في مشوار حياتي ما أسميه شخصيات مفصلية شاحنة لبطارية المقاومة والصمود من أجل تجاوز الحواجز وعبور المستحيل، كان أحدهم عبدالرحمن الأبنودي، كان في منظوري- منذ تفتح إدراكي لدور المثقف في وطني ومجتمعي- هو القادر دائماً علي اختزال المسافات بينه وبين الناس من أعلاهم إلي أدناهم، وهو المؤثر فيهم بالفن وحده بدون وسيط اللغة والتعليم والثقافة، هو الكاشف عن جوهر الثقافة العميق في وعي وحكمة ووجدان الشعب، وذلك لإيمانه بأن هذا الشعب مالك لثقافة أكثر حكمة ونضجاً في كثير من الأحيان مما يمتلكه المثقفون المؤمنون بواجبهم في النهوض به، ومن ثم كان الأبنودي الأبعد بصيرة وبساطة في إعادة إنتاج وصياغة هذا الوعي الثقافي والفكري للبسطاء في إبداع جديد يتجاوز بدوره المسافات بين فن للنخبة وفن للجماهير، محملاً- عبر أدوات شعره العبقري- بالغ السلاسة والتركيب معاً بقيم دافعة للمقاومة وبشحنة إنسانية تفتح القلوب والعقول في التو واللحظة لاستقبال رسالته، التي لها فعل السحر في نفوس الجموع الغفيرة، وتفجر مكنونها التاريخي من الخبرة، وتعيد اكتشاف مفاتيح ذواتهم وتدفعهم نحو وعي جديد. في أوائل الستينيات جمعتنا الغرف الصغيرة في إحدي شقق البدروم في حي العجوزة، التي أسميها مستعمرة العجوزة، إذ تحتضن الطلبة الفقراء النازحين من أقاصي البلاد مملوئين بالمواهب والرؤي والأحلام، مشحوذين كحد المشرط لخوض قضايا الوطن والحرية والتغيير واتخاذ الإبداع طريقاً وغاية: رسامون ونحاتون وشعراء ومفكرون، وفي حلمهم تحقيق مشروع ثورة يوليو بالعدالة الاجتماعية والتحرر الوطني، وفي وعيهم بقضايا الثورة في العالم الثالث آنذاك، وفي ذاكرتهم في ذات الوقت أسماء من امتلأت بهم سجون ثورة يوليو من نبلاء المثقفين اليساريين الذين آمنوا بعبدالناصر حتي وهم وراء أسوار سجونه ومعتقلاته في فيافي الصحراء.. هذا التناقض الذي كان يشكل مأزقاً تاريخياً للمثقفين الثوريين، ربما لايزال مستمراً حتي اليوم، لكن قصائد الأبنوي وسيد حجاب وأمل دنقل، وقصص محمد جاد وحافظ رجب والدسوقي فهمي، ورسوم نبيل تاج واللباد وجميل شفيق وبقشيش وعدلي رزق الله، وتماثيل مصطفي الحلاج والوشاحي، ومناظرات سيد خميس وخليل كلفت.. وغيرهم كانت تحل هذا التناقض باقتناعنا أن قدر الفنان والمبدع الثوري يكون دائماً علي يسار السلطة ومعارضاً مهما كان لهيب سوطه أو بريق ذهبه، حتي لو اتفق معه.. من بيننا كان صوت الأبنودي.. الصعيدي الخشن القادم بعبله من أقصي الجنوب بغزارة مخزونه المعرفي واللغوي وموهبته الشعرية الطاغية، وكان هو الأعلي والأقدر علي حل المعادلة الصعبة بين الواقع والحلم، وبين لغة النخبة ولغة الجماهير، بشحنة مغناطيسية لا تقاوم. كان تأثير الأبنودي وشلة مستعمرة العجوزة علي شخصيتي في تلك الحقبة المبكرة من أسباب انغماسي في العمل بالثقافة الجماهيرية في الفترة من 1963 حتي 1968، خاصة في تأسيس وإدارة قصر الثقافة بكفرالشيخ عام 1966، وكان الأبنودي آنذاك في السجن مع مجموعة من المثقفين اليساريين، وأفرج عنهم قبل حرب 1967 بقليل، وكانت المجموعة تضم إلي جانب الشعراء والمثقفين، عدداً من النشطاء اليساريين في محافظة كفرالشيخ، الذين أصبحوا قوة دعم هائلة لتجربتي في القصر بعد ذلك، ولحق بهم الأبنودي وأصبح من الزوار الدائمين للقصر والمشاركين في فعالياته الجماهيرية، ليس دعماً لي فحسب، بل سعياً للوصول بشعره إلي جموع الفلاحين الذين اجتذبتهم قافلة الثقافة وملأوا الأجران في شتي قري المحافظة، لقد وجد الأبنودي في هذه الجموع الغفيرة ضالته التي عصمته من متاهة صراعات المثقفين مع السلطة ومع بعضهم البعض في القاهرة، بل عصمته من متاهة دهاليز الفن الغنائي التي كادت تبتلع موهبته، وكتب لي الأبنودي في صبيحة أحد الأيام بعد أن ألقي قصائده ليلة أمس وسط آلاف الفلاحين وتفاعله معهم كتب: إنك بتجربتك تخلق من الضعف قوة ومن الظلام نوراً.. يضيء لنا قبل أن يضيء لهؤلاء الفلاحين. وعندما حاصرتني قوي الظلام بكفرالشيخ حتي استلبت طاقتي علي المقاومة عام 1968، كانت شقته القديمة قرب ميدان الفلكي ملاذي ومنقذي من الاستسلام، فكان مع أصحابنا من المناضلين الشرفاء ورفاق السجن شحاناً لبطاريتي للمقاومة والاستمرار بعد أن أوشكت علي النضوب. حقاً لقد فرقت بيننا السنين والسجون والمشاغل والهموم، لكن ذلك كله لم يضعف شحنة بطاريتي الدافعة لمواصلة المشوار حتي الآن، وحينما كان يتم بيننا لقاء أو اتصال تليفوني كانت ذكريات كفرالشيخ حاضرة بيننا دائماً، وعابرة لمتغيرات المراحل وأنظمة الحكم وصراعات الديكة بين المثقفين، وظل دائماً حتي آخر مكالمة ملهماً لي وداعماً لصمودي.. فهل لمثله أن يموت.