تكليفات رئاسية حاسمة للحكومة ورسائل قوية للمصريين    توافد أطباء الأسنان للإدلاء بأصواتهم في انتخابات النقابة الفرعية بالقليوبية    تمريض الإسكندرية تعقد مؤتمرها الطلابي الأول    كيلو البلطي ب64 جنيها.. أسعار الأسماك والمأكولات البحرية بسوق العبور الجمعة    بلومبرج: ثروة إيلون ماسك تتجاوز مارك زوكربيرج ب 23 مليار دولار    طلاب هندسة الجامعة الألمانية بالعاصمة الإدارية يزورون العلمين الجديدة    ملفات ساخنة على طاولة مباحثات بلينكن في الصين.. المنافسة الاقتصادية "الأبرز".. وواشنطن تهدد بكين بورقة تايوان    مشهد مروع لاعتقال الشرطة الأمريكية أستاذة اقتصاد بجامعة إيموري بسبب غزة (فيديو)    أمريكا تعد حزمة مساعدات عسكرية جديدة بمليارات الدولارات إلى أوكرانيا    فرنسا: قوة التدخل السريع الأوروبية سترى النور العام المقبل    اليونان:لا يمكننا إرسال منظومات إس-300 إس أو باتريوت إلى أوكرانيا    اليوم، مد فترة تشغيل المترو ساعة لتشجيع النادي الأهلي    تحرير 1410 مخالفات ملصق إلكتروني ورفع 43 سيارة ودراجة نارية متروكة    حبس 3 أشخاص كونوا تشكيلا عصابيا تخصص في تجارة المخدرات    بدلا من بيعه، الشركة الصينية المالكة ل تيك توك ترضخ للضغوط الأمريكية    مايا مرسي تشيد بالمسلسل الإذاعي "يوميات صفصف" لصفاء أبو السعود    فحوصات يجب إجراؤها عقب ولادة الطفل حفاظا على صحته    ضمان حياة كريمة تليق بالمواطن.. 7 أهداف ضمن الحوار الوطني    رمضان صبحي: الأهلي والزمالك الأقرب دائما للفوز بلقب الدوري    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. الأهلي ضد مازيمبي    رمضان صبحي: نفتقد عبد الله السعيد في بيراميدز..وأتمنى له التوفيق مع الزمالك    مصطفى عسل يتأهل لنهائي بطولة الجونة للاسكواش    كارثة كبيرة.. نجم الزمالك السابق يعلق على قضية خالد بو طيب    خبير: أمطار غزيرة على منابع النيل فى المنطقة الإستوائية    خزنوا الميه.. إعلان ب قطع المياه ل12 ساعة عن هذه المناطق    حصول 4 معاهد أزهرية على الاعتماد والجودة رسمياً بالإسكندرية    بدون إصابات.. إنهيار أجزاء من عقار بحي الخليفة    حزب الله ينشر ملخص عملياته ضد الجيش الإسرائيلي يوم الخميس    القناة الأولى تبرز انطلاق مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير في دورته العاشرة    فضل قراءة سورة الكهف ووقت تلاوتها وسر «اللاءات العشر»    تؤجج باستمرار التوترات الإقليمية.. هجوم قاس من الصين على الولايات المتحدة    منها «عدم الإفراط في الكافيين».. 3 نصائح لتقليل تأثير التوقيت الصيفي على صحتك    اكتشاف فيروس إنفلونزا الطيور في 20% من عينات الألبان في الولايات المتحدة    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    استقرار أسعار الدولار اليوم الجمعة 26 أبريل 2024    واعظ بالأزهر: الإسلام دعا إلى صلة الأرحام والتواصل مع الآخرين بالحسنى    أماكن الاحتفال بعيد شم النسيم 2024    اعرف الآن".. التوقيت الصيفي وعدد ساعات اليوم    «إكسترا نيوز» ترصد جهود جهاز تنمية المشروعات بمناسبة احتفالات عيد تحرير سيناء    فضل أدعية الرزق: رحلة الاعتماد على الله وتحقيق السعادة المادية والروحية    التوقيت الصيفي في مصر.. اعرف مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 26 - 4 - 2024    لماذا تحتفظ قطر بمكتب حماس على أراضيها؟    أدعية السفر: مفتاح الراحة والسلامة في رحلتك    أبناء أشرف عبدالغفور الثلاثة يوجهون رسالة لوالدهم في تكريمه    الزمالك يزف بشرى سارة لجمهوره بشأن المبارة القادمة    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الجمعة 26 أبريل 2024    «جريمة عابرة للحدود».. نص تحقيقات النيابة مع المتهم بقتل طفل شبرا الخيمة    «الإفتاء» تعلن موعد صلاة الفجر بعد تغيير التوقيت الصيفي    جدعنة أهالي «المنيا» تنقذ «محمود» من خسارة شقى عمره: 8 سنين تعب    هيئة الغذاء والدواء بالمملكة: إلزام منتجات سعودية بهذا الاسم    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميًّا    تشرفت بالمشاركة .. كريم فهمي يروج لفيلم السرب    سيد معوض يكشف عن مفاجأة في تشكيل الأهلي أمام مازيمبي    سلمى أبوضيف: «أعلى نسبة مشاهدة» نقطة تحول بالنسبة لي (فيديو)    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    عاجل - محمد موسى يهاجم "الموسيقيين" بسبب بيكا وشاكوش (فيديو)    تامر حسني باحتفالية مجلس القبائل: شرف عظيم لي إحياء حفل عيد تحرير سيناء    مسجل خطر يطلق النار على 4 أشخاص في جلسة صلح على قطعة أرض ب أسيوط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فجر التغيير الشعب يريد إسقاط النظام


الجزء الأول
موجة من موجات القاع، غير مرئية، غير متوقعة، تلك التي اجتاحت في طريقها كل شيء. بركان الثورة الذي هز مصر في الخامس والعشرين من يناير فاجأ أعظم المحللين.
في منتصف يناير، بينما تونس تشتعل، تحولت الأنظار إلي القاهرة، لكن دونما قلق مبالغ فيه. الكل يردد بعناد وإصرار نفس الكلام المخادع وكأنه قانون: مصر ليست تونس، مبارك ليس بن علي.
بالتأكيد، هناك هذه الأربعون بالمائة من المصريين الذين يلامسون حد الفقر من هذه الخمسين بالمائة من الشباب العاطلين، خصوصا من حاملي الشهادات العلمية. هذا النظام القائم علي الفساد، والمحسوبية، والظلم.
الإثراء الظالم لشلة رجال الأعمال، بينما تعاني أمة بكاملها. انعدام الثقة في مؤسسات الدولة وقوانينها. البحث عن هوية أمة، تمتعت بالمجد في سابق عهدها، اليوم محل سخرية بقية العالم العربي. هذا الرئيس الممسك بزمام السلطة منذ ما يقرب من ثلاثين عاما، والذي يتشبث بها، والذي يعد ابنه كي يخلفه. وهذه الكتلة الحرجة، الخمسة والستون بالمائة من المصريين الذين لم تتخط أعمارهم الثلاثين عاما، يشعرون بالمرارة، والغضب، ومنهكون، ومستنزفون من قبل الأوان.
"إنها مصر"، تتفق ردود البسطاء، الذين يندهشون من أن أرض النيل لم تكن قد اهتزت بالفعل.
لزمن طويل، تعلق كل شيء في مصر بكلمة واحدة. معلهش. لفظة أساسية في كلام المصريين، مرادف، في الوقت نفسه لمعان مثل "لاتحزن" "ليس الأمر بهذه الخطورة"، "حظ أوفر في المرة القادمة"، "لا بأس"، محتومة بالقدرية، قابلة للاستخدام في كل الأغراض، أكثرها تفاهة مثل أكثرها أهمية، متناثرة في كل الحوارات.
مع هذا، كان الكل هنا.
دون أن يجرؤ أحد علي أن يصدق ما يجري.
وكلهم، أو تقريبا كلهم، مازالوا هنا.
القاهرة.. ديسمبر 2010
كان الهواء، ثقيلا، لزجا، ملوثا، مشبعا بدخان المحركات المائل للزرقة المنبعث من أبخرة البنزين. علي طريق الكورنيش الممتد بمحاذاة مياه النيل الداكنة، بالخمسة في آن واحد، كانت السيارات تمارس سباقات التعرج، تتوقف، تتصادم، وتنطلق من جديد، في عرض اكروبات جهنمي.
إنها السادسة مساء تقريبا. يعود القاهريون الذين خرجوا من أعمالهم لقضاء حوائجهم إلي منازلهم. يسقط المغيب علي العاصمة المصرية، كأنه غبار رمادي.
قامت المحلات من قبل بتلميع واجهاتها الزجاجية، تتلألأ بوتيكات بيع التليفونات المحمولة بعروض الترويج. تتابع ورش إصلاح اطارات السيارات، الصيدليات وتوكيلات السيارات. علي الأرصقة تتلاقي الأشباح، جلابية أو بنطلونا، في رقصة بالية عصبية.
مرتان في كل يوم، خلف عجلة قيادة سيارتها الكورية الصغيرة، تصعد دينا وتهبط هذا اللسان الأسفلتي الطويل الذي يعبره المشاة، مضحين بأرواحهم في خطوات متسابقة، يتعارجون بين السيارات حتي يتمكنوا من الوصول إلي الرصيف المقابل "هيه، لتفكر مرتين، مجرد آخر لي ولك في الجنة..." يخشخش راديو السيارة. علي محطة نجوم FM واحدة من أوليات محطات الإذاعة المصرية الخاصة، يذاع مزيج لأغنية "فيل كولنيز" الشهيرة، تمر المقاطع العربية متهكمة من الانفجار السكاني والبطالة...
"بعد قليل سوف نصبح مائة مليون، هل تتخيل قليلا كيف ستكون هذه الجنة".
دينا تدندن ممسكة بعجلة القيادة.
تحت القلوب المصنوعة من القطيفة، المكدسة علي رف السيارة الخلفي، كانت دينا قد ألقت بحقيبة يدها علي المقعد.
في عام 1982، ولدت دينا، في العام الذي سبقه جري اغتيال أنور السادات علي يد فدائي إسلامي، وحل محله نائبه حسني مبارك.
مثل أكثر من نصف المصريين، لم تعرف دينا أي رئيس آخر علي الإطلاق، غير هذا الرئيس، الذي يطل علي الناس من اللوحات واللافتات الهائلة المثبتة علي جوانب كل الطرق في مصر، في شبابه الأبدي، بشعره الأسود ونظارات الطيارين الشمسية.
"هيه.. فلتفكر مرتين.."
تراكم الأرقام يصيب المرء بالدوار. عندما ولدت دينا، كان هناك أربعة وأربعون مليونا من السكان في مصر، بعدها ب30 عاما، في 2010، صاروا الضعف تقريبا، أربعة وثمانين مليونا وفي 2050، سوف يكون هناك مائة وخمسون مليون نسمة، بمعدل مواليد عاد مرة اخري إلي التزايد. تضم العاصمة وحدها الآن ما بين خمسة عشر وثمانية عشر مليونا من السكان وربما عشرين مليونا، لايدري أحد.
يتكدس بقية المصريين في تلك الخمسة بالمائة من الأراضي الصالحة للسكن والزراعة. شريط طويل ولكنه ضيق من الأراضي التي تمتد بطول النيل ثم ينفتح في دلتاه. هنا حيث ينهش التمدين المتسارع الأراضي النادرة القابلة للزراعة. الخطر السكاني: هذه هي الآفة التي تنخر في مصر. مبارك يكرر هذا دائما أمام شعبه. دون أن يلزم الدولة مع ذلك بسياسة حقيقية للتخطيط السكاني، كانت سوف تصطدم، في جميع الأحوال بالاعتبارات الدينية.
أمام محطة خدمة السيارات التي تميز مفارق الطرق باتجاه أحد الطرق الدائرية، التي من المفترض ان تقلل من اختناق حركة المرور بالعاصمة، كانت السيارات تراوح أماكنها تحت أصوات أبواق السيارات الحانقة، عربة محملة بالبرتقال. يجرها حمار معوج الأرجل، تترجرج ببطء ناحية الطريق السريع. هذا الصباح، عندما وصلت إلي مقر شركة التصدير والاستيراد التي تعمل بها كمحاسبة، كانت دينا قد ألقت بالكاد نظرة علي الجريدة الموضوعة بالقرب من مكتب عاملة التليفون. "خمسون ألف وظيفة، سيتم توفيرها من أجل شباب الخريجين"، الوعد الحكومي الموجود علي الصفحة الأولي من جريدة الأهرام، جريدة يومية مصرية رصينة ومحترمة، لم يستطع حتي أن يلفت انتباهها.
هل لاتزال تقرأ الصحف؟
في الحقيقة لا، ليس لديها الوقت. ولا الرغبة. في المساء، في نهاية الأسبوع، تكون أمام التليفزيون. قناة الجزيرة من أجل متابعة الأخبار، وقناة دريم، علي وجه الخصوص لمشاهدة الأفلام، الكليبات الموسيقية، حلقات مسلسل Desperate Housewives ربات بيوت يائسات وبعض المسلسلات الدينية.
السياسة؟ ترفع دينا حاجبيها بشيء من اللامبالاة، بشيء من القدرية، بشيء من السخرية تقسم بأنها لا تعرف عنها الكثير.
وهؤلاء الموجودون في الحكم، حتي إذا لم يكونوا مثاليين فهم يعرفون بالتأكيد أفضل منها.
ثم، ماذا تريد يا أخي؟ ما البديل عن هذا؟
انحراف مفاجيء لتفادي السيدة ذات الخمار الأزرق التي
تقدمت إلي وسط الطريق ممسكة بيد ابنها.
آه تلك السيارات... منذ نحو عشر سنوات لم تكن بهذا القدر. لكن بفضل تخفيض الضرائب علي السيارات المستوردة، ووصول الطرازات الآسيوية معقولة الأسعار وزيادة البيع بالتقسيط تشجيعا للاستهلاك، تزايدت أعداد السيارات فجأة بشكل هائل. والسيارات العتيقة المتحشرجة، بمقابض أبوابها المحطمة والمحاطة بأسلاك الحديد والمعالجة بالمواد اللاصقة، بدأت في الاختفاء، هنا وهناك، توجد بعض سيارات "نصر" القديمة، النموذج المحلي من فيات 128 لاتزال شاهدة علي آخر انتاج محلي للسيارات في مصر. عهد قديم صار منذ الآن أثرا بعد عين.
نظرة خاطفة علي دورية الشرطة للتأكد من عدم وجود أي شرطي قد يحرر لها مخالفة. تخفض صوت مذياع السيارة حتي تجيب عن هاتفها المحمول الذي يواصل الرنين. جزء من أغنية المطربة (lady Gaga) وهي مغنية بوب امريكية معاصرة- المترجم) حتي تسترد لياقتها قبل ان تسترخي اخيرا في المنزل، وجبة سريعة أمام التليفزيون، أعدتها الأم، بعض الخضراوات المطهوة بالفرن، شيء من المكرونة ولحم الدجاج.
في عمر الثلاثين، عندما يكون المرء أعزب في مصر، فإنه يعيش دائما في مسكن والديه.
دينا كانت تود أن تتزوج. لكن الفتي الذي كان يروقها لم يقنع والديها تماما. كانا متحفظين أمام موارده المالية المحدودة. بالتأكيد كان شخصا لطيفا، نعم كان حسن التربية، نعم، لكل هل كان قدرا بالفعل علي الوفاء بالشروط الموضوعة للزواج، مسكن الزوجية الذي يجب شراؤه، تأثيثه، تجهيزه؟ عائق مادي غالبا ما يتدخل فيؤخر من سن الزواج، بالنسبة إلي الشباب في أوساط الرجال، في الأماكن الحضرية، ليس من النادر الانتظار حتي سن الثلاثين، بل أكثر من ذلك. حتي يمكنهم التزوج في نهاية الأمر. مسيرة نضال، قد تشهد أحيانا زواجا يتم إجهاضه بسبب هوائي القنوات الفضائية أو جهاز حاسب آلي في جهاز العروس.
الحال، أن دينا قد استسلمت، واستمرت تحلم بملاقاة توءم الروح، مثلها مثل الكثير من الشباب المصريين، علي صفحات فيسبوك أو غيرها من صفحات الانترنت، مع دوامها، من وقت لآخر، علي مقابلة راغبي الزواج الذين تجد خالاتها وعماتها أو صديقات أمها في تقديمهم إليها. دون الحديث عن صديقاتها الشخصيات، اللاتي تزوجن كلهن منذ زمن بعيد. ولو أنه في سن الثلاثين، يهمس لها البعض، ليس من الجيد بالنسبة إلي المرأة أن تبقي وحيدة بلا زواج....
شقيقها البكر، ياسر قد تزوج. وولدت له ثلاثة من العفاريت المبتهجة الضاحكة الذين أدخلهم هذا المهندس الذي يعمل في إحدي شركات البترول، التعليم الخاص. أما المدارس العامة، بفترتي الدراسة فيها، صباحا ومساء، لتعويض نقص الأماكن، بمدرسيها هزيلي المرتبات، بمناهجها المتسرعة، فلا يريد ياسر حتي مجرد الحديث عنها حسنا، إنه يفضل أن يستنزف أمواله. حوالي عشرة آلاف يورو تلتهمها سنويا تكاليف مدارس الصغار عندما يربح المرء ألفا وثلاثمائة يورو شهريا- يعترف ياسر بأنه راتب ممتاز لايتبقي في نهاية الأمر شيء يذكر. علي كل حال، ليس ما يكفي لشراء الشقة التي يحلم بها، قريبة من المدينة. في واحدة من تلك المنتجعات التابعة لها من ذوات الأسماء الخلابة بالم هيلز، دريم بارك، مع الحديقة الصغيرة الملحقة بها أسفل المسكن.
ما شاء الله، والحمد لله، فللعائلة بعض الإيرادات الأخري، بفضل ريع الأرض التي تمتلكها في بني سويف، بيت مصر الريفي، التي تبعد حوالي مائة كيلومتر من العاصمة علي مشارف الصعيد.
غير أن ياسر عندما صار في الخامسة والثلاثين من عمره، كل قد تخلي مؤقتا عن معظم أحلامه. ربما تبقي منها حلم واحد، أن يحصل علي توكيل إحدي سلاسل بيع الأطعمة السريعة الكبري، أن يبيع شطائر الهامبرجر علي بوابة إحدي الجامعات الخاصة "أن تحصل علي النقود، هناك، حيثما توجد، أفضل لك من التململ ومراوحة المكان في سلك وظيفي يبدو مسدود الأفق لأنك لا تملك الواسطة".
الواسطة السلاح الخفي الذي لا يمكن الاستغناء عنه في نفس الوقت. الحصول علي وظيفة؟ واسطة اجراء اداري عاجل؟ الواسطة أيضا. هل تريد تسجيل اسم ابنك في مدرسة خاصة؟ الواسطة دائما. القائمة طويلة.. طويلة بقدر طول قائمة قرينها الآخر، البقشيش. من عدة قروش إلي آلاف الجنيهات، في كل مكان، عكاز اقتصاد ينتقل من النظام السوفيتي (الاشتراكي) إلي نظام السوق، مكمل حتمي لرواتب لا علاقة لها بحقيقة الأسعار. في خريف 2005، صوت البرلمان لصالح زيادة الحد الأدني للأجور، المتوقف عند حد خمسة وثلاثين جنيها شهريا،بالكاد خمسة يورو، منذ خمسة وعشرين عاما. غير ان الحكومة متخوفة من وقع مثل هذا الإجراء علي الوظائف العامة المكتظة، كانت قد رفضت ان تتخطي حاجز الأربعمائة جنيه، أعلي من حد الفقر بالكاد، في نفس الوقت كان ثمن الكيلوجرام من لحم الدجاج يفوق الأربعين جنيها، أما لحم البقر فيساوي الضعف تقريبا.
في الحقيقة، لم يكن هناك ما يبعث علي الأحلام. مع هذا، كانت الصحف، بطول اعمدتها، تقول إن اقتصاد البلاد يتعافي، يمضي قدما، علي الرغم من الأزمة الاقتصادية، التي عصفت بكوكب الأرض، واستنزفت كثير من الكيانات الاقتصادية العظمي، فإن المؤشرات المصرية، وحدها، لم تتجاوز الخطوط الحمراء، معدل النمو الذي كان يقترب من الثمانية بالمائة، قبل أزمة الكبار، ظل إيجابيا إلي حد بعيد، ما يقارب الستة بالمائة في نهاية عام 2010، مطمئنا إلي صلابة الاقتصاد المصري، بعد تقهقره الصعب في بداية الألفية الثالثة كان الرئيس حسني مبارك قد اعتمد، خلال خطابه الافتتاحي أمام البرلمان الجديد، علي عودة سريعة لمعدل النمو الاقتصادي خلال فترة ما قبل الأزمة، خصوصا فصل زيادة الاستثمارات الأجنبية توقعات وصفها الخبراء بالمتفائلة. غير أن ذلك كان أمرا لابد منه لان الاقتصاد المصري قد أظهر أنه غير قادر علي خلق ما يكفي من فرص العمل، إذا كان معدل النمو يقل عن ستة بالمائة، لامتصاص العدد المتزايد بلا توقف للقادمين الجدد إلي سوق العمل. تبعا لcampas الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فإن سبعة وأربعين بالمائة من السكان، ما بين 20 إلي 24 سنة يعانون من البطالة، دينا تعرف عن هذا الأمر شيئا. فعند تخرجها في الجامعة ظلت بلا عمل لمدة سنتين.
مثل دينا، كان غالبية المصريين لايرون آثار هذه الانفراجة الاقتصادية، علي الرغم من أن الحزب الوطني الديمقراطي التابع لحسني مبارك، كان ومنذ عدة سنوات، يؤكد أنه قد جعل من إعادة توزيع ثمار التنمية أولويته المطلقة. لكن حسبما يري البنك الدولي، فلايزال من الواجب علينا أن ننتظر زمنا طويلا، وربما جيلا بأكمله، حتي يشعر أكثر المصريين فقرا بمزايا ذلك.
في أكتوبر 2010، تعليقا علي تقرير اقتصادي متملق للغاية لstandard Chartered Bank يضع مصر ضمن نمور الشرق الأوسط الاقتصادية، قالت الصحافية هبة صالح بمرارة: "إننا لا نطعم الناس بالمؤشرات الاقتصادية"، لأن عجز الموازنة العامة، والبطالة، والتضخم الرهيب.. كلها ظلت علي حالها.
التضخم... وتلك الأسعار التي لاتكف عن التحليق، منذ عام 2007 رقصة الفالس الدائمة التي تقوم بها بطاقات الأسعار. في يوم الجمعة عندما تجتمع أسرة ياسر ودينا بكامل هيئتها، ينصب عليه سخطها، ارتفاع أسعار الحليب أو الطماطم المجنونة كما كانت صحافة القاهرة تصفها خلال صيف 2010. مذهولة وهي تري سعر الكيلوجرام يتخطي حاجز العشرة جنيهات، الباهظ جدا، بينما كانت تساوي ربع هذا الثمن من قبل عدة سنوات قليلة.
في عام 2008 كان الخبز المدعم المكون الرئيسي في طعام الفقراء. قد تعرض للنقص في الأسواق نتيجة الارتفاع الشديد في الأسعار العالمية للمواد الزراعية، بل ايضا ضحية للمضاربين، الذين كانوا يفضلون اعادة بيع الدقيق في السوق السوداء بأسعار مرتفعة.
موجة من الذعر تنتاب مصر، يسقط خمسة عشر شخصا علي الأقل قتلي من جراء التزاحم امام الأفران. صدمة عنيفة، ضربة موجعة في هذا البلد الذي يسمي الخبز "عيشا" أي حياة، والذي مازال يحمل ذكري انتفاضة الخبز العنيفة في عام 1977. كانت الاستعانة بالجيش ومخابزه، هي ما وضعت وحدها، حدا لهذه الأزمة غير ان صورة الحكومة قد خرجت منها اكثر قتامة واهتزازا مما كانت.
في منزل دينا، عندما تمتد الصحون، المتحلقة حول المائدة نحو إناء الملوخية الذي يتصاعد منه البخار، ذلك الحساء التقليدي الدبق الأخضر، المطعم بالثوم، يعلق الجميع علي الأحداث الراهنة في حدة وجفاء يندد الجميع بسيطرة "شلة الفاسدين" يعربون عن سخطهم من انقطاعات المياه المستمرة في بعض الأحياء الفقيرة حتي يتم ري مسطحات الخضرة في ملاعب الجولف القريبة، وعن عدم رضاهم عن التدليس لصالح رجال الأعمال المقربين من النظام، الذين منحتهم الحكومة مساحات شاسعة من الأراضي بأسعار زهيدة ليقيموا عيها منتجعات فاخرة، بينما يتكدس المزيد من المصريين فيما يشبه مدائن الصفيح.
ومع هذا، فعندما تدور دفة النقاش نحو الرئيس، فإن والد دينا، لا يلبث، بإشارة من يده المرقوعة، ان يعيد الحديث إلي سابق مجراه.
حسني مبارك، يعني علي أي حال، ليس مثلهم، بفضله، لم ندخل حربا منذ ثلاثين عاما، إنكم لاتدركون معني هذا، المحافظة علي سلامة الوطن أمر لا يقدر بثمن.
تحت المائدة، يؤرجح رامز ساقيه، إنه يسمع نفس هذا الحديث في منزله ايضا آه من السياسة.. الشيء الوحيد الذي يشغل هذا الشاب السكندري ذا.
الجزء الأخير
الاثنين والعشرين ربيعا، هو شهادته الدراسية التي سوف يحصل عليها في غضون الأشهر القليلة القادمة. المفتاح السحري الذي ينتظره ليقوم بتدريس اللغة الفرنسية في إحدي المدارس الخاصة. واحد من أقرب أصدقائه يقوم بهذا فعلا، وهذا ما يضمن، حسب ما يقول الصديق، أن يحصل علي ألفين أو ثلاثة آلاف جنيه في كل شهر، وظيفة رائعة، بلا شك، حتي وإن كان لابد من الواسطة، كما هو الحال في أي مجال آخر، حتي يكون له الحظ في أن ينالها. الواسطة، لا يعرف رامز طريقا لها، غير أنه لاييأس. نظرا لأن له مشروعاته الخاصة: سوف يتزوج، بمجرد أن يحصل علي الوظيفة، سوف ينجب أطفالا، لقد وضع خططه بالفعل، سوف يكون له ثلاثة من الأطفال علي الأقل.
-سيكون من الواجب أن يساعدني أحد، عندما يحين موعد التقاعد.
منذ عدة أسابيع، جالسا علي حافة الأريكة، ذات المساند الذهبية حائلة اللون التي تتصدر الصالون العائلي، كان لرامز نقاش مع والده، المتقاعد بعد انتهاء عمله في احدي شركات التأمين الصغيرة.
لقد كنت أربح نقودا أقل منك، لكن قدرتي الشرائية كانت أكبر، خصوصا أنني عندما كنت في مثل عمرك يا بني، كنت أحظي براحة البال، لم أكن أخشي ما يمكن أن يحمله المستقبل.
توقف الرجل العجوز عن الحديث، ثم أردف، بصوت متهدج قليلا:
من الصعب علينا كآباء أن نعترف بأن أبناءنا سوف يعيشون حياة أكثر عناء من حياتنا، بينما كنا قد بذلنا كل ما في وسعنا حتي يحدث العكس.
أحيانا تأخذ الأحلام برامز، بمجرد الحصول علي شيء من النقود، سوف يذهب إلي شرم الشيخ. الشواطيء. الفتيات، لقد سمع ذلك من محمد، جار والديه في الإسكندرية، الذي سافر إلي شرم حتي يكسب عيشه هناك، خلف أحد المكاتب، في أحد الفنادق الكبري. يتساءل رامز: ألم يكن من الأولي أن يختار مجال السياحة بدلا من التدريس؟ السياحة، قيمة مؤكدة ومستقبل مضمون. هكذا يعتقد.
في الغرب، كان يعلم رامز، يعرف الجميع مدينة شرم الشيخ. لكن في مصر فإن أحدا لايذهب إليها. أو علي الأقل ليس الكثير من الناس. فضلا عن أن تكون لهم إمكانية القيام بذلك. باهظة جدا بالنسبة إلي معظم المصريين، إلا إن كانوا من أهل الصفوة. ثم إن هناك نقاط التفتيش، منتشرة علي طول الطريق، أماكن التحقق من الهوية، حيث يتعطل الأجانب قليلا، بينما يتم التمعن في أوراق المصريين واعتصارهم بين أيدي ضباط الشرطة، الجاثمين تحت مظلاتهم ينضحون عرقا تحت لهيب القيظ. يكفي أن تكون قد تواجدت يوما ما في المكان الخطأ، في الوقت الخطأ حتي يجري تفتيشك ثم تسجيلك من قبل أمن الدولة وتطرد من جنة شرم الشيخ.
الجماهير غفيرة، متراصة، متلاصقة علي أرصفة المشارب، ملتصقون بواجهات المحلات الزجاجية، مزروعون بعضهم إلي جوار البعض في خط يبدو بلا نهاية.
روس، إيطاليون، بولنديون، إنجليز، فرنسيون....
أوروبا مصغرة تسير جنبا إلي جنب، أوروبا محترقة الأكتاف بفعل الشمس، مزدانة بوشوم الحناء. في مارينا شرم الشيخ، في ذلك المساء من شهر مايو، كانت الموسيقي شديدة الصخب، تكاد تصيب بالصمم. لقد أبطأ الخرسانية لتلك المجمعات الفندقية الشاسعة. وظلت سيناء التي اعادتها اسرائيل إلي مصر بعد معاهدة كامب ديفيد، لفترة طويلة أرضا عذراء، أو هكذا كانت تقريبا. أما فورة الرواج السياحي الكبير فقد حدثت في منتصف التسعينيات.
في ذلك الحين، بينما كان إرهاب الجماعات الإسلامية يجتاح الجزء القاري من مصر، ظلت سيناء بمنأي عن ذلك. كانت القيعان البحرية، المحفوظة من هجمات السياح التترية، استثنائية الجمال. ما بين السويس وشرم الشيخ، علي طرف شبه الجزيرة الصحراوية، يستعرض البحر، الذي يمكن رؤيته عبر الطريق الساحلي، انعكاسات تركوازية وبنفسجية، علي خلفية من الجبال المدرجة الحمراء. بعد ذلك بخمسة عشر عاما، صارت سيناء واحدة من أهم المقاصد السياحية، وأكثرها قيمة في العالم. نجاح كبير ينسب إلي حسني مبارك، الذي كرر في شرم الشيخ تجربة مدينة Can Cun المكسيكية: بمضاعفة أعداد مؤتمرات القمة المقامة علي أرضها، سواء التي كانت تتناول قضايا السلام أو مكافحة الإرهاب، داعيا إلي جواره أهم شخصيات هذا العالم، من بيل كلينتون إلي كوفي عنان. واتخذ مبارك لنفسه من أجد أجمل خلجان هذه المحطة البحرية، واحدا من منتجعاته الأثيرة. ولا عزاء أمام الخرسانات التي تجتاح الساحل كيفما اتفق أو للإفقار المروع في كائنات البيئة البحرية من نباتات وحيوانات وشعب مرجانية، الوجه المظلم لهذا النجاح السياحي غير العادي.
في قاعة استقبال واحد من المجمعات الفندقية العديدة في شرم الشيخ، يدور محمد حول نفسه، ابتسامة سرمدية معلقة علي شفتيه، يمد يده بإيصال، يحدث بشاشة الحجوزات، يصور جوازات السفر، يستجيب لكل طلبات النزلاء، يتبادل فكاهة مع مصطاف هولندي، يصرخ علي أحد الموظفين. في الثلاثين من عمره، يتقاضي محمد مائة وخمسين يورو شهريا. أحيانا تكون ساعات العمل، الطويلة جدا، مرهقة، فيتصاعد في جوفه الأسي.
-إنني أتحدث أربع لغات بطلاقة. حصلت علي ماجستير في التنمية السياحية، أقوم يوميا بتأمين راحة عدة مئات من النزلاء، الذين ينفقون في أسبوع واحد ما أجنيه في عدة شهور. لكن بلا واسطة، من المستحيل أن تتطور الأمور نحو راتب محترم يمكن من مواجهة الحياة بلا قلق.
صاعدا الممشي الذي يفضي إلي المبني الرئيسي، المغطي بأشجار الجهنمية، كان محمد يلتفت، يدور برأسه، يتحقق من
أن أحدا من مسئولي الفندق لايتسكع في الجوار. عقد العمل ينص، وبأحرف سوداء كبيرة علي أنه: ممنوع عليه ابداء الشكوي أو إظهار التأفف لدي النزلاء أو تشويه صورة مصر في أعينهم.
في مدينة الإسكندرية، مسقط رأسه، ترك محمد خطيبته. شابة من نفس الحي موظفة بقطاع البنوك، هنا في شرم الشيخ، ليس لديها الكثير من الحظ في الحصول علي عمل مماثل. بناء عليه يواصل محمد حياته وحيدا حتي يتمكن من ادخار ما يكفي من النقود لشراء شقة، وأن يزودها بالأثاث وبالأجهزة الكهربائية، مرحلة إجبارية عليه أن يقطعها إذا كان ينوي إتمام زواجه.
لكن بعد ذلك، سوف يكون عليه أن يغادر شرم الشيخ.
-حتي لو كانت خطيبتي غير مقيدة بعملها، فلن تكون هنا علي طبيعتها، هنا مع هؤلاء السائحين والبكيني، و..... الخمور.
بحركة ساهية، التقط محمد غصنا مزهرا، فوشيا صارخة اللون.
-وإن رزقنا بأطفال....، إنني لا أريد لهم أن يكبروا وسط مناظر خادعة، كما هو الحال هنا، كل هذا محض زيف، حلم مصنوع من أجل السائحين، سهرات النوادي الليلية، الاحتفالات... يجب ألا تعتقد أن هذه هي مصر.
صمت
الحياة الحقيقية، حياته، ليست وردية بهذا الشكل. إنها.. رمادية.
رمادية حياته، رمادية كعوادم السيارات. محمد لم يعد يحتمل هذه الغازات. إنه يعيش في بشتيل. لكي يصل إليها ابتداء من وسط القاهرة، علي أن يواصل أكثر من ساعة، في مشوارين داخل ميكروباصات مكتظة. في نهاية الخط، تنتظر التكاتك.... تلك الدراجات المزودة بمحركات، المستوردة من الهند والتي اجتاحت الريف المصري خلال السنوات الماضية. عشرون دقيقة في المقعد الخلفي من هذه المركبات التي تحمل ثلاثة من الأشخاص، تتقاذفه مطبات الشوارع غير الممهدة، بعد ذلك شيء من السير علي الأقدام، قبل أن يصل إلي البيت.
هكذا المكان يسمي "عشوائي" حي غير مخطط. وفق ما يري السياسيون، حتي لانرتطم بالحقيقة، شيء ما بين مدينة الصفيح، والقرية المهجع. في هذه البنايات التي تنتصب منها أسياخ حديد التسليح، المشيدة دونما تراخيص، بلا وجه حق فوق الأراضي الزراعية، تبدو الثقوب في واجهاتها المبنية بقوالب الطوب الأحمر. الشوارع ضيقة، تسمح بالكاد بمرور سيارة واحدة أو عربة توزيع أنابيب البوتاجاز. علي الأرض تجري قناة للصرف، تلقي بمياهها المتسخة، بعد مسافة قصيرة في الترعة المجاورة.
سواء كان هناك علي مشارف القاهرة، أو في بعض قري دلتا النيل، فإن الماء الجاري، علي أي حال، يعتبر سلعة نادرة.
تبعا لإحصائية عام 2006، فإن 65٪ فقط من البيوت تحوي صنبورا، رقم ينخفض كثيرا في المناطق الريفية. هناك لايستطيع السكان الاعتماد إلا علي توزيع المياه الذي تؤمنه من حين لآخر عربات صهاريج نقل المياه، مياه الترع أو الآبار الآسنة، غالبا ما تكون مصابة بالعدوي من جراء تلوث طبقة المياه الجوفية. دوسنتاريا، تيفويد، بلهارسيا أو الالتهاب الكبدي، كما يري الجغرافي حبيب عايب، فإن العواقب وخيمة: "أكتر من ربع حالات وفيات الأطفال تسببها بشكل مباشر المياه الملوثة".
-الحمد لله!، أطفالي علي خير مايرام، زوجتي تتمتع بصحة طيبة، لدي عمل لدي سقف آوي إليه.
رفع محمد راحتيه إلي السماء، شكرا، كما لو كان يتعوذ من الأعين الشريرة.
ثلاثون عاما بالكاد، وهاهو ذا المعلم الشاب يشعر، كما يقول، بخيبة أمل. مع أن محمدا قطع شوطا طويلا بعيدا عن مسقط رأسه.
في قريته الصغيرة جدا في صعيد مصر، ليس هناك الكثير ممن حصلوا مثله علي شهادة عليا، من بين أشقائه وشقيقاته الخمس كان محمد هو الوحيد الذي التحق بالجامعة، أشقاؤه، الأصغر منه سنا، ظلوا في القرية يزرعون القمح والخضار علي بعض الأفدنة التي ورثوها عن أبيهم. البنات تزوجن من أبناء عمومتهن. أما محمد فقد واصل حتي الثانوية العامة، المدرسة في الصباح والحقل في المساء، ثم أكمل دراسة اللغة. اليوم يقوم بالتدريس في احدي المدارس العامة راتبه يعادل الأربعين يورو، يكمله محمد من خلال الدروس الخصوصية، التي يقدمها في المساء للتلاميذ الذين يمتلك ذووهم القدرة علي الدفع، وأحيانا يقوم بذلك في نفس الفصل الذي يعمل به، وتقريبا مع نفس العدد من الأطفال علي المقاعد في أيام الدراسة العادية.
محنة أسرية، هذه الدروس الخصوصية. في كثير من المدارس، لا يقوم المدرسون حتي بتدريس مناهجهم. في ظل هذه الظروف، يكون من المستحيل أن تجتاز امتحانات نهاية العام دون ان تمد يدك إلي جيبك. تلك الامتحانات القائمة تماما علي الحفظ عن ظهر قلب. منذ عدة سنوات، حاولت الحكومة، علي استحياء، الحد من هذه الظاهرة، وضعت خطة لزيادة تدريجية في رواتب المعلمين، بشرط تخليهم عن الدروس الخصوصية. أجري محمد حساباته: في نهاية الأمر، كان سوف يحصل علي حوالي ثمانين يورو شهريا. النظام الحالي يجلب له ضعف ذلك.
كان ذلك قليلا، لكنه أفضل، أفضل بكثير من القرية. في مسكنه الصغير، وضع محمد حاسبا آليا، يتصل بالنت عن طريق أرقام الزيرو.. سبعة، تلك الأرقام التي تسمح لأي من كان بالاتصال دوليا، ابتداء من أي خط تليفون أرضي، دون دفع الاشتراك وبسعر مكالمة محلية. مؤخرا زود محمد كل الحجرات بمراوح كهربائية. محمد كان أول من استطاع شراء ثلاجة في عائلته. حلمه؟ أن يحمل أهله كلهم يوما ما للسباحة علي شواطيء الاسكندرية تضربهم الأمواج ذكري شهر العسل، تأثير البحر الساحر.
في انتظار الاسكندرية، مرتين في كل عام، تكون زيارة حديقة الحيوان بالقاهرة بذور عباد الشمس المملحة، يلوكونها امام اقفاص الأسود، والعودة مرورا بالواجهات المضيئة لمحلات وسط البلد.
من جديد تخفف دينا سرعتها عالقة في الزحام في الميكروباص المجاور، يلقي الركاب المكدسون نظرات متعبة عبر زجاج النوافذ. علي حافة الطريق، تقوم بناية بيضاء. أمامها، لافتة هائلة وجوه أطفال مشرقة عيون تتلألأ بالشمس. أسفل الصورة شعار "حتي تطمئن علي مستقبل أولادك".
بعد ذلك بشهر في ذات المكان لن يكون هناك سوي الرماد أطلال تؤجج النار فيها رياح ثورة. غير انه خلال شهر ديسمبر هذا كان مقر الحزب الوطني الديمقراطي لايزال واحدا من رموز السلطة في مصر. بدونه لايحدث شيء. بدونه لا يمكن أن يحدث شيء. يسيطر بمفرده علي الحياة السياسية في مصر، منذ ثلاثين عاما الأحزاب الأخري تعيش حالة احتضار. جماعة الإخوان المسلمين غير معترف بها أما ما يطيب لمحمد دينا محمود وكل الشباب في مصر أن يعتقدوا في وجوده فهو غير موجود ليس بعد.
في ذلك المساء في انتظار الحفل الموسيقي بساقية الصاوي في حي الزمالك الراقي كانت دينا جالسة علي أحد المقاعد إلي جوار صديقتها خديجة وشقيقها الأصغر نور هو الآخر تغيظه أحوال البلد يتدمر من هذا النظام يبتهل من أجل الحصول علي تأشيرة حتي يرحل خارج مصر يجد عملا.
-أريد أن أعيش حياة غير هذه، يقول نور عيناه تسبحان في الغيوم، أريد أن تكون لي أمنيات ورغبات، أن أشعر بأن الأحلام مازالت ممكنة هنا يخاف الناس أن يتحركوا من أماكنهم حتي وان كانوا لايخاطرون بأي شيء لو فعلوا.
- وإلي أين سوف تذهب ياحبيبي إلي السعودية؟ أم إلي اوروبا؟ بالنسبة إلي الأوائل، فأنت متحرز بأكثر مما يجب، كما أنك مسلم بأكثر مما يجب أيضا بالنسبة إلي الآخرين.
-أريد أن تتغير الأمور هنا أريد أن يحدث شيء جديد.
لم يعد لنور أحلام كبيرة. كان يكن إعجابا كبيرا لمحمد البرادعي جائزة نوبل للسلام عام 2005، الذي وقف في مواجهة إدارة بوش حيال قضية أسلحة الدمار الشامل العراقية والتي لم يتم العثور عليها مطلقا. والذي أمد الشباب المصري المحبط بقوة دفع جديدة، عندما تحول إلي معارض صلب لنظام حسني مبارك وإلي داعية إلي إقامة الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية. مثله مثل آلاف المصريين، كان نور قد ذهب للترحيب بمحمد البرادعي، لدي عودته إلي مصر، في فبراير 2010، إلا أن الرجل يصيبه اليوم بخيبة الرجاء، لا يتواجد هنا أبدا. دائما في رحلاته إلي الخارج، دون أن يفهم أحد ما هي استراتيجيته. هل يريد أن يقود حركة معارضة؟ إلي أي حد مستعد هو للالتزام بها؟ في وقت ما، كان نور متعلقا به. ثم تخلي عنه، كما تخلي عن كل شيء، ما الفائدة.
دينا نفسها لم تصوت قط بل إنها لم تر أحدا من معارفها، يعود متفاخرا وقد انغمست سبابته في الحبر دليلا علي قيامه بواجبه الانتخابي. أمر يجاوز حدود العقل في بلد يتباهي بوجود أقدم برلمانات العالم العربي علي أرضه.
دينا، مثل الآخرين تشعر بالضجر لم تعد تتعلل بالأوهام.
منذ عدة أسابيع دعي واحد وأربعون مليونا من المصريين إلي صناديق الاقتراع من أجل الانتخابات التشريعية.المناخ العام ثقيل مرهق تخنقه القيود المفروضة علي وسائل الإعلام المستقلة والقمع الموجه ضد الإخوان المسلمين، جماعة المعارضة الأساسية في البرلمان، التي فازت بنحو عشرين بالمائة من مقاعده. لا أحد تساوره الريبة فيما ستؤول إليه نتيجة الانتخابات: في عام 2007 تم تعديل الدستور لإلغاء الإشراف القضائي الذي كان يمثل حماية هزيلة ضد التزوير.
عشية الانتخابات لايكلف قادة الحزب الوطني أنفسهم حتي بالمحافظة علي المظاهر: يتنبأون بتراجع شديد للإخوان المسلمين وتقدم المعارضة العلمانية، رغم أن الجميع يعرف انها سوف تكون رمزية. الأمر واضح بالنسبة الي المصريين: الليبراليون وقوي اليسار، الذين رفضوا مقاطعة الانتخابات، كما دعاهم محمد البرادعي إلي ذلك، يمثلون غطاء ديمقراطيا للنظام، غطاء لائقا ومقبولا، قبل الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها في سبتمبر 2011 والتي لم يعلن مبارك وحتي الآن، إن كان سيخوض غمارها من أجل ولاية رئاسية سادسة، من عدمه مثيرا بذلك غضب وتساؤلات مواطنيه.
غير أن هذا السيناريو المعد جيدا سوف يتجاوز حدوده الحزب الوطني الذي يقدم قرابة ثمانمائة مرشح للتنافس علي خمسمائة وثمانية مقاعد. وسوف يحقق منذ الجولة الأولي اجتياحا كاسحا تدخلات وتهديدات الدوائر الأمنية، الوساطة والمحسوبية بلا حدود وايضا حسب ما يقول المراقبون التزوير الممنهج تقريبا عن طريق شراء أصوات الناخبين في مراكز الاقتراع لم يترك للمعارضة أي فرصة المعارضة التي تقلصت الي خمسة مقاعد وبضع عشرات من حالات الإعادة. أعلنت عن انسحابها بين الجولتين، تعبيرا عن استنكارها لهذه "المسخرة".
منفردين بالساحة، فاز أعضاء الحزب الوطني وأهل ثقته في نهاية الأمر بثلاثة وتسعين بالمائة من مقاعد البرلمان.
سير الانتخابات أظهر ان تسعة أعشار المصريين الذين لم يبرحوا أماكنهم ليقوموا بالتصويت، كانوا علي حق.
تنازلا وتسليما بل ايضا لأن كل شيء بداية من التسجيل في قوائم الناخبين حتي الدخول الي مكاتب الاقتراع في يوم الانتخابات كان قد أعد لصرف وإثناء من لايملك دافعا قويا.
لن يكون شقيق دينا هو من يقول بعكس ذلك في عام 2005 مدفوعا بمناخ فترة ما قبل الانتخابات، الأكثر حرية، ذلك الانطباع الشائع بأن شيئا ما يمكن أن يحدث، كان ياسر قد قرر للمرة الأولي في حياته، القيام بواجبه كمواطن.
من هذه التجربة لم يجن ياسر سوي المرارة والغضب.
لمرات عديدة، تردد ياسر علي قسم شرطة الحي حتي يسجل اسمه في قوائم الناخبين. أوراق ناقصة، وثائق لا يمكن العثور عليها، مسوغات جديدة.
يحاولون إصابتي باليأس، قال ياسر لأخته، كما لو كان في إصراري علي التصويت امر يبعث علي ريبتهم.
كانت عدة أسابيع قد مرت، قبل ان يحصل ياسر لفرط ما قدم من تضحيات علي بطاقته الثمينة في نهاية الأمر.
في يوم الانتخابات استأذن ياسر حتي يحصل علي عطلة من عمله. كان نهارا بديعا مشرقا تكتنفه الوعود والآمال. توجه ياسر إلي مكتب الاقتراع الذي حدد له مدرسة عامة تغطي أسوارها رسوم فرعونية. خلال أكثر من ساعة كان ياسر يمر من مكتب إلي آخر، يتفحص السجلات، يسأل الموظفين المساعدين.
-أسف ياسيدي، ليس هنا...
حاول ياسر مرة أخري انتقل إلي مراكز اقتراع اخري في الحي ثم تخلي عن الأمر استسلم، اقسم انه لن يعيد الكرة مرة اخري ابدا.
في الانتخابات البرلمانية عام 2010 بمنتهي الحكمة بقي ياسر في منزله مثله مثل كل شباب جيله تقريبا.
بعد شهرين فقط من ذلك ابتداء من 25 يناير سوف يخرج ياسر ودينا ورامز ومحمود.
من أجل المشاركة في الثورة.
يصدر قريباً المركز القومي للترجمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.