بعد نشوب حرب 67 بساعات قلائل، وجدت نفسي ملقي تحت دبابة نجدة عاطلة علي طريق رفح، بالقرب من جرادة، مصاباً بشظية تحت إبطي، وغارقاً في دمائي، أغمي علي فترة لا يعلم مداها إلا الله، وعندما أفقت وجدت كتيبتي المشاة قد مزقتها الطائرات. عبر طابور دبابات إسرائيلي أمامي، ظننتها النهاية، زحفت من مقدمة الدبابة إلي مؤخرتها، أطلت من جنب الجنزير، وشاهدت العدو لأول مرة عن قرب، سحن "خواجات" برزت من أبراج الدبابات، وقد تهوش شعرهم ونمت لحاهم، وكلما تحرك مدفع أحد الأبراج ظننت أحداً شاهدني، وسيدمرني في الحال، وظللت أتقلب فوق أتون أعصاب متقدة، حتي مر الفوج اللعين، اقترب مني الموت عدة مرات، وفي الليلة التالية ظل ملازماً لي أيضاً، لذلك كان أول شيء فكرت فيه بعد عودتي من الأسر هو مؤلفاتي، وكان سؤال يطن في رأسي: لو لم تقدر لي العودة.. ما مصير مخطوطات روايتي شارع الخلا ونافذة علي بحر طناح وعدة قصص قصيرة..؟! في أحسن الأحوال ستتحول إلي قراطيس عند بائع ترمس، أو يلف بورقها بقال الحلوي الطحينية لزبائنه. ولم أضيع الوقت في اللف علي دور النشر المختلفة، فمثلاً دار الكاتب العربي التي تعلق بها الجميع، إذا نشرت لأحدهم، أهملت بجواره عشرة، ناهيك عن الانتظار عدة سنوات حتي يري المطبوع النور. وكان ما شدد من عزمي أني معرض دوماً للاعتقال أو السجن، وعلمتني خبرتي أن الأوراق والكتب التي يأخذونها في كل مرة يفتشون فيها منزلي بحجة الاطلاع عليها وإعادتها لا تعود أبداً، وأفضل طريقة لعدم ضياع أي مؤلف هي نشره علي أوسع نطاق.. بعد " شارع الخلا " هيأ لي طموحي أن أساعد أصدقائي الأدباء، فكانت سلسلة " أدب الجماهير " اتفقت مع الصديق عبدالفتاح عبدالرحمن الجمل علي طبع مجموعته القصصية " أحلام ترانزستور" وكانت ظروفه المالية عسيرة للغاية، ولم يكن يستطيع الوعد بشيء سوي توزيع كتابه، وماذا يجدي مثل هذا الوعد أمام صاحب مطبعة يريد عربوناً قبل بدء العمل..؟! وتفتق تفكيرنا عن طبع ايصالات بثمن الكتاب، يشتريها القارئ مقدماً، وعندما يتم الطبع يحصل علي نسخة وبالفعل طبعنا عدة دفاتر، وقام عبدالفتاح ببيع عدد كبير منها لزملائه عمال وموظفي سكك حديدية وجه بحري، وساعده بعض الأصدقاء، أذكر منهم الدكتور أحمد حجي الذي وزع كثيراً من النسخ بعد الطبع علي أبناء قريته سندوب، وتطوع محمد حجي برسم الغلاف، ولما كانت الجماهير هي التي قامت بتكلفة الكتاب فعلاً فقد استحقت أن نستعير اسمها. قبل أن نهتدي إلي فكرة بيع الإيصالات، تحملت نفقات طبع " شارع الخلا " دبرت مبلغاً بسيطاً، وقامت زوجتي برهن خاتم ذهبي، ولم يتجاوز ما جمعناه ثلاثين جنيهاً، ولزم مثلها حتي تتم طبع ألف نسخة، كنا في أواخر الستينات، وكان هذا المبلغ يعتبر كبيراً وقتها. دفعت بالأصل إلي مطبعة أحمد السيد بالمنصورة، دون تصريح من الرقابة، آملاً أن يتم طبع الكتاب بسرعة، حتي نفوت عليهم فرصة تعطيلنا، وكان وقف الطبع معناه ضياع العربون، وضياع أحلام النشر، وكنت أتوقع أن يعترضوا علي موقف في الرواية يحتك فيه أحد أبطالها بضابط شرطة، ويوبخه علي مرأي من الناس، ولقد صح توقعي، عندما قرأها أحد ضباط أمن الدولة فيما بعد، وناقشني في هذا الموقف بالذات. وكان يقوم بجمع الحروف عامل اسمه زهران، حاولت معه كل ما يمكن تخيله ليسرع، من سجائر وشاي إلي وعد ببقشيش كبير عندما ينتهي، وبينما أعصابي تتمزق، وكان هذا الزهران لا ينجز أكثر من صفحتين في اليوم عندما يكون نشيطاً وصفحة واحدة في أغلب الأحيان، ويعطيني وعوداً زائقة كل يوم ومواعيد أكثر زيفاً غداً، ويومياً يتعين علي أن أرجوه ليعد لي "تجربة"، فهو دائماً يحتج أن شغله لا يحتاج إلي تصحيح، وعندما أنبهه إلي ألف زائد أو نقطة لا لزوم لها. يبدي عجبه ويقول: - يا سيدي.. لا تفرق كثيراً...!! وإزاء عناده، تعلمت كيف أمسك بملقط الحروف، وكيف أغيرها، وبالطبع حفل الكتاب بأخطاء كثيرة، بعضها مني لغفلتي حينها عن بعض قواعد النحو، والآخر أخطاء زهرانية، ولقد خفف من غمي الأخطاء الفادحة التي رأيتها في مطبوعات دار الكاتب العربي. وعندما انتهي طبع الكتاب بعد عدة شهور أخبرني زهران أن شقيقته مدرسة وزميلة شقيقتي، وأنه يعرفني، وشكرني علي خدمة أديتها لها، تري.. لو لم يكن يعرفني فماذا كان سيفعل معي..؟! ولماذا أخفي معرفته لشخصيتي.. ليظل يبتزني أكبر فترة ممكنة..!! وتعلمت بعدها، من خلال تعاملي مع عمال عدة مطابع أن كلهم زهران..!! وبالطبع لم أرسل الكتاب إلي دار توزيع، لأنهم يشترطون عدة آلاف من النسخ، مطبوعة علي ورق جيد، وكان المشكل هو فك رهن خاتم زوجتي، فحصولي علي ثمن كتاب أو كتابين كل مدة، كان يضيع من جيبي، ولم أتمكن من تجميد أي مبلغ من حصيلة البيع. والتمست التعويض في اهتمام الأدباء والنقاد بالرواية، وزعت هدايا منها علي الكتاب والمحررين في الصحف والمجلات المختلفة