بقراءة »جوابات حراجي القط« للشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي يجد القارئ نفسه أمام بناء قصصي مكتمل الأركان، رواية، أو حكاية شعرية، أو متتالية قصصية، في رسائل شعرية متبادلة، بين حراجي القط الأسطي بالسد العالي وبين زوجته فاطمة أحمد عبد الغفار في جبلاية الفار، حكايات منفصلة متصلة، علي مدار عامين من العمل في بناء السد العالي، يرصد من خلالها الشاعر أحداثا خاصة بجبلاية الفار وأهلها، وأحداثا عامة وقومية مثل حكاية السد وتفاصيل العمل فيه، والتنقل بين مكانين السد العالي في أسوان، وجبلاية الفار بقنا، مبرزا في هذه الرسائل مشاعر إنسانية بالاغتراب وبالأشواق والحنين للعودة إلي الأسرة الصغيرة والوطن الصغير والأهل، جنبا إلي جنب مع مشاعر الصبر وتحمل قسوة العمل الشاق وسط آلاف من العمال من مختلف ربوع مصر، في خروج متكرر من الخاص إلي العام والعودة، مؤكدة علي قدرة العامل البسيط علي الاستنارة، وتوسيع المدارك والأفق بالخروج من الإطار الضيق للحياة في القرية، فيتطور وعيه وتتغير نظرته إلي الحاج حسين العكرش مقاول أنفار، حين يكتشف أنه يجمع العمال من القري ويأخذ نصيبا من عملهم، في مقابل مادي. وتعتبر بنية الرسائل إحدي البني الروائية التقليدية التي تعتمد علي تقديم عالم روائي مكتمل من خلال رسائل وخطابات متبادلة، ولعل فصول هذه الرواية المتمثلة في خمسة عشر رسالة من حراجي إلي فاطمة ومثلها منها إليه، تجسد اللوعة والاشتياق الإنساني من حراجي إلي أسرته في قنا، إن فاطمة أحمد عبد الغفار في هذه الرواية الشعرية تمثل النموذج المصري للدور الذي تلعبه المرأة الريفية في حياة أسرتها وبيتها خاصة في غياب زوجها الصعيدي والذي يتغيب لفترات طويلة تمتد لشهور، فتتحمل وحدها تربية الأولاد وإرسالهم إلي الكتاب، والقيام بالواجبات الأسرية والاجتماعية، وتتكفل بفضل منظومة قيم راسخة ومستقرة بالحفاظ علي عرضه حتي عودته، متحملة في سبيل ذلك الكثير من مشاق يشف عنها النص برهافة في علامات الاشتياق المتبادلة. كما يمثل حراجي القط العامل في السد العالي الشخصية المصرية البسيطة التي لا يتجاوز سقف أحلامها أن يتعلم الولد عيد حتي يجد فرصته في الحياة من دون أن يمر بالمصاعب التي يمر بها حراجي، كما يمثل النموذج التقدمي الذي ما إن تتاح له الفرصة فيلتقي بالمهندس طلعت المنتمي لتنظيم شيوعي أن يفهم منه قيمة العلم وأهميته، كما تتفتح مداركه علي شروح مبسطة للمبادئ التي تنادي بها الاشتراكية، وتتناثر في ثنايا الخطابات مفردات عن العامل، وعن العدالة الاجتماعية، بما يعبر عن الأفكار السياسية والاقتصادية التي كانت مطروحة في هذه الفترة، وتبدو هذه الأيديولوجية في ثنايا الخطابات، مضفرة في سطور الشعر، بلغة بسيطة تخلو من جمود اللغة الأكاديمية التي تقدم بها هذه الأفكار عادة. وتلعب الشخصيات الثانوية دورا بارزا في هذه الرواية الشعرية، في رسم باقي تفاصيل العالم الروائي، وجعله أكثر التصاقا بالواقع، فعلي أب عباس رفيق حراجي في السد خفيف الظل ومهرج ومستهتر ولا يرسل خطابات إلي والدته وهو وحيدها في الجبلاية، وتجلس علي عتبة الدار وهي لا تعرف عنه شيئا سوي من خطابات حراجي، وتوصي فاطمة زوجها بأن ينصحه بمراسلة أمه العجوز التي تنتظر أمام باب الدار حتي ضعف بصرها والشيخ قرشي الذي يطلب من فاطمة الذهاب إلي السوق وشراء قلمين بوص ولوح اردواز ليتعلم عيد في كتاب الشيخ قرشي مبادئ القراءة والكتابة وسور القرآن، كما أن نظلة أخت الراوي، التي ولدت وعادت لزوجها الحاج ركابي، وقيام فاطمة بأداء الواجب تجاهها، وأفراد القرية قليلون كأسرة كبيرة، ويوشك حراجي أن يذكرهم بالاسم فيبدأ بالحاج التايب، لكنه يكتشف أن الورقة لن تتسع لهم فيشملهم جميعا بالسلام بدءا من الحاج طلب حامد إلي عيلة بيت علي سعيد. وكما تعد رسائل حراجي القط العامل في بناء السد العالي وثيقة حقيقية لحال الأسرة المصرية في الريف، في منتصف القرن الماضي، خاصة في الصعيد، وتعبيرا كاملا عن كافة القيم الاجتماعية والعادات والتقاليد الريفية التي تعكس الترابط الاجتماعي وروح التكافل بين أفراد هذا المجتمع الريفي، فإنها تعتبر أيضا وثيقة سياسية علي المرحلة الناصرية وشهادة حقيقية علي أحد أهم مشروعات النهضة المصرية في هذه الفترة وهي بناء السد العالي، وستظل أيضا هذه الخطابات شاهدا علي عبقرية عبد الرحمن الأبنودي، الشاعر الحكاء العابر والمتجاوز لزمانه ولجيله، ودليلا دامغا علي أن مشروعه الفني يلتقي في مجمله بجوهر الشخصية المصرية.