جاء محمولا علي أجنحة من خيال ،وحلّق عاليا في سماء القاهرة ،وانتشر في مقاهيها ومراكزها الثقافية ،وكان مجندا في مطلع الستينيات في القوات المسلحة ،وكان يجلس مع رفاقه في المقاهي ،ويذهب إلي الندوات ليقرأ شعره ،ولا يخلع زيه العسكري ،وتعرّف علي رفاق المرحلة مثل سيد خميس وغالب هلسا وابراهيم فتحي ،وطبعا كان يعرف يحيي الطاهر عبدالله وأمل دنقل ،باعتبارهم أبناء بلدته ،وانتمي إلي الثقافة اليسارية ،رغم أن والده كان أزهريا ،وحافظا للقرآن ،"كان الوالد معلم اللغة العربية"،أي أن ثقافته تقليدية ،واستطاع الشاب عبد الرحمن الأبنودي أن يهضم اللغة العربية هضما جيدا، ورغم أنه شاعرا للعامية ،إلا أنه أبدع في الكتابة النثرية باللغة العربية. جاء الأبنودي حاملا لثقافته القروية الأصيلة والعميقة ،حاملا لفلكلورها الخاص والنوعي والفاتن،وظلّ متحدثا بلهجة بلاده حتي رحيله ،ولم تتغير بساطته ،ولا انسانيته ،ولا توجهاته،ظل محبا للناس في ذهابهم وإيابهم ،وفي أحزانهم وأفراحهم ، عندما انتصر المصريون في 1973 ،غني المصريون علي كلماته ،وقبل ذلك كتب حماسياته العبقرية في هزيمة 1967، لا يستسهل الكتابة ،ودوما يخوض تجاربه العميقة ،والتي تليق بشاعر انساني كبير ،مثله مثل لوركا الإسباني ،وأراجون الفرنسي ،وبابلوا نيرودا التشيلي ،وناظم حكمت التركي ،ولم ينحبس في جدران إقليمية ضيّقة ،بل راح ليسبح في فضاء العالم والتاريخ والأزمنة كلها. قدمه صلاح جاهين في مجلة "صباح الخير"،عام 1961،في بابه الشهير "شاعر عامية يعجبني"،وأثني علي قصائده الأولي ،ونشر له قصيدة "الطريق والأصحاب"،والتي يقول فيها: (وابتسم قلبي الجريح.. زي أي شراع في مركب ..يتعدل.. يضحك لريح.. طلعت البسمة عروق من غير ورق .. بسمة هاربة من جحيم الجرح.. من ليل القبور.. قلب بور.. هاج عليه فيضان أمل.. ابتسمت..) واستطاع الشاعر الشاب ،أن يفسح لنفسه مساحة مهمة ولافتة في فضاء الإبداع ،واستطاع أن يقف بجوار شاعرين عظيمين آخرين كانا ملء السمع والبصر ،هما فؤاد حداد وصلاح جاهين،واستطاع كذلك أن يدخل قلوب الناس ، رغم لهجته المختلفة ،وصوته الجنوبي الحاّد واللين في الوقت ذاته. لم تكتف الحركة الشعرية بتقديم صلاح جاهين له ،بل كتبت عنه الصحف الأخري والمجلات ،وأذيعت قصائده في "البرنامج الثاني"،عندما كان مسموعا بشكل جيد ،وعندما كان وجوده ضرورة ،ونافذة للقثقافة الجادة والعميقة. حدث كل هذا الرواج قبل أن يصدر له ديوانه الأول ،والذي صدر في منتصف عام 1964،وهو ديوان "الأرض والعيال"، والذي كتب له دراسة نقدية عميقة وشاملة الناقد سيد خميس ،واعتبره الشاعر الثاني الذي جاء من الصعيد ليكون شاعرا كبيرا ،أما الشاعر الأول فهو "ابن عروس". قال سيد خميس في دراسته الأولي عن الأبنودي :"صعيدية الشاعر ،هي السمة التي تطل علينا ،وتفرض نفسها منذ أن تعانق عيوننا شعر الأبنودي ،حتي تنتهي رحلتنا في هذا الديوان البكر ،إنه أول شاعر صعيدي في تاريخ أدبنا الحديث ، وإذا كان كاتبنا العظيم نجيب محفوظ قد استطاع أن يستجيب لقضايا العالم والواقع والعصر في أعماله الرائدة ،واستطاع أن يتناول هذه القضايا من خلال تجربة القاهرة ،بل من خلال تجربة الأحياء الوطنية فحسب ،فإن هذا الشاعر الموهوب وزميله يقصد سيد حجابيحاولان بشعرهما ماصنعه الكاتب الأب برواياته ،رغم فارق العمر والثقافة والجنس الأدبي". ولم تكن كلمات سيد خميس رفيق حياة الأبنودي كاذبة ،ولم يكن مبالغا فيها عندما قارنه مبكرا بعميد الرواية العربية نجيب محفوظ ،فهو صار كذلك عميد شعر العامية المصرية ،أو عميد الشعر الشعبي في مصر ،وصار له أبناء وأحفاد وتلاميذ، وله في كل بيت محبون وعشاق وحفظة لأشعاره التي دخلت إلي قلوب الناس دون أدني تسويق مبتذل. وهذا لأكثر من سبب ،وأول هذه الأسباب ،أنه عرف وخبر عمق محمول مفردات ومعاني الروح المصرية ،وكذلك استطاع أن يعبّر عن مايشغل الناس ،فلم يذهب للتعبير عن قضايا وهموم غرائبية بعيدة عن الناس ،ولكنه كتب وفقا لقوانين وأحلام وأشواق الناس ،ففي المقدمة التي كتبها لديوانه "أنا والناس"،يقول: (قابلت ناس كتير وعاشرت ناس كتير قابلت ناس حبوني ..حبيتهم.. وقابلت ناس .. حبيتها من قلبي وما حبتنيش.. ضحكت مع ناس زعلت مع ناس تلاتين سنة واكتر.. ماشي وعيني مابطلت بصّ في عيون الناس بسطتني حاجات كتير وأذتني حاجات كتير كنت أبقي فرحان ساعات وأبقي زعلان ساعات كله بسبب الناس). ولا يبالغ الأبنودي في أهمية الناس عنده ،فهو كتب في هذا الديوان منحازا لهم بامتياز ،ولقضاياهم ،ودون أي ادعاء ولا لبس ،فيكتب عن أحمد أبو العدل وخديجة حمدان وكابوريا وعبد العزيز لمونه وفاطنة قنديل "أمه" والزفري وحسين المراكبي وغيرهم ،وشعريته غير قابلة للافتعال أو التصنع أو اللبس أو الغموض ،فهو واضح كشمس ،وليس واضحا في خفة ،ولكن في عمق ،فهو يكتب عن الخفير أحمد أبوالعدل ،ليس واصفا لحاله ،بقدر ماهو يشتبك مع تلك الحالة ،فيقول: (أحمد أبو العدل عمره ماقرا كتاب في السياسة أو يعرف إيه يعني كلمة اقتصاد بل إنه عمره ماقرا حاجة.. لإنه زي مامعظم فلاحين المصريين أميين عم احمد ابو العدل راجل أمي..) ويستطرد: (ومعاه ختم بيختم بيه أوراق الدولة ويقبض بيه الخمسة جنيه مرتبه آخر الشهر وعم احمد بو العدل مزارع وبيزرع فدان واحد لاغير مابيملكهوش.). ولم يكن انحيازه للحق وللحقيقة ،أو لقضايا الناس المطحونين جديدا عليه ،ولم يكن انحيازا أيديولوجيا ،بقدر ماكان انحيازا انسانيا وفنيا وطبيعيا ،فهو سليل الانسانيات العظمي ،ولم يخن طبقته أبدا ،ولم يجلس في برجه العاجي ليتفرج علي الناس من فوق أو من بعيد ،بل إنه كتب كتابه الضخم "أيامي الحلوة"، ليروي فيه عن تاريخه الواقعي كله ،وليس تاريخه المتخيل أو المصنوع ،وكتب تقديما واضحا ،يصل إلي درجة البيان ،ليفصح عن مكنون روحه لكتابة هذا الكتاب ، وأهداه إلي ابنتيه "آية ونور"،وفي هذا الإهداء يقول : "حين تكبر آية ونورسوف تكون مهمتهما صعبة في المزع علي قريناتهما بأنهما من نفس طبقتهن ،لأني في هذا الكتاب أحاول أن أفسد عليهما الأمر..لا أظن أبداأنني سأنجح أو أحاول إقناعهما بأن أيامي الحلوة تصلح مادة للفخر في هذا المجتمع المادي جداالذي تعيشانه ،لكنني وإلي أن أرحل سوف أظل مدينا لقريتي "أبنود"،وسوف أظل أشكر الأقدار علي أن وهبتني تلك الطفولة الغنية التي قد يراها البعض فقيرة وقاسية ومعذبة...". هذا بعض من ما كتبه الأبنودي في إهدائه إلي ابنتيه ،فهو لا يتنصل من ماضيه الاجتماعي والطبقي والثقافي ،بل بالعكس ، فهو يفخر به ،كما يفخر بقريته ،ويعتز بها ،ويعتبر كتابه الضخم "أيامي الحلوة"،بمثابة التخليد الأقصي والأبقي لهذه القرية ،ولناسها ولتقاليدهم ولعاداتهم ولأحداث حياتهم ،فهو يروي ويسرد ويتأمل تلك الطبائع التي أتي بها أبناء بلاده ، وهي طبائع مثيرة مدهشة ،وتستحق أن تخضع لأشكال من الدرس الاجتماعي والنفسي والثقافي ،فهو قدّم المادة الخام والبكر ،وعلي الدارسين أن يدرسوا ويفحصوا ويتأملوا ،ليخرجوا ولنخرج معهم بنتائج بالتأكيد ستكون مثمرة وعظيمة. وبالإضافة لهذه السمات التي صاحبت شعره الأول ،وفي مقتبل تجربته الشعرية والانسانية الغنية جدا ،والتي تعتبر من أغني الحقول الخصبة ،والتي تعطي مجالات بحثية متعددة ، هناك أوجه كثيرة جدا أتت بها تجربته ،خاصة قصائده عن وفي المرأة عموما ،وقصيدته العظيمة "يامنة" ترشدنا علي هذا المنحي العادل والمنصف والطبيعي الذي كان يتخذه الأبنودي في كتابته ،وفي حياته قبل كل شئ ،وكان يعمل علي تسفيه النظرة الموروثة الدونية والتراثية التي تضع المرأة في مقدمة المضطهدين. وكذلك ديوانه "جوابات حراجي القط"،وفي هذا الديوان يمنح مساحة واسعة لتمجيد وتخليد فاطنة أحمد عبد الغفار ،زوجة حراجي القط في السد العالي ،والذي كان يرسل لها رسائله من هناك ،والتي تصلها في جبلاية الفار ،والتي كان يقدمها قائلا : (الجوهرة المصونة والدرة المكنونة زوجتنا فاطنة أحمد عبد الغفار) وفي هذه الجوابات لا يتواني حراجي من تقديم كافة أنواع الحب والتبجيل والتقدير لزوجته ،والتي يناديها ب"زوجتنا"،واستخدام "نا" الفاعلين هنا ،هو نوع من التعظيم لها ،ولا يتواني من إعلان "كسوفه" منها لتأخيره عن الإرسال ،فيقول لها : (أما بعد.. إذا كنت هاودت كسوفي ع التأخير .. واللهي ماكنت حاخط بيدي حرف سامحيني يافاطنة ف طولة الغيبة عليكم وأنا خجلان خجلان وأقولك يازوجتنا أنا خجلان منكم من هنا للصبح..) وتستمر الخطابات علي هذه الوتيرة التي تعلن عن مساحات وردية وغنية تعمل بقوة في العلاقة بين حراجي وزوجته فاطنة ،والاثنان يرمزان إلي طبيعة العلاقات بين المرأة والرجل كما يراها الشاعر ذاته ،وكما تعبّر عنها الحقائق الاجتماعية كما يعرفها ويجيد قراءتها ،بعيدا عن هذه التسخيفات التي ترد في كتابات أخري ،فالأبنودي الصعيدي الخشن والجامد شكلا ،فهو يذوب عشقا في المرأة المحلوم بها والمتخيلة والواقعية ،أي كانت المرة ،فهي فاطنة قنديل الأم ، وهي فاطنة أحمد عبد الغفار زوجة حراجي القط ،وهي يامنة ،العمة ،وهي أم علي في "وجوه علي الشط"،والتي كانت ترافق زوجها في صحوه ومنامه ،وفي صبحه ومسائه ،وفي كدّه وراحته ،وهي لا تقاسمه الحياة فقط ،بل هي تنتج معه أكثر مما ينتج هو ،ولذلك كان هذا الزوج المزارع يعمل لها ألف حساب كما تقول أشعار هذا الديوان. وللأبنودي تجربة مثيرة في جمع السيرة الهلالية ،وكانت هذه السيرة هي أحد أحلامه ،وظل يكافح حتي اقتنعت الجهات المسئولة بإنشاء مركز لهذه السيرة. ولم تكن السيرة الهلالية فقط هي التي أعطت للأبنودي هذا البعد العربي الذي جاء في جمعه للسيرة ،بل توفر هذا البعد في كثير من القصائد والأشعار ،وهناك ديوان كامل أهداه لناجي العلي ،الفلسطيني الذي اغتالته الأيدي الشريرة في لندن ، هذا الديوان هو "الموت علي الأسفلت"،والذي يقول في مطلعه : (ياقبر ناجي العلي..وينك ياقبر ياقبر معجون بشوك مطلي بصير الموت يقرّب عليك ..يرتد خوف وإذا ماخافش الموت ..يرتد جبر ياقبر ناجي العلي ..يادي الضريح كان ميتك للأسف وطني صريح تحتك فتي ناضر القلب ..غض كان قلبه ..أرض مخيمات الصفيح) وهكذا تتحدد وتتسع وتتمدد تجربة الأبنودي في جهات عدة ،ولا تستطيع أي كلمات سيّارة للإحاطة بهذا العالم المترامي ، ولا بتلك القسمات والملامح المتشعبة ،ولكنها تحتاج إلي دراسات عميقة ،ونأمل في هذه المؤسسة التي تدعي "وزارة الثقافة"،لكي تقيم مؤتمرا واسعا لدراسة هذه الظاهرة الاستثنائية في الشعر المصري والعربي ،ولكم تأخرت وتقاعست هذه الوزارة في القيام بمهماتها الطبيعية ،فهل تستجيب هذه الوزارة الصمّاء العمياء البكماء ،والتي تعطي أذنا من طين ،وأذنا أخري من طين كذلك ،ولا تنتبه إلا لسفاسف الأمور ،فتقيم ندوات ولقاءات عجائبية ،ولا تنتمي إلا لعالم الكسل الحكومي المدهش . الأبنودي يحتاج منا الأكثر ،فلقد أعطانا الكثير علي مدي حياته العريضة والطويلة،وهنا بعض من أشعاره المجهولة ، والتي سقطت منه عمدا أو سهوا ،وسنختار منها مقاطع ،لعلنا نستطيع في القريب العاجل جمعها ونشرها في كتاب يليق بها وبه.