هناك أعمال أدبية يجني عليها أصحابها، وذلك بمجرد وضع أسمائهم عليها، أو فلنكن أدق ونقول: إن اسم الكاتب يحكم علي طريقة تلقينا للكتاب، ويدفع بنا إلي اتجاه معين، ويذكرنا بمواقف سياسية ومعارك خاضها صاحب الاسم؛ الاسم يرتبط بتاريخ صاحبه، ما يقف حائلاً في بعض الأحيان أمام قراءة الكتاب بدون أحكام مسبقة. ولعل خير مثال علي ذلك هو سيرة جونتر جراس (1927 - 2015) التي حملت عنوان: "أثناء تقشير البصل". هذه السيرة - في مجملها - عمل أدبي جميل عن التذكر والنسيان، وعن إغواء الذاكرة ومراوغتها. من هنا عنوان الكتاب الدال الذي يبين معاناة جراس أثناء الكتابة، ويوضح هدفه منها: تعرية الذات شيئاً فشيئا، ونزع القشور والطبقات للوصول إلي اللُب المختفي عن الأنظار، وذرف الدموع التطهرية خلال ذلك. هذه السيرة محاولة لا تخلو من تبرير للإجابة عن السؤال الذي ظل يلح علي جراس منذ صباه، ولعله السؤال الذي شغل بال جيله كله، وما زال يثير الجدل في ألمانيا: لماذا صمت الناس في فترة النازية؟ لماذا انساقوا وراء الإغواء النازي؟ لماذا لم يرفض الشباب الانضمام إلي الجيش مثلاً، أو لماذا لم يهربوا من أداء الخدمة العسكرية؟ باختصار: لماذا لم يقاوم الناس؟ في هذه السيرة الروائية يعود جراس إلي طفولته في مدينة دانتسيج، وكأنه يستكمل ما بدأه في "الطبل الصفيح". ليس الحديث هنا عن القزم أوسكار، بل عن الطفل جونتر الذي كان يريد الهرب من المنزل الضيق الذي يطلق عليه في سيرته "الثقب المكون من حجرتين". كانت القراءة ملاذ الطفل. ويذكر جراس بصورة خاصة عملين أحبهما: "صورة دوريان غراي" لأوسكار وايلد و"لا جديد في الغرب" لإيريش ماريا ريمارك. وقد أثرت فيه رواية "لا جديد في الغرب" بشدة، غير أن قراءة هذا العمل - الذي يتعرض لكافة أشكال الموت والقتل أثناء الحرب العالمية الأولي لم يمنعه من التطوع في الجيش النازي. "يا لضآلة تأثير الأدب!"، يضيف صاحب "مشية السرطان" متحسراً. يصف جراس في سيرته معايشاته خلال الحرب، والجوع الذي عاناه في معسكرات الأسري بعد نهاية الحرب، الجوع الذي شغله عن أي شيء آخر. الجوع إلي الطعام والنساء والفن. "الهزيمة في الحرب"، يقول مؤلف ثلاثية دانتسيج، "كانت تعني ذ أولاً - الجوع" الذي "احتل" كيان الكاتب "كما يحتل المرء بيتاً خاوياً". وربما يكون فصل "مع الضيوف علي المائدة" من أجمل فصول الكتاب، وفيه تحدث مؤلف "سمكة موسي" عن طباخ أسير معهم في معسكرات الجوع. كان الطباخ "أستاذاً في الإيحاء". يعد لهم ذ بالكلمات - أشهي الأطعمة التي يسيل لها لعاب الجنود الجوعي. يتذكر جراس جيداً الوصفات التي كان الطباخ يتلوها عليهم، يتذكر المقادير ونوع اللحم وأسماء التوابل ودرجة الطهي، بل إنه لم يندم علي ضياع شيء خلال الحرب مثل ندمه علي ضياع الدفتر الذي دوّن فيه الوصفات! في مذكراته يتحدث جراس أيضاً عن أمه وأخته وما مرا به "عندما جاء الجنود الروس"، يتحدث عن معاناة الأم وتهربها الدائم من الإجابة عن تساؤلاته حول تلك الفترة. بعد وفاة الأم يعرف من أخته أن الجنود الروس اغتصبوها مرات ومرات، وأنها قدمت جسدها لهم حمايةً لابنتها. هذه العقلية، عقلية التناسي والإزاحة حتي يستطيع المرء أن يستمر في الحياة، كانت أحد الموضوعات الرئيسية في أدب جراس. في معظم أعمال ومقالاته كان صاحب "الطبل الصفيح" ينتقد تحول المجتمع الألماني بعد الحرب إلي مجرد واجهات جميلة تخفي ما وراءها من أنقاض قبيحة. الماضي الألماني كما يذكر جراس في سيرته كان حجراً ضخماً في طريق الفنان الشاب، وهو لم يتعثر في هذا الحجر فحسب، بل عاقه تماماً عن المسير. بعد الحرب والاستقرار المادي بعض الشيء انتقل جراس إلي مدينة دوسلدورف ليدرس النحت ويشبع نهمه إلي الفن. ثم تحول إلي الشعر وفاز بجائزة تشجيعية. وفي باريس التي انتقل إليها أواخر الخمسينات مع زوجته آنه راقصة البالية ظل الشاعر يبحث طيلة شهور عن جملة يبدأ بها روايته "الطبل الصفيح"، جملة تفجر هذا العائق، هذا الجدار الحاجز، وعندما وجدها، انساب شلال الكلمات الذي لم يتوقف حتي وفاته: "اعترف: أنا نزيل مصحة للأمراض العقلية." أنهي جراس "أثناء تقشير البصل" بالحديث عن صدور روايته عام 1959، فسيرته بعد "الطبل الصفيح" أضحت معروفة للجميع. لماذا أصبح هذا الكتاب الجميل إذن فضيحة بمجرد صدوره عام 2006؟ ولماذا ظل الوسط الأدبي في ألمانيا وخارجها طوال شهور يتحدث عن نفاق جراس وانهيار سلطته الأخلاقية؟ وكيف كان الوسط الأدبي، في ألمانيا وخارجها، سيحكم علي هذه السيرة الروائية إذا كان جراس كتبها في الستينات مثلاً؟ أو إذا كان كاتبها شخص آخر لم يتحول عبر العقود إلي "ضمير ألمانيا" المجسد؟ السبب في هذا كله كانت سطوراً قليلة في صفحة 127 من السيرة، اعترف فيها الكاتب الثمانيني بأنه انضم طواعية إلي الجيش النازي؛ ليس هذا فحسب، بل إلي إحدي أكثر الفرق دموية ووحشية، وهي فرقة الحرس الخاصة، أو قوات الإس إس. كانت هذه هي المرة الأولي التي يبوح فيها جراس بذلك. طيلة ستة عقود احتفظ صاحب "الطبل الصفيح" بالسر لنفسه، مدعياً أنه كان يخدم قسراً في قوات الدفاع الجوي، وأنه لم يطلق رصاصة خلال الحرب. هذا الاعتراف حجب عن الأنظار القيمة الأدبية للسيرة، وجعل النقاش كله في ألمانيا يتمحور حول ماضي صاحبها. إشكالية الكتاب، إذن، هي سيرة صاحبه. "أثناء تقشير البصل" كتاب اعترافات جريء، لكنه جاء بعد أن أفاض صاحبه في اتهام الآخرين بالصمت عن الماضي، ولهذا لم يقبل كثيرون أن يصمت صاحب السلطة الأخلاقية في ألمانيا طوال هذه العقود عن ماضيه هو؛ وكأنه، كما يقول المثل الألماني، يدعو الناس لشرب الماء، بينما يحتسي هو الخمر خفية. لقد بني جراس مجده الأدبي، بل ونال جائزة نوبل لجهوده الأدبية في فضح جرائم جيل الآباء المتورط في النازية، فكيف يصمت هو عن انضمامه طواعية لمنظمة إجرامية (أو بلغة هذه الأيام: "منظمة إرهابية")؟ كان جراس مراهقاً غراً، ولذلك لم يكن السؤال الذي طُرح آنذاك في ألمانيا هو: لماذا انضم إلي قوات "الإس إس"؟ بل: لماذا لم يعترف بذلك عبر ستين عاماً؟ لقد امتدحته لجنة نوبل قائلة إن ضربة فأس "تحفر عميقاً في الماضي، أعمق مما تفعل الغالبية، فإذ بنا نجد أن جذور الخير والشر ملتفة متشابكة بعضها مع بعض". لماذا لم يبين صاحب "الطبل الصفيح" تشابك جذور الخير والشر في سيرته الذاتية؟ التضامن العربي مع جونتر جراس في أعقاب صدور الكتاب والضجة التي ثارت حوله، صدر بيان حسن النية من عدد من المثقفين العرب، تضامنوا مع صاحب "الطبل الصفيح"، قائلين: "كيف يمكننا أن نحاسب صبياً مراهقاً واقعاً تحت سيطرة الدعاية النازية الجهنمية علي تصرف كان في حقيقته اضطراراً لا اختياراً؟"، وامتدح الموقعون علي البيان شجاعة جراس الأخلاقية، لأنه قدم اعترافه بدون أي ضغط خارجي. واعتبر الموقعون أن الحملة الموجهة لجراس "تدبير سياسي غير أخلاقي هدفه تحويل الأنظار عن جرائم الاسرائيليين التي ترتكب الآن في فلسطين ولبنان بالحديث عن جرائم النازيين في حق اليهود." وإذا كان صحيحاً أن جراس كان صبياً عندما انضم إلي قوات الإس إس، وأن اعترافاته تنم حقاً عن شجاعة كبيرة، حتي إذا كانت متأخرة، فإن هذا البيان في رأيي - يعبر عن سوء فهم للجدل الذي دار آنذاك في ألمانيا. لقد ظن البعض في العالم العربي أن الهجوم الشرس علي جراس سببه انتقاد إسرائيل، فسارعوا يتضامنون مع هذا الكاتب اليساري الشجاع. ولكن المتابع للحملة التي شُنت علي جراس في عام 2006 يعرف أن إسرائيل لم تكن الموضوع مطلقاً، كما أن هذه الحملة لم يكن هدفها انتقاد ماضي جراس النازي، أو "تحويل الأنظار عن جرائم الإسرائيليين". منذ سنوات الستينات، ولا سيما بعد حرب 1967، وجراس يؤكد أنه صديق إسرائيل، وأن تضامنه مطلق مع الدولة اليهودية. وحتي عندما وجه إليها النقد بعد ذلك بخمس سنوات في قصيدته "ما ينبغي أن يُقال" (2012) لامتلاكها السلاح النووي وتهديدها لجيرانها، لا سيما إيران، فقد فعل ذلك باعتباره صديقاً لإسرائيل. لم تكن إسرائيل، إذن، هي السبب لتلك الحملة. كان سبب الحملة الألمانية هو صمت جراس عن ماضيه طيلة ستة عقود، وعدم تورعه في الوقت نفسه عن مهاجمة الآخرين لأنهم لم يواجهوا ماضيهم بشجاعة. لقد تناسي الموقعون أن الضجة التي أُثيرت في ألمانيا كانت حول رجل تحوّل برواياته ومقالاته ومواقفه السياسية إلي مؤسسة أخلاقية وضمير ألمانيا بعد الحرب، فإذ بالقراء يكتشفون أن "واعظ" ألمانيا منافق، صمتَ ستين عاماً عندما تعلق الأمر بشخصه. ما أثار اهتمام قطاع كبير من الألمان آنذاك هو: هل ما زالت مواقف جراس السياسية تتمتع بالنزاهة والمصداقية السياسية؟ هل تتطابق الأقوال مع الأفعال لديه؟ وأعتقد أن النقاش الألماني كان دليلا علي تعامل صحي مع الماضي. قد يبالغ الألمان في حساب الذات نظرا لضخامة الكارثة النازية، وقد يبدو موقفهم غريباً في دول تنزع إلي الإزاحة والنسيان. ولعل ردود الفعل الألمانية علي اعترافات جراس تبدو غريبة في مصر مثلاً، لأننا اعتدنا فصل الأدب عن صاحبه، وفصل المواقف السياسية المنافقة عن إبداع الكاتب. كثيراً ما يقولون عندما يُنتقد أديب أو شاعر أو مطرب ينافق السلطة الحاكمة: دعونا من آرائه السياسية، يكفينا أدبه أو فنه! (وهو ما قيل خلال الجدال الذي ثار في الفترة الأخيرة حول عبد الرحمن الأبنودي أو محمد منير علي سبيل المثال.) في إحدي مقالات الشاعر عباس بيضون يتحدث عن ظاهرة فريدة لاحظها في ألمانيا، ألا وهي "مديح الهزيمة". والمديح هنا يعني النظر إلي الهزيمة باعتبارها فرصة لتصحيح المسار وتقويم الأمور. وإذا نظرنا إلي الجماهير العربية وكيفية تعاملها مع جرائم حكامها وأخطاء ساستها أو نفاق كتابها، وإذا تمعنا في موقف المثقفين العرب في البيان المذكور، نجد أننا نكره الهزيمة والضعف والتناقضات البشرية، وأن معظمنا يري أن من الأفضل تجاهل الماضي، ونسيان أخطاء الذات، وإلقاء الذنب علي الآخرين الذين يكيدون لنا المكائد، وينسجون المؤامرات. من هنا تبدو شجاعة جونتر جراس كبيرة حقاً، حتي وإن كانت متأخرة.