يوم الإثنين الماضي، وفي السابعة والثمانين، ودّع جونتر جراس العالم في مدينة لوبيك الألمانية. برحيله، تفقد الإنسانية واحدًا من أقوي الأصوات الأدبية وأكثرها فنية، وتفقد ألمانيا آنتها العليا. لماذا يعد هذا الخبر أليمًا وصادمًا؟ لقد شعر ملايين القراء الذين وهبوه ثقتهم طيلة نصف قرن بالفزع, كان كاتبا مختلفا تمامًا ، كان الصوت الذي يودون أن يسمعوه ، يكتب من عمق أرضه، ممسكًا بجذورها الهشة. كان يكتب عن أبنائه وأسرهم, عن تاريخه وتاريخهم، كتابة تشع قوة وتظهر جلية في عينيه. كان جراس الصوت الذي أثار انتباه العالم بعد الحرب العالمية الثانية. وكان يعرف تمامًا عندما يكتب عن ماذا يتحدث، وكان لديه الكثير ليقوله. كان جراس متعدد المواهب، غير أن الكتابة كانت أعظم مواهبه كتابة يعرفها العالم كله لأنها جمعت ما بين الجمالية والتاريخ، الواقع والخيال، كتابة تسرب البهجة إلي القاريء مع نقدها اللاذع. كما كان رسامًا ونحاتًا، والعمل بالنحت من أهم المحطات في حياتة, إذ كان العمل الوحيد الذي لم يحتاج فيه الي التدخين، بحسب ما قال. قام جونتر بعمل سلسلة من الرسومات ذات ايحاءات معبرة لمعظم أعماله، بداية من عمله الأول، وكان ديوان شعر، وبعدها أصبحت ملازمة لكل عمل، إذ كان يصمم أغلفة كتبه بنفسه بطيور وحيوانات، وكان يطلق عليها "حيوانات رمزية. ولد جراس في 16 أكتوبرمن عام 1927، لأب ألماني بروتستانتي وأم كاثوليكية ذات أصول بولندية بمدينة دانتسيغ، المعروفة حالياً بغدانسك في بولندا. وحققت روايته الأولي الطبل الصفيح شهرة عالمية واسعة. وهي جزء من ثلاثيته المعروفة ب "ثلاثية دانتسيغ" وتضم أيضا "القط والفأر" و"سنوات الكلاب". في ديسمبر 2013، كان جراس أحد الموقعين علي نداء "كتَاب ضد مراقبة الجمهور" مع أكثر من 560 كاتبا، انتقدوا مراقبة المخابرات الأمريكية وتجسسها علي هواتف ومراسلات الناس حول العالم. وكان طوال حياته مثقفا مشاكسا،. وانضم إلي جمعية الصداقة الألمانية البولندية، كما شارك بفعالية في دعم الحزب الاشتراكي الديمقراطي، لكن عضويته في الحزب لم تتجاوز العشر سنوات بين عامي 1982 و1992 للهروب من ظروف عائلته الفقيرة، التحق جراس عام 1944 بالجيش النازي وخدم في صفوف القوات الخاصة (إس إس) ليعيش تجربة الحرب وعمره لا يتعدي ال 17 عاما، إلا أنه وقع في النهاية أسيرا لدي القوات الأمريكية. حصل جراس علي جائزة نوبل للآداب عام 1999 وقال النقاد إن أعماله تظهر الجانب المخفي من التاريخ، وإنها ستبقي خالدة. ومع إعلان خبر رحيله، عبّر العديد من رجال السياسة والأدباء والإعلاميين عن بالغ الأسي بفقد أيقونة الأدب الألماني. الرئيس الألماني يوخايم جاوك أعرب عن بالغ حزنه بفقدان جونتر واصفا اياه بالمؤلف الكبير والسياسي المشاكس، ضيفًا:"تجد في رواياته الأمل والإخفاق والخوف والاشتياق في آن واحد، إنها أعمال صالحة لكل الأجيال". فيما أشارت المستشارة أنجيلا ميركل لتقديرها الشديد لقيمة جونتر، كما واست زوجته وأرسلت لها برقية عزاء . من جانبه، قال المتحدث باسم الحكومة شتيفان سيبرت إن جونتر ترك أثرا في التارخ الألماني بعد الحرب بأدبه وفنه، وكذلك بآرائه السياسية، كما لم يؤثر شخص آخر . كان الشعب الألماني في خمسينيات القرن العشرين غير آمن، خاصة جيل جونتر جراس, إذ كانوا شبابًا لا ينتظرهم سوي الموت من أجل قائدهم النازي والمشاركة في قتل البشرية. آمن جونتر في البداية بهذه البطولة عندما انتسب للقوات المسلحه باختياره ثم انضم للوحدات النازية الخاصة ، التي اعترف بانتسابه إليها بعد عقود عدة, شخص كهذا كان من الممكن أن يصبح نازيًا عتيدًا، لكنه اختار طريقا آخر بعيدا عن الحرب. حيث أبتعد عن القتال وسافر الي باريس في المدينة التي وجد فيها كل من هاينريش هايلي ولودفيج بوني ملجأ لهما, حيث عاش حياة زهيدة بإحدي المساكن الفقيرة المظلمه بالبدروم، وحيث بدأ بكتابة احدي رواياته التي عبّر فيها عن رفضه للرفاهية. رحل جونتر جراس، لكنه مثل كل الكُتّاب العظماء، سيبقون بكتابتهم.