    مصر تعرب عن قلقها تجاه التصعيد الإيراني الإسرائيلي: نتواصل مع كل الأطراف    مراسلة «القاهرة الإخبارية» بالقدس: الضربة الإسرائيلية لإيران حملت رسائل سياسية    رقم سلبي يطارد كلوب بعد خروج ليفربول من الدوري الأوروبي    باير ليفركوزن ينفرد برقم أوروبي تاريخي    ارتفاع درجات الحرارة الأسبوع المقبل.. التقلبات الجوية مستمرة    أمين المجلس الأعلى للجامعات التكنولوجية: تعميم الساعات المعتمدة بجميع البرامج التعليمية    فتاة تتخلص من حياتها لمرورها بأزمة نفسية في أوسيم    هشام ماجد ينافس على المركز الثاني بفيلم فاصل من اللحظات اللذيذة    جدول مباريات اليوم.. ظهور مرموش.. افتتاح دوري "BAL" السلة.. ولقاء في الدوري المصري    «التوعوية بأهمية تقنيات الذكاء الاصطناعي لذوي الهمم».. أبرز توصيات مؤتمر "تربية قناة السويس"    «النواب» يبدأ أولى جلساته العامة بالعاصمة الإدارية الأحد بمناقشة «التأمين الموحد»    الدولة ستفي بوعدها.. متحدث الحكومة يكشف موعد الانتهاء من تخفيف أحمال الكهرباء    وزير المالية يعرض بيان الموازنة العامة الجديدة لعام 2024 /2025 أمام «النواب» الإثنين المقبل    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 19 أبريل 2024.. «الدلو» يشعر بصحة جيدة وخسائر مادية تنتظر «السرطان»    9 مليارات دولار صادرات مستهدفة لصناعة التعهيد فى مصر حتى عام 2026    بسبب ال«VAR»| الأهلي يخاطب «كاف» قبل مواجهة مازيمبي    ارتفاع أسعار الأسماك اليوم الجمعة في كفر الشيخ.. البلطي ب 95 جنيهًا    طائرات الاحتلال تشن غارتين على شمال قطاع غزة    أمريكا تعرب مجددا عن قلقها إزاء هجوم إسرائيلي محتمل على رفح    مطارات دبى تطالب المسافرين بعدم الحضور إلا حال تأكيد رحلاتهم    الدولار على موعد مع التراجع    «العشرية الإصلاحية» وثوابت الدولة المصرية    موضوع خطبة الجمعة اليوم بمساجد الأوقاف.. تعرف عليه    أخبار الأهلي : موقف مفاجئ من كولر مع موديست قبل مباراة الأهلي ومازيمبي    أحمد شوبير يوجه رسالة غامضة عبر فيسبوك.. ما هي    طلب عاجل من ريال مدريد لرابطة الليجا    أحمد كريمة: مفيش حاجة اسمها دار إسلام وكفر.. البشرية جمعاء تأمن بأمن الله    مخرج «العتاولة»: الجزء الثاني من المسلسل سيكون أقوى بكتير    شريحة منع الحمل: الوسيلة الفعالة للتنظيم الأسري وصحة المرأة    فاروق جويدة يحذر من «فوضى الفتاوى» وينتقد توزيع الجنة والنار: ليست اختصاص البشر    سوزان نجم الدين تتصدر تريند إكس بعد ظهورها مع «مساء dmc»    هدي الإتربي: أحمد السقا وشه حلو على كل اللى بيشتغل معاه    مسؤول أمريكي: إسرائيل شنت ضربات جوية داخل إيران | فيديو    منهم شم النسيم وعيد العمال.. 13 يوم إجازة مدفوعة الأجر في مايو 2024 للموظفين (تفاصيل)    انهيار منزل من طابقين بالطوب اللبن بقنا    تعديل ترتيب الأب.. محامية بالنقض تكشف مقترحات تعديلات قانون الرؤية الجديد    محمود عاشور يفتح النار على رئيس لجنة الحكام.. ويكشف كواليس إيقافه    والد شاب يعاني من ضمور عضلات يناشد وزير الصحة علاج نجله (فيديو)    الجامعة العربية توصي مجلس الأمن بالاعتراف بمجلس الأمن وضمها لعضوية المنظمة الدولية    الإفتاء تحسم الجدل بشأن الاحتفال ب شم النسيم    وزير الخارجية الأسبق يكشف عن نقاط مهمة لحل القضية الفلسطينية    أحمد الطاهري يروي كواليس لقاءه مع عبد الله كمال في مؤسسة روز اليوسف    سكرتير المنيا يشارك في مراسم تجليس الأنبا توماس أسقفا لدير البهنسا ببني مزار    بسبب معاكسة شقيقته.. المشدد 10 سنوات لمتهم شرع في قتل آخر بالمرج    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    دعاء للمريض في ساعة استجابة يوم الجمعة.. من أفضل الأوقات    جريمة ثاني أيام العيد.. حكاية مقتل بائع كبدة بسبب 10 جنيهات في السلام    إصابة 4 أشخاص فى انقلاب سيارة على الطريق الإقليمى بالمنوفية    طريقة عمل الدجاج سويت اند ساور    نبيل فهمي يكشف كيف تتعامل مصر مع دول الجوار    شعبة الخضر والفاكهة: إتاحة المنتجات بالأسواق ساهمت في تخفيض الأسعار    دعاء الضيق: بوابة الصبر والأمل في أوقات الاختناق    أخبار 24 ساعة.. مساعد وزير التموين: الفترة القادمة ستشهد استقرارا فى الأسعار    فحص 1332 مواطنا في قافلة طبية بقرية أبو سعادة الكبرى بدمياط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المورسكي التائه في الزمن
نشر في أخبار الأدب يوم 25 - 04 - 2015

أعتقد أن صبحي موسي لو خير في عمله لاختار أن يكون مؤرخا، فهو يكتب أعماله
( الروائية أو الشعرية ) بعد أن يغوص في أعماقها مفكرا في أحداثها، وفي شخصياتها، وفي فلسلفتها في مسار الحضارة، فهو مفكر كلي، يري العالم من خلال عدسة التاريخ الإجمالية، ولكن لأنه شاعر وروائي، فهو يمزج العالم المرئي بمشاعر وأهواء الناس، ويقف أمام خشبة المسرح التاريخي ليستوعب كل المؤثرات الضوئية والصوتية، ويخرج بالتالي ممتلئا بفلسفة الموقف العام، رائيا الصورة الإجمالية للعالم والأشياء والأشخاص، وكل ذلك من خلال أسطورة الفعل، وأسطورة الفكر، حاملا رؤيته العامة، وكأنها بديل للعالم، ولذلك هو يعتبر عاشقا للتاريخ الإنساني العام، أما الزمن فلا معني له أكثر من قدرته علي الانتقال من حدث تاريخي إلي آخر، بدون أن يبين لنا كيف حدث ذلك. ولذلك نجد التاريخ في أعماله السابقة هو الذي يحمل بطولة الرؤية، والقدرة علي صوغ أسطورة الرواية التي تنسج خلاياها من الأحداث التاريخية، ولكن، هذه الأساطير لا يمكنها إلا أن تنز من عناوين رواياته فقد أصدر من قبل أربعة أعمال روائية هي " أساطير رجل الثلاثاء""أساطير رجل الثلاثاء" التي فازت بجائزة أفضل عمل روائي في معرض القاهرة لعام 2014، و"صمت الكهنة" و"حمامة بيضاء" و"المؤلف" وخمسة دواوين هي "يرفرف بجانبها وحده" و"قصائد الغرفة المغلقة" و"هانيبال" و"لهذا أرحل" و"في وداع المحبة" ، فجسد هذه الكتابات ليس إلا نواة كم هائل ، يشتمل علي كل ما أنجز حوله ، والذي يتحول مع الزمن الي مجموعة من العناصر التأويلية التي تتحكم في مسارات المتخيل النقدي المصاحب لفعل القراءة أو المنتمي لبروتوكول القراءة ، ذاته . فالكثير من النصوص الخالدة تشكلها القراءة المتخيلة يوميا، وتدفع بها الي الواجهة ، بل إن عظمة عمق المتخيل الأدبي داخل نسيج هذه النصوص ، دفع بالنص المتخيل الي درجة مغادرة صاحبه نهائيا وتحقيق وجود مستقل يقع خارج الحالة الزمنية المرهقة والمغنية لكل التفاصيل المشروطة بالحياة والموت . فالقليل منا مثلا يعير أهمية كبيرة لسرفانتس ولكن كلنا نعرف دون كيخوتي (دون كيشوت ) وكأنه إنسان حي بلحمه ودمه ، وليست شخصية متخيلة زاحمت الواقع بقدراتها، حتي احتلت وحدها مساحة النص والكاتب معا. الشي ء نفسه ، وان بدرجة أقل يمكن أن يقال عن إيفا بوفاري في "مدام بوفاري" لجوستاف فلوبير،وعن شهرزاد في ألف ليلية وليلة ، والتي لا يشغلنا كثيرا كاتبها أو كتابها كعادة النص الشعبي، بل شهرزاد هي التي تشغلنا، وقدراتها علي الالتجاء الي الحكاية والمخيلة لإنقاذ ذاتها من الواقع المسطح واليومي والتاريخي. إن ما صنع هذه النصوص وخلدها هو قدراتها التخيلية وبياضاتها المستديمة القادرة باستمرار علي استفزاز القاريء ودفعه الي فعل إثبات جدوي القراءة الجديدة ، وتنميقها: "تنحو الكتابة ، والنص معا الي اللعب ومن ثمة لشرح ذاتها وممكناتها التقنية واللغوية والدلالية وتدخل في هذه اللعبة ذات الكاتب المخيبة وذات القاريء المستحضرة . إنها تستدعي متخيلهما معا ليشاركا في لحظة القراءة . الكتابة ، ويعيدا تشكيل صورة النص ، إذ بكل نص خصائص وثغرة دائمة متجددة الاشتغال تهدي للقراءة فراغها باعتباره موطيء قدم رغبات ومتخيل القاريء ومجال تجدد النص في الزمن والفضاء. إنها موطن القلق الذي يفترض التساؤل حول المعني، والتواصل والكتابة ويفجر مسببات القلق الأدبي (1) .
وإذا كان النقاد يرفضون الرواية التاريخية، متعللين أن التاريخ ثابت بلا خيال.. بل إن الواقعة قد انتهت، فما الذي يمكن إضافته في الرواية كحدثٍ منتهٍ ! لكن هذه المادة التاريخية التي كُتبت كخبر بارد بين السطور في كتب التاريخ، ألا تحتاج خطاباً شاعرياً ملهماً لاستعادة تلك القيمة المنسية من المشاعر؟ ألا تستحق إعادتها كعبرة وكقيمة بتطلعات معاصرة؟إن إعادة تفكيك الحوادث الماضية والمؤلمة وفهم تفاصيلها وتركيبها من جديد، ومن ثم إنشاء الخطاب الروائي حولها.. يحتاج إلي خيال كبير لتخطي الحدود إلي الرحابة المفتوحة، وليصبح التاريخ رواية كالحلم تسحر القارئ، بل يضعه الروائي المستلهم في عالم لم يعشه وهو يقرأ. ويتهم النقاد روائيي التاريخ بأنهم يلجؤون إلي مصادر ومرجعيات تاريخية ثم يخالفونها ولا يتبعونها، لذا فهم يسيؤون للتاريخ نفسه بل ويهينون الرواية، ليعتقد القارئ المتلقي بصحة النقل التاريخي، وتصبح الرواية مجرد وسيلة لبلوغ الهدف.ورغم أن الرواية الآن تطورت وأصبحت تحمل معاني سامية، لكن يخشي النقاد من ضعف الخيال الروائي الذي يعد العمود الفقري للرواية، وكذلك الخوف من أن يصبح السرد الفني كالخبر، وينزلق الكاتب في تلك القيود بين جوهر الرواية والحقيقة التاريخية.الإنسان يحتاج إلي إعادة التوضيح من جديد لفهم الماهيات التي يعيشها، عن طريق التاريخ والأدب اللذين بينهما ارتباط إنساني عظيم.من الذي يجري خلف الآخر، التاريخ أم الإنسان؟.. بلا شك التاريخ هو اللاهث وراء الإنسان من عصر إلي عصر، باحثاً مستفسراً عن حقيقته ودوره في هذا الكون، لذا حين يتكبد الروائي بحثاً عن تلك الحكاية التاريخية التي ثبتت في محلها بين السطور وفي رفوف المكتبات، متخيلاً تلك الحكاية البعيدة ليعبّر عن غرضه الحقيقي وهو نقل الحدث روائياً، ومن ثم نقل قولا ما لم يقله التاريخ، أليس ذلك فناً جديداً ومعياراً أدبياً مبدعاً؟
هل الرواية تاريخ؟
الإجابات المبلورة حتي الآن انطلاقا من هذا السؤال تضع الرواية كنص أدبي، ضمن مصاف التاريخ . وعلي هذا الأساس تبدأ في إنجاز مشروعها النقدي الذي يحاسب الرواية بمسطرة التاريخ المسبقة . ضمن منظور يعتبر الفعل التاريخي، فعلا منجزا ومغلقا وفق نمطية (منهجية ) مسبقة . هذا العقل الناقد، ما يزال حتي الآن ماثلا بيننا، بل وفاعلا ومقوما(؟) أحيانا. ويكفي أن أسوق مقالا بسيطا ومحرجا لنتبين فداحة هذا النقد الإحالي للتاريخ ، حتي عندما يتعلق الأمر بنص مبدع ، أي ببنية مؤسسة جوهريا علي عناصر ودلالات تحكمها عملية التخيل أكثر مما تحكمها التنضيدات التاريخية للوقائع والأحداث ، تلك هي "آيات شيطانية " لسلمان رشدي التي حركت الكثير من القراءات الأدبية النقدية ، العربية ، لتتحول فجأة الي قراءات في نص يفترض وكأنه من التاريخ ، وبدأت في تقييمه علي هذا الأساس (تهديمه ؟) ناهيك عن اعتماد هذه القراءات علي الإعلامي، واليومي، والأيديولوجي والاستهلاكي، وبدون قراءة للنص . ويكفي - الرجوع لكتاب ذهنية التحريم لصادق جلال العظم (2 ) لنكشف هول الفاجعة .
إننا لا نبحث عن التاريخ في الرواية، أو حتي عن وظيفة التاريخ في الرواية، بل نحن نبحث عن تقنية الجمال الأدبي؛ من صور وحركات وتشبيهات وإلهام ومشاعر مختلفة.. خاصة بعد أن تقرأ ذلك التعبير الوجداني عن هذا الإنسان وسيرته وحكاياته المؤرخة روائيا.( 3 )
ولكن هذه الرواية تمزج بين عوامل كثيرة متناقضة بل ومتضاربة فهي نوع روائيّ، نزعم أنّه يفيض علي الرواية والسيرة الذاتيّة معا؛ وهو السيرة الروائيّة. وهو ليس من أدب التراجم ولا الاعترافات، وإنّما هو من "الأجناس التخييليّة" أو هو قصّة وتخييل، أو هو ملتقي الفنّ والحياة؛ أو"الحق" الفنّي و"الحقّ" التاريخي. ونقدّر أنّ نصوصا غير قليلة لنجيب محفوظ وإلياس خوري وغادة السمّان وواسيني الأعرج تنضوي ضمن هذا الجنس الرائج الآن والذي يمكن أن نسميه "السرد التخيّلي" حيث يلتبس التاريخ بالواقع والسيرة والرحلة أو السفر. والسرد أو القَصَص مهما يكنْ نصيبه من الواقع، أو من الإيهام به، لا يعدو كونه تخيّلا أو افتراضا. وخير دليل لذلك هو اقتصاص أثر اللغة نفسها في هذا النمط من الخطاب، والعلائق المعقودة
بين القصّ أو الإخبار في السياق الذي نحن به، والقصّة أو الحكاية. فثمّة صلات وثيقة بين الإخبار والحكاية، سواء في المستوي الزمني أو في مستوي الشخصيّة. وفي المستوي الأوّل يمكن أن نرصد علاقة التسلسل التاريخي أو الترتيب الزمني المعقودة بين فعل السرد أو الإخبار والأحداث المنقولة، علي ضوء الطريقة التي تُروي بها. والسرد المتوخّي في الروايةّ.
ونجده يشرح طريقة تفكيره التي تمزج التاريخ بالرواية في حوار مع محمد أحمد محمد بقوله عن طريقة تفكيره في الكتابة عن ابن لادن، أنها كانت "حلماً أو مجرد افتتان فني" ثم طورت الفكرة إلي جماعات الخروج في التاريخ الإسلامي، الخروج بمعني طلب السلطة أو الحكم، مما اضطرني لعمل بانوراما تاريخية لاستعراض فكرة طلب السلطة تحت راية الدين أو باسمها، فوجدت أن الكارثة أكبر من مجموعة خوارج جدد يرغبون في الوصول إلي الحكم أو اكتساب سلطة علي الناس باسم الدين، فقد وصل الأمر إلي أن أهدرت دماء لا حصر لها، وكان من الممكن أن يكون الأمر أقل وطأة لو أن الخروج لم يكن باسم الحفاظ علي الدين، ولم يكن الحفاظ علي السلطة باسم الدين أيضاً، ومن ثم فقد رأيت تاريخاً دموياً طويلاً يبدأ من أول خلاف عقب وفاة الرسول" (صلي الله عليه وسلم) وحتي مقتل عثمان ليفتح الباب علي سؤال لم تتم الإجابة عنه طوال التاريخ حتي سقوط مبارك، وهو كيف يمكن تغيير الحاكم إذا اختلف الناس علي أدائه دون أن يلجأوا إلي تكفيره هو وأنصاره، وكيف يستجيب الحاكم لطلب الرحيل دون أن يعلن عليهم الجهاد باسم الحفاظ علي دين الله، هذا السؤال ظل مؤجلاً حتي أسقط الناس سلمياً نظاماً عاتياً، ولم يكن قد سقط حتي ساعة الانتهاء من كتابة الرواية. إن هذا التصور للموقف الروائي نبع من القدرة علي ملاحظة التاريخ، واستخراج المشاعر المصاحبة لأحداثه، والقدرة علي المقارنة بين ما حدث في زمن ما وما حدث في زمن آخر، فالزمن هو اللعبة الكبري للحياة، هو ما يجعل التاريخ ماضيا، كما أنه هو ما يجعل الحاضر مجالا للقياس علي ما حدث سابقا، ولأن الزمن لا يمكن الإمساك به، فإنه كموج البحر ما يمضي لا يعود.
يقول صبحي موسي عن طريقة عمله في روايته السابقة (أساطير رجل الثلاثاء) إن المادة التاريخية كانت ضاغطة علي العمل بشكل واضح، وإنني لا بد من أن أتخفف كثيراً منها، فقد كنت أوردت صفحات من كتب التاريخ ومذكرات الجماعات وغيرها، كانت الفكرة توثيقية بامتياز، لكنني بدرجة كبيرة أكره فكرة العمل التوثيقي، وأشعر بأن الوثائق تخرج القارئ عن الموضوع، وتحول الأمر إلي كتاب علمي، وتحد من قدرة الكاتب علي التخيل وتوظيف المادة الوثائقية، الأمر الثاني أنني شعرت بأن المادة التاريخية التي ضمنتها كانت في سردها ولغتها أكثر أسطورية من كتابتي، وأنها بمثابة النص الأعلي والأكثر فتنة" وهنا يحدث الصدام بين التاريخ والرواية، فالتاريخ يحكي عما هو ثابت، وماض، ومتعال علي الزمن. أما الرواية فتعزف ألحانا من المشاعر التي لم يرها أحد، لا المؤرخون، ولا سواهم، ولا يستطيع أن يستعيد هذه الألحان إلا الروائي الموهوب القادر علي بناء عالم من الخيال يشرح ما غمض عنه المؤرخون، ويستعيد ما ضاع في حلقات الزمن الضائع.
وهذا هو عين ما حدث في رواية المورسكي، يمكن القول إن لعبة الزمن وتفتيته وتقسيمه علي عدة مسارات كانت الحاكم الرئيس في رواية "الموريسكي الأخير"، فقد قام كل زمن سواء القديم أو الحديث علي عدة أزمنة، أولها الحاضر ثم الماضي والماضي التام، ففي الزمن القديم قام الجد محمد بن عبد الله بن جهور بكتابة يوميات وأحداث ثورة البشرات الكبري التي شارك فيها هو ووالده، كما كتب أحداث الطرد التي شهدها بنفسه حتي مات في شفشاون بالمغرب بعد سنوات من الطرد، وفي خلال ذلك جاء الماضي البسيط الذي حكي فيه عن أولي ثورات الموريسكيين في الأندلس وهي ثورة البيازين عام 1495، أي بعد ثلاث سنوات من سقوط غرناطة، وهذه الثورة التي كانت جدته سبباً فيها حين خرجت بجواريها وخدمها إلي السوق فاعتدي الجنود الأسبان عليهن، مما جعل المسلمين يتجمعون لنصرتها فقامت الثورة التي سيطروا فيها علي حي البيازين واعتلوا أبراجه مغلقين أبوابه علي أنفسهم معلنين مجلساً ثورياً لقيادتهم، لكن هذه الثورة لم تستمر كثيراً، فسرعان ما أبدي الأسبان جانب الود وتنازل الثوار عن غضبتهم وفتحوا أبوابهم للإسبان الذين سرعان ما غدروا بهم وقاموا بتهجيرهم خارج البيازين وغرناطة، ثم جاءت إيزابيلا بنفسها إلي غرناطة لتعلن قرارها بالتنصير الإجباري علي كل من في الأراضي الأسبانية، ولأن الغالبية العظمي منهم كانت من المسلمين، وقلة قليلة كانت من اليهود، فقد ظهر مصطلح الموريسكيين الذي يعني النصرانيين الجدد، وهو مصطلح مأخوذ من كلمة مورو أي مغربي، فكل مسلم بالنسبة لهم كان مغربياً لأن المغرب كان المحطة التي انطلقت منها المسلمون من الشاطئ الجنوبي للمتوسط إلي الشاطئ الشمالي له، أما الماضي التام فكان ضرورة لإعطاء مقارنة بين ما يحدث الآن في العالم العربي من تقسمات ونزاعات وحروب الطائفية، وكان هذا الزمن بعد سقوط الخلافة في قرطبة وظهور ملوك الطوائف واستعانتهم بالأسبان أو القشتاليين لمحاربة بعضهم بعض، ومن ثم فقد رصدت الرواية هذه الحالة من الفوضي التي سادت قرطبة مع ظهور البربر بها، والتي انتهت بإنهاء الخلافة وتولي بني جهور الحكم، ليصبح الحزم بن جهور هو الجد الأول في الرواية لعبد الله بن جهور بطل أحداث ثورة البشرات العظمي ومؤسسها، بينما ابنه محمد هو كاتبها وراصد ما حدث من بعدها حتي ثورة بلنسية التي انتهت بقرار الطرد.
لعب موسي في هذه الرواية علي ثنائية الزمن بين الحديث والقديم، فقد بدأت الرواية بفصل في ميدان التحرير يرصد وقائع ثورة المصريين ضد مبارك ونظامه، أي ثورة الشعب ضد الحاكم، أي حاكم، وليكن الخليفة، أي الحاكم باسم الدين، ويتضح ذلك حينما نقرأ الأسئلة التي دارت في ذهن المؤلف، عن الشعب، وكيفية خلع الحاكم، وهل يجوز ذلك؟ وكيف يتصرف الحالكم المسلم في مثل هذا الموقف؟ ليكون هذا الفصل خطاً ظل يتقاطع في مساره مع الخط القديم الذي يبدأ مع أحداث السقيفة ويمتد علي طول جسد التاريخ الإسلامي - الذي يرصد حياة الموريسكيين في الأندلس حتي تهجيرهم عنها ما بين أعوام 1609 حتي 1613، وذلك عبر شخصية مراد رفيق حبيب وابنة عمته ناريمان وسعيهما لاسترداد وقف العائلة الذي خصصه جدهما الملتزم عطية الله لعائلة الموريسكي ورواق المغاربة بالجامع الأزهر، ظل هذا الخط يمتد ليرصد أحداث الثورة المصرية في ظل حكم المجلس العسكري وأحداث محمد محمود ومجلس الوزراء وبرلمان الإخوان حتي وصول الإخوان إلي الحكم، لنجد أنفسنا أمام لحظة تتشابه مع التاريخ القديم، حيث محاولة فرض دين بعينه علي المصريين، وظهور جماعات دينية موالية أخذت تقوم بدور محاكم التفتيش، لتنتهي الرواية وتلك الحقبة بسقوط حكم الإخوان في الثلاثين من يونيو، وليتحول الإخوان من جماعة كانت ترغب في فرض دينها إلي جماعة راغبة في هدم الدولة المصرية التي فشلت في جمع شملها.
يحدثنا (بول ريكور) في سلسلة (الزمان والسرد) عن (التصور السردي)، وهو عبارة عن عملية تصوُّر تنتجها المُخيلة المنتجة، ويفترض افتراضاً أن (التصوُّر) هو مصطلح مرادف (للقصص الخيالي)، إلاَّ أن هذا الافتراض سينتج عنه عدم إيجاد مصطلح يوضح العلاقات المختلفة بين هذين النمطين السرديين بمسألة الحقيقة. وإذن يشترك السرد التاريخي والسرد القصصي في كونهما ينبعان من العمليات التصورية نفسها التي يضعها (ريكور) تحت مسمي (محاكاة)، ولذلك فإن ما يخلق الضدية بينهما لا يتعلق بالفاعلية البنيوية المبثوثة في بنيتيهما السرديتين بوصفهما كذلك، بل ما يتعلق ب (ادعاء الصحة) - علي حد تعبير ريكور- الذي يميز العلاقة المحاكاتية الثالثة، وهي ستقودنا إلي العلاقة المحاكاتية بين (الفعل)و(السرد) التي تعتمد علي تعميق فكرة (الحبك) في مواجهة الفهم السردي الذي شكَّله اعتيادنا علي المرويات التي تتناقلها ثقافاتنا، مع العقلانية التي يستخدمها علم السرد اليوم، وإذا تساءلنا عن الفرق بين الرواية والتاريخ، لوجدنا أننا أمام شبح التاريخ، أو جسده المقطّع، كما يتصوره دعاة ما بعد الحداثة المشككون بتخريجات علم التاريخ.. فالكاتب لايأبه لعلاقات الزمن الكرونولوجي التراتبية، فهو حر تماما في الانتقال من زمن إلي آخر، بنفس القدرة السحرية التي تمكنه من الانتقال في المكان بلا أي عائق، فالرواية تبدأ من ميدان التحرير، ومن ثورة شعب ضد حاكمه الظالم، إلي ثورة شعب آخر ضد حاكمه الظالم أيضا، تماما كما حدث في زمن الخوارج وصولا إلي ثورة البشرات، وامتدادا إلي ثورة الموريسكيين، والكاتب حر أيضا في رسم شخصياته، فمن الممكن أن يتحول مراد إلي المورسكي، فالكاتب يذكر مراد باسمه هذا، وبعد سطور قليلة يذكره بأنه المورسكي، والعكس صحيح، خصوصا في الفصل الختامي الذي يعود بالشكل الروائي إلي الشكل الدائري، وبذا يتركنا الروائي في حيرة من أمرنا لأنه انطلق في رحاب الحرية الفنية بلا أي معوقات ولا موانع، ولكن عالمه الذي شيّده مقنع لأن مادته من طين الواقع وقد أعيد تشكيله بقدرة الفن، ولأن النص الذي أنجزه زائف بالمعيار الواقعي، من جهة ثانية. لكنه يتوفر، بالرغم من ذلك، علي الشرط الأساس في كل عمل سردي.. أقصد؛ الصدق الفني والقدرة علي الإقناع.
الهوامش :
1 - فريد الزاهي، الحكاية والمتخيل . افريقيا الشرق . الدار البيضاء ، 1991ص.
2- صادق جلآل العظم . ذهنية التحريم .دار نجيب الريس . لندن 1992.
3 ريم الكمالي، الرواية التاريخية والنقاد، مقال علي الشبكة العنكبوتية في 13 مارس 2014.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.