أفراح واستقبالات عيد القيامة بإيبارشية ميت غمر |صور    الضهر مليان والبطن فاضية.. تاجر يقدم أهم النصائح عند شراء الفسيخ| فيديو    وزير السياحة يشارك كمتحدث رئيسي بالمؤتمر السنوي ال21 للشرق الأوسط وشمال إفريقيا    وزيرة الهجرة: نستهدف تحقيق 5 مليارات دولار قيمة أوامر الدفع بمبادرة المصريين في الخارج    جيش الاحتلال يعلن خسائره من هجوم حماس على معبر كرم أبوسالم |صور    وكالات الاستخبارات الأوروبية: روسيا تخطط لأعمال تخريبية في أنحاء القارة    الفيضان الأكثر دمارا بالبرازيل .. شاهد    أول قرار من «جوميز» بعد خسارة الزمالك أمام سموحة في الدوري    الهلال يحقق بطولة الوسطى للمصارعة بفئتيها الرومانية والحرة    السيطرة على حريق في سوبر ماركت بمدينة سمالوط في المنيا    إصابة 3 أشخاص في تصادم 4 سيارات أعلى محور 30 يونيو    فتحي عبدالوهاب: حلقات المداح 4 بدأت بمناسبة ببن الخير والشر    أسامة كمال يهنئ جموع المسيحيين والشعب المصري بمناسبة عيد القيامة وشم النسيم    بعد الإعلان عن إصابته بالسرطان.. تعرف على آخر أغنية أطلقها محمد عبده    حزب الله: استهدفنا مستوطنة مرغليوت الإسرائيلية بالأسلحة الصاروخية    نجل الطبلاوي: والدي مدرسة فريدة فى تلاوة القرآن الكريم    «اتحرك كتير».. 4 نصائح للتخلص من الانتفاخ والأملاح الزائدة بعد تناول الفسيخ والرنجة    فحص 482 حالة خلال قافلة طبية مجانية في الوادي الجديد    كيكة السينابون الهشة الرهيبة.. من جمالها مش هتبطلى تعمليها    أعراضه تصل للوفاة.. الصحة تحذر المواطنين من الأسماك المملحة خاصة الفسيخ| شاهد    نائب سيناء: مدينة السيسي «ستكون صاعدة وواعدة» وستشهد مشاريع ضخمة    فيديو.. محمد عبده يبكي خلال حديثه عن إصابته بالسرطان: هذا من محبة الله    «جالانت» يحث «نتنياهو» بقبول صفقة التبادل ويصفها ب«الجيدة» (تفاصيل)    الوزير الفضلي يتفقّد مشاريع منظومة "البيئة" في الشرقية ويلتقي عددًا من المواطنين بالمنطقة    .تنسيق الأدوار القذرة .. قوات عباس تقتل المقاوم المطارد أحمد أبو الفول والصهاينة يقتحمون طولكرم وييغتالون 4 مقاومين    «ظلم سموحة».. أحمد الشناوي يقيّم حكم مباراة الزمالك اليوم (خاص)    لوائح صارمة.. عقوبة الغش لطلاب الجامعات    الإسكان: إصدار 4 آلاف قرار وزاري لتخصيص قطع أراضي في المدن الجديدة    ظهر على سطح المياه.. انتشال جثمان غريق قرية جاردن بسيدي كرير بعد يومين من البحث    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟ دار الإفتاء تجيب    لجميع المواد.. أسئلة امتحانات الثانوية العامة 2024    روسيا تسيطر على قرية جديدة في شرق أوكرانيا    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    أمينة الفتوى: لا مانع شرعيا فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    نقل مصابين اثنين من ضحايا حريق سوهاج إلى المستشفى الجامعي ببني سويف    كل سنه وانتم طيبين.. عمرو سعد يهنئ متابعيه بمناسبة شم النسيم    «العمل»: جولات تفقدية لمواقع العمل ولجنة للحماية المدنية لتطبيق اشتراطات السلامة والصحة بالإسماعيلية    يوسف زيدان يرد على اتهامه بالتقليل من قيمة عميد الأدب العربي    انطلاق مباراة ليفربول وتوتنهام.. محمد صلاح يقود الريدز    فى لفتة إنسانية.. الداخلية تستجيب لالتماس سيدة مسنة باستخراج بطاقة الرقم القومى الخاصة بها وتسليمها لها بمنزلها    وزير الرياضة يتفقد مبنى مجلس مدينة شرم الشيخ الجديد    التخطيط: 6.5 مليار جنيه استثمارات عامة بمحافظة الإسماعيلية خلال العام المالي الجاري    الحكومة الإسرائيلية تقرر وقف عمل شبكة قنوات الجزيرة    ندوتان لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية بمنشآت أسوان    تقرير: ميناء أكتوبر يسهل حركة الواردات والصادرات بين الموانئ البرية والبحرية في مصر    5 مستشفيات حكومية للشراكة مع القطاع الخاص.. لماذا الجدل؟    استشهاد ثلاثة مدنيين وإصابة آخرين في غارة إسرائيلية على بلدة ميس الجبل جنوب لبنان    البابا تواضروس: فيلم السرب يسجل صفحة مهمة في تاريخ مصر    الإفتاء: كثرة الحلف في البيع والشراء منهي عنها شرعًا    ميسي وسواريز يكتبان التاريخ مع إنتر ميامي بفوز كاسح    لاعب فاركو يجري جراحة الرباط الصليبي    طوارئ بمستشفيات بنها الجامعية في عيد القيامة وشم النسيم    "خطة النواب": مصر استعادت ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    كنائس الإسكندرية تستقبل المهنئين بعيد القيامة المجيد    المديريات تحدد حالات وضوابط الاعتذار عن المشاركة في امتحانات الشهادة الإعدادية    اليوم.. انطلاق مؤتمر الواعظات بأكاديمية الأوقاف    مختار مختار: عودة متولي تمثل إضافة قوية للأهلي    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خيرالله الجبل
نشر في أخبار الأدب يوم 10 - 01 - 2015

ولود الكلب ضحكوا عليه وتركوه للجناجِم وحده في طاحونة المفارق وطاروا!
وبعد أن استقر طرف عصاه المدبّب ينخُر في عيونها وأنوفها وما شاف من فتحاتها محاولا اكتشاف ما بداخلها بجسارة، أفلتت كفُّه الصغيرة العصا وتسحّب فوق أطراف أصابعه كاتما أنفاسه حتي وصل مدخل الطاحونة، ولم تمنحه شجاعته قدرة للانحناء والتقاط العصا الملعونة التي انحشرت في فيه إحدي الجماجم المبعثرة فوق التراب، بالكاد قفز كالملدوغ بعيدا بعيدا، ليقطع المسافة من طاحونة المفارق إلي الشارع البحري في نفس واحد، مقاوما رغبته في إلقاء نظرة خاطفة للوراء ليتأكد له ما إذا كان ثمة ما يطارده أم لا.
هكذا حكي "عليّ" لأخته صالحين وهي تُحمّيه وتدعك بين فخذيه بليفة النخيل وصابونة البوتاس كما أوصتها أمها قبل أن ينخ بيت المعصرة فوقها كالجمل.. وتموت. اعتادت صالحين معه، دون بقية أخوته، أن تمرّر حكاياته عبر أذنيها كما تمر رغاوي الصابون الساخنة بين أصابعها بعد أن تمتص شيئا من لذتها يمحو شيئا من تعب يومها الطويل، الوحيد "علي" الذي يقبل بها تُحمّيه بلبوصا عاريا، عيل قليل الأدب، حتي مصطفي الذي يصغره بأربع سنوات كاملة لا يقبل.
قبلها بساعات كان "عليّ" يطنّ كنحلة بين أزهار يابسة في آذان الولدين ياسين وحسين ابن متولي الخرّار ليجرّهما خلفه باتجاه طاحونة المجذوب كجحشين ربطهما عربجي غشيم بمؤخرة كارو، بعد أن رفض أخوته ناجي ومصطفي ومحمد الذهاب معه خوفا من الكلاب المسعورة والصخور الوعرة وأمين المجذوب ساكن الطاحونة الذي أقسم جارهم الشيخ يونس أنه لا يظهر خارج الطاحونة إلا في الخلاء والزراعات والمصارف وقهوة مجاهد، وخوفا من لدغات أختهم صالحين التي تركت فوق أفخاذهم علامات حمراء كطوابع بريدية قديمة ذات صمغ سوداني عتيد.
ولكي يحفّزهما عليٌٌٌّ علي خوض مغامرة الطاحونة حكي لهما عن كنز اليهودي خيرالله الذي دفسه في الطاحونة قبل هجرته لإسرائيل أيام عبد الناصر وسميت باسمه العزبة تاليا، وكانت تلك الرواية التي دأب حسن الكتبي، جارهم تاجر الكتب المسنّ الذي يختم كلامه دائما بجملته الله معك ومحمد وعلي، علي ترديدها دون دليل علمي أو سند تاريخي لكنها وجدت آذانا التقطتها وأضاف أصحابها إليها. أخبرهما علي أن الكنز يحرسه عفريت أزرق يخدمه أمين المجذوب وأن لديه تعويذة تفُكّه، وعندما سأله حسين عن التعويذة أخرج صفحة نزعها من كتاب "الكبريت الأحمر والسر الأخفر" وجده بين كتب أخري يحفظها حسن الكتبي في خزانة سريره، كانت جلدة الكتاب حمراء قانية والحروف باهتة بارزة مكتوبة يدويا بخط النسخ، استرعت الصفحة المطوية انتباهه، حاول فتحها فخرجت مهترئة بين أصابعه فدسها في جيبه، خمّن أن السر الأخفر ربما هو سر كنز اليهودي خيرالله وأن الصفحة المطوية هي فك الطلسم، صدّقه حسين وياسين، وكان دافع حسين ابن متولي الخرار لتصديقه أكبر فقد أراد بنصيبه أن يثني أباه عن نزح طرنشات العزبة بالعربة الطنبور التي تجرها حمارة وابنتها، تسبقه رائحة تزكم الأنوف وتعمي الأبصار. لكن الحلم تبخر كما تبخّرت أحلام هامشية أخري بمجرد دخولهم الطاحونة ورؤيتهم الجناجم هكذا سموها - وعظام آدمية وملابس بالية وسط صناديق خشبية كبيرة قديمة مغلقة بإحكام، بعد أن تجاسر "علي" وسار أمتارا داخل الطاحونة وشرع يعبث بمحتواها، طارا ولود الكلب مذعورين في فضاء العزبة كممسوسين، تركاه وحيدا لا يتذكر حرفا من آية الكرسي أو سورة الفاتحة تعينه علي فتح واحد من هذه الصناديق التي هي بلا شك كرازات ذهب اليهودي خير الله!
"ستعملها علي روحها إن لم يسكت" أخبرته صالحين، وصمت، ولولا حبة الضحك الذي أجاد استفزازه داخلها لفركت قطعة لحم صغيرة من فخذه بين إبهامها وسبابتها بقرصة محترفة من موروثات المرحومة.
عندما وصلت إلي كعبي قدميه بليفتها النخيل التي صنعت بنصفها الآخر "مقشة" لكنس التراب وحبات الرمل المتساقطة من تفاريج السقف سألته عن "الجناجم" فأخبرها أنها تلك التي يراها كل صباح فوق اللافتات المثبتة بعواميد الكهرباء بمحطتي دار السلام والمعصرة لعظام رأس رجل ميت وتحتها عبارة "خطرلموت"، وأيضا لم تفهم، بينما ظل هو نحو فصل دراسي كامل لا يلمس عواميد الكهرباء حتي جاء يوم قرر فيه أن يعود إلي طاحونة المجذوب وحده بعد أن رفض مرافقته الجميع، وعاد منها حاملا في قلبه سرا وعلي كتفه جوالا متسخا منتفخا بالجماجم والعظام، خبأه بين كراكيب أخري فوق سطح الغرفة دون أن يفكر في أي غرض سيستخدمها. الجوال الذي سيسقط بما فيه وبعد سنوات فوق رأسي حنفي وأبوتلاتة في محاولتهما تذوق لحم البنت صالحين!

عندما نخّ بيت المعصرة كناقة مسنّمة أجهدها المسير بلا زاد وراحت الغرفة والدكانة والأم تحت أنقاضه، وجاءت أم ياسين جارتهم القديمة للعزاء وقبض الاسم الأخير من "جمعية" دخلتها قبل نحو عامين لاستكمال ثمن بيتها الجديد في عزبة خيرالله، أخذت تحضّها لتجلب الصبيان الأربعة وتجاورها، قالت أم ياسين إن أمة لا إله إلا الله تزحف إلي هناك، خيرالله، أرض رخيصة بلا صاحب، وعالية تشوف القلعة والبرج والهرم والمقطم، وأنها لن تتمعر لصاحبة بيت بدينة تقف علي بابها أول كل شهر تطلب إيجار غرفة ذات دورة مياه مشتركة يترك عيال الجيران نصف برازهم علي حواف فتحة صرفها كتذكارات معتقة من أكلات فاسدة هصرتها الأمعاء وألقت ببقاياها روائح كريهة تعبق غرفتها، سيكون بيتكِ يا صالحين بدورة مياه مسموح لكِ ولأخوتك بالاستحمام داخلها دون أن يمتلأ "الطرنش" بالمياه وتضطرين للمشاركة في جلب عربة النزح، "هانكون ونس بعض يا صالحين!".
رددت أم ياسين ما اعتاد زوجها ترديده علي مسامعها منذ انتقل بها إلي خيرالله: ألا تنظر للعزبة الآن، تنظر بعد سنوات، بعد سنوات لن تتسع لموطئ قدم جديد ومن لم يبادر بركوب "حتة " قبل الهوجة سيندم. لم ترد صالحين أن تندم. نبشت أنقاض البيت المهدوم علي أدمغة أصحابه وأخرجت ملابس لها ولإخوتها وبعض الأواني والصناديق وبطارية بمية النار "حامض الكبريتيك" وكلوب براتينة بيضاء وحصيرة وبر بلاستيك، وأشياء أخري تخص جيران تركوها تحت الأنقاض وهجّوا بدونها حتي لا تصحبهم رائحة الميتين، أهدتها جارة طيبة ملاءة سرير زرقاء عليها نقشة زهور لا تعرف اسمها
كانت ضمن جهاز ابنتها، اشترت وابور جاز بشرائط، كان أمنية قديمة حققتها، استأجرت سيارة جمال بائع الدجاج الفيومي الربع نقل لتوصيل عزالها وقضت نهارا كاملا في ترتيبات "العزال" دون شعور بالتعب، شعرت به عندما جاهدت لاعتصار مآقيها لتقطر بعض الدموع علي روح أمها المرحومة استقبالا وتوديعا لبعضهن ممن جئن للعزاء يجاملنها بالصويت الفاجر ولطم الخدود.
في الخامسة عشرة كانت، تفصلها أربع سنوات كاملة عن ناجي أقرب أخوتها، بينما تفصله بدوره أربع سنوات مماثلة عن علي ذي السنوات السبع، يصغره مصطفي بأربع أخري أكمل الثالثة قبل أسابيع، بينما لم يكمل أصغرهم عامه الثاني، ولد بعد موت الأب، تقول صالحين: "مازورة الخلفة عند المرحومة خربت بعد مصطفي" فجاء محمد بعده بسنة واحدة، كأنهما الله يرحمهما- لم يكتفيا أن تحمل همهم في صدرها بعد انخلاعهما فحمّلاها همّا حيا يتلوي فوق الذراع. يأتي الدنيا برزقه، ربما أرادا الاستيلاء علي رزق الطفل لإطعام بقيتهم خلال فترة الرضاعة..
أولئك الصبية المتشبثين بجانبيها واكصدامها الخلفي وشدّ الأنبوب سهوا أو عمدا فإنها تتوقّف توا أو تعود إلي الخلف، وفي الغالب فإنها تهوي كزلطة يمينا في محجر الجير أو يسارا في فناء مصنع الطوب وقد تحوّلت إلي برادة حديد وأشلاء آدمية.
حلف جمال يمينا غليظا وهو يحرّك فتيس السيارة كمن يزيح هما عن كاهله أنه لا يضحك عليها، ستتأكّد بناظريها عندما يمرون فوق المطلع وتري بقايا السيارات التي هوت أسفله وقد ظلت تذكارا حيا لمن يريد الاعتبار، تصعّبت بمصمصة شفاه مفتعلة وقالت "يا عيني!!" ليته ما نطق وتذكرت الأب الذي مات مكهربا يقول لها: "الموت مابيوجعش الميت.. بيوجع الحي وحده" كيف عرفت، وهل انوجعت عندما نشّفت الكهرباء دمك قبل أن تتحول إلي قطعة فحم مشتعلة.
لم يفكر أحد في بناء سور علي جانبي المطلع، ربما لأن أحدا لم يكتشف المكان بعد. قال جمال إن أخطر ما فعلوه أن جاءوا ليلا، ولولا اضطراره للسفر صباحا وجه بحري لتوزيع برنيكة الفراخ الفيومي ما فعل. تمنت لو صفعته أو صرخت في وجهه، قالت: معلشي، وقالت: ربنا يستر طريقك.
رأت المحال وأضواءها الملونة عبر زجاج شباك سيارة العزال النظيف، الكورنيش ومراكبه النيلية ذات الأشرعة، عمارات المعادي التي تصيب من ينظر لآخرها بالدوخان. تابلوه السيارة المزدان بمفرش قطيفة صنعته زوجة جمال السواق من جلابية قطيفة قديمة حرقتها المكواة تتذكرها صالحين جيدا وهي تختبر نعومتها بأطراف أناملها، علبة مصحف صغيرة مزخرفة بداخلها سجائره البلومنت وولاعة تمنّت لو جرّبت إشعالها، المؤشرات المضيئة التي لا تفهم منها شيئا، الفتيس الذي يتحرك في كل اتجاه بمناسبة وبدون. لم يمنعها نوم "محمد" في حجرها من لفّ البكرة الجانبية الثقيلة لإنزال الزجاج حتي آخره والسماح لتيارات الهواء الباردة بإزاحة طرحتها السوداء إلي الربع الأخير من رأسها، رحلة قصيرة تمنت ألا تنتهي، رحلة الجندي في الطريق إلي الالتحام بعدو لا يعرف عنه الكثير ولم يستعد له كما ينبغي، دون مؤونة أو خط إمداد أو خطة انسحاب احتياطية، بعد دقائق ستنتهي الرحلة وتبدأ حياة جديدة.
أخبرهاجمال أنهم علي وشك، فقط سينعطف من الكورنيش يمينا بعد مستشفي السلام ليعبر قضبان محطة الزهراء ومنها إلي مطلع العزب.
ظلّت السيارة تقطع رحلة صعودها مطلع الزهراء ، فكرت أنها لو مدت كفها خارج النافذة لأمسكت بملاك يدلي قدميه من حافة السماء الأولي، بينما لم تُخفِ سحب دخان سجائر
جمال الكثيفة وترديده "ربنا يستر" فزعه من مفاجآت الطريق وكائنات ليل الجبل، تشبث بمقود السيارة وتقدّم بجسده حتي كاد يلتصق بزجاجها الأمامي، قال دون مناسبة: "بيقولك بسم الله الرحمن الرحيم مايطلعوش لحد لو عددهم يتقسم علي اتنين، واحنا الحمد لله ست أنفار".
تفرّست وجهه وأدركت أنه يرتعد قالت: "احنا خمسة محمد ما يتحسبش واحد" ، وربّتت علي صدر النائم في حجرها !
وصلت السيارة إلي المفارق حيث اتفق جمال مع أبو ياسين علي الالتقاء، مرّت ساعة ولم يظهر آدمي، طقّت في رأسه أن يحاول الوصول إلي بيت صالحين بنفسه دون مساعدة، تذكّر وصفة أبوياسين أن البيت علي يمين المفارق ويسار طاحونة في الطريق المؤدي إلي مبني اسطبل عنتر، وأنه سيري كارو يملكها سيد عضمة حداد الحمير في البيت المجاور لبيت صالحين، قرّر جمال أن يعثر علي عربة عضمة الكارو المجاورة لبيت صالحين.
بعد ساعات استيقظوا جميعا علي صوت حنجرة طلتها أنفاس معسل الزغلول بطبقات من الجلسرين فخرج أذان الفجر عبر أحبالها الصوتية كأنه مشدودا بالصمغ، رفع جمال رأسه عن المقود وفرك عينيه وتحرّك بالسيارة عدة أمتار مستضيئا بأول خيط من خيوط أول نهار لصالحين في خيرالله، بعد لحظات ظهر أبوياسين ومعه جاره سيد العسكري وخليل يحيطون بالسيارة قالوا أنهم قضوا الليلة بحثا عنها، ولم تكن حين عثروا عليها تبعد عن بيت صالحين أكثر من حارتين.
تعلّقوا بالسيارة يمين طوالي في شمال في يمين .. توقفوا أمام قطعة أرض صغيرة بها غرفة مكتملة البناء تحيطها مساحة خالية تتناثر بها أكوام من الحصي والتراب، يمتد إلي منتصفها لسان صخري بارتفاع من متر إلي مترين. أخبرها أبوياسين ألا تفزع للصخرة فلن تحتاج علي الأقل إلي شراء طوبة عندما يفتح عليها ربنا وتشرع في بناء غرف جديدة تؤجر الواحدة منها بثلاثة جنيهات شهريا وتصبح صاحبة ملك ، فقط أن تستأجر حجّارا ليقطع الصخور وبنّاءا ليستخدمها ، انتشت للفكرة وكم هو رجل طيب!
أنزلوا قطع الأثاث القليلة سريعا وأدخلوه الغرفة وغادروا مجهدين بعد ليلة طويلة في الطلِّ، لم تشعل لمبة الغاز ذلك أن خيوط النهار الأولي بدأت تتمدد فوق بيوت العزبة وشوارعها ومساحاتها الخالية وتنسج لونا رماديا من بقايا حريق أشعله فلاح غشيم بحقل أرز جاف. لا أصوات تتسلل من صخرة صمت أزلي يتحرك ببطء نحو صدرها، صمت لا تقطعه أرجل زاحفة نحو لقمة عيش أو سقسقة عصفور تائه أو نباح كلب سعران أو نقيق ضفدع أو حتي عرير صرصور جائع.
تمهّد داخل الغرفة مساحة مناسبة لنومهم وتعبّدها بالحصيم والتراب وهي تتمتم "يا نخلة هايقطعوا الجريد.. قالت يفعل الله ما يريد" "كل شيء دواه الصبر إلا قلة الصبر مالها دوا".

مرّت ساعات قبل أن تستيقظ في لحظة حاسمة لو تأخرت لسقط السقف فوقهم تحت ثقل كلب أجرب لا تعرف كيف صعد في قيظ يوليو الحارق لينبش عبر تفاريج البوص والخشب فتتساقط علي أجسادهم عواميد عفار وآشعة شمس ألهبت أجسادهم، قالت "تعا جِرررر" استجاب الكلب وترك السطح قفزا ونباحا.
أطل البيت علي شارعين أمامي وخلفي، وكان الأمامي منحدرا لأسفل بشكل حاد تكسوه طبقة من الشقاف الأحمر والطوب والحصيم الداكن الملوث بشيء يشبه زيت أو شحوم السيارات لم يعرف أحد مصدره أو طبيعته، حتي الشيخ يونس أقدم سكان الشارع وخادم المسجد، مسجد الغلام والراهب، لا يعرف. ذات يوم قال: "أصلك الأرض دي فيها بترول زيها زي العراق"
فأسماه البعض صدّاما، بيته مقابل بيت صالحين لكن مساحته عدة أضعاف. لا يفصل بينهما سوي هذا المنحدر الحاد في وسط الشارع.
إلي جوار بيتها وبعد بيت الشيخ يونس بأمتار عدة كان بيت عضمة الحداد الحمّاري الذي يركب حدوات البغال وأحصنة الجرّ وأولاده عماد الذي أخبره أحدهم يوما أنه قريب الشبه بإيهاب توفيق وكان يقصد جحوظا في عينيه فقرر عماد أن يغني. وعربي الذي كان وجهه كتابا مفتوحا يحكي بالتفاصيل تاريخ المعارك والمشاجرات في خيرالله، وهدي التي تمشي مع شبان بعلم أخويها.
يلي بيتَ عضمة بيتُ خليل وقد جعل من شباك غرفة نومه دكانا يبيع بالأجل السكر والشاي والمعسل والحلوي ولبان بم بم، يقابله بيت حسن الكتبي تاجر الورق والكتب الأعرج الذي لم يعلم أحد من جيرانه معني "الله معك ومحمد وعلي" التي يصرّ أن يذيل بها كل جملة يودّع بها أحدهم.
ثم شونة نطرة وسريحته الملاعين الذين يسرقون البذرة من ثمرتها دون أن يخدشوا قشرتها، سرقوا فلنكات السكة الحديد وعواميد كهرباء وأبواب بيوت من عمارات المعادي وسيارة شرطة بوكس صعدت ذات يوم إلي مبني الاسطبل لالتقاط جثة فتاة عثر عليها داخل مبني الاسطبل وعندما استيقظ حراسها لم يجدوا من السيارة سوي الشاسيه وبعض المكونات الثقيلة.
بيت أبوياسين "البنّاء" الذي شيّد غرفة صالحين بمساعدة الشيخ يونس في آخر الشارع بناصية مع شارع الأبيض. وبيت سيد العسكري الذي سيبيع نصفه ذات يوم لأبو تيتو، وافد من بني سويف يعمل في مكتب وزير الشباب والرياضة فراشا، سيؤسّس فريقا لكرة القدم يهزم به فرق الجيارة وأبوقرن والاسطبل، وبسبب تحكيمه السيء في بعض المباريات سيحظي بخاتم قرن غزال في عنقه يتسبب في نقله من مكتب الوزير إلي مديرية الشباب والرياضة في قليوب قبل أن يسوي معاشه، لاقتطاع بدل التغذية والإثابة من راتبه، ويفتح "سِرجة" لبيع المعلبات والعسل والطحينة والأجبان والرنجة.
هكذا كانت تصطف البيوت .. مساحات خالية في أحد جوانبها غرفة مكتملة أو أكثر، ومساحات خالية بين الجار وجاره. لم يكن مسموحا ببناء أسوار أو فواصل بينها قبل
الحصول علي إذن عبد الرحمن الابن الأكبر للضبع، الله لا يرحمه، أول من وضع يده علي خير الله وما حولها مع جاهدة السودا الشهيرة ب "أم الشهور" قبل أن يختصما ويتنازعا السيادة علي المنطقة بأكملها. وعلي من يرغب في البناء في هذه الناحية أن يحصل علي إذنه أو إذن أحد رجاله غيضان أبوتلاتة أو حنفي أو صندل، بعد دفع المعلوم نقدا أو صناديق بيرة وخراطيش سجائر.
كان الضبع، عند بيع الأرض، يحرص علي ألا يضع حدودا واضحة بين الجيران، فقط اكتفي بأن يلتقط حجرا من بين قدمي الوافد الجديد ليقذف به أمتارا في اتجاه الفراغ فيكون موضع سقوط الحجر هو الحد الفاصل بينه وبين جاره، وعندما ظهرت المشكلات الحدودية بين السكان مستقبلا كان الضبع نفسه هو القاضي والحكم ورسوم التقاضي التي يدفعها الخصوم هي معيار العدالة وصدور الحكم وتنفيذه في ذات الجلسة، كان بمقدور أي ساكن أن يعيد ترسيم حدود منزله باقتطاع جزء من الشارع أيضا بعد ترضية الضبع ورجاله. ما سيؤدي بعد سنوات أيضا لأن تتحول العزبة إلي متاهة لا يجتازها بسهولة سوي أبناؤها القدامي، ويصبح عرض الشارع فيها لا يكفي لمرور سيارة ربع نقل أو كارو أبوأنور التي تنقل البرسيم للأهالي يوميا.
ستصير المسافات بين البيت والبيت المقابل كافية لأن يسمع الجار ضراط الساكن المقابل، وأن يتدخل أحيانا في حوار ثنائي بين جاره وزوجته لفض اشتباكهما أو تذكير أحدهما بمكان غرض ضائع، أو طلب شوية ملح أو رغيفين فائضين عن الاستخدام.
بيت صالحين امتد علي طرف لسان صخري ليحتل جزءً من اللسان وجزء من الأرض التي يمتد عليها وهو ما سيجعل منسوب الشارع الخلفي للبيت أكثر ارتفاعا من منسوب الشارع الأمامي لدرجة تستلزم بناء طابق ثان له باب يطل مباشرة علي هذا الشارع الخلفي مقابلا لبيت أم فتحي الغلبانة، ويطل أيضا علي بيت بطرسة التي تجلس عند باب بيتها بانتظار انتهاء الحفر وخروج صلاح ابنها من تحت الأرض، تتفرس كل كائن حي يمر أمامها وتدون لحظة دخوله العزبة في سجل ذاكرتها المليونية.
أما تضاريس خيرالله ذاتها فكانت علي هذا النحو: هضبة عالية شاسعة المساحة ذات حواف حادة من عدة جوانب تنحدر للداخل ثم ترتفع تدريجيا باتجاه منطقة السبع بنات والحلاليف والخيالة. القمر الصناعي، المقطم، القلعة، الأهرامات، أبراج كورنيش المعادي، معالم استطاع ناجي وعلي ومصطفي تميزها بوضوح من سطح غرفتهم. أبزر معالم العزبة ذاتها كانت مجموعة أبنية دائرية عالية قديمة يصل قطر كل منها نحو عشرة أمتار تعلو التبات البارزة أطلق عليها السكان اسم الطواحين، وبناء آخر مربع هندسي الشكل تتجاوز مساحته ربع مليون متر مربع ويتجاوز ارتفاعه الأمتار العشرين، اسطبل عنتر، تعلو أسواره فتحات طولية ضيقة تشبه فتحات رمي السهام في القلاع الحربية القديمة، يتوسّط باحته وبحسابات هندسية دقيقة بناء آخر مربع الشكل يخفي تحته بئرا جافة عميقة.
في فيلم صلاح الدين وعيسي العوام وفرجينيا جميلة الجميلات شاهدوا الاسطبل حين التصقت بأسواره أبراج ريتشارد قلب الأسد ليتسلقها الصليبيون الغزاة، قبل أطفال العزبة العراة.
سألت صالحين طوب الأرض: "تعرف خيرالله؟" لكن أحدا لم يبل ريقها، قيل بلاد الله خلق الله، استخيري! استخارت، ونامت ولم تحلم بشيء، استيقظت ولم تر علامة، اعتبرت ذلك بشارة! جارها جمال، بائع الدجاج الفيومي، خرّ ما يعرفه بعد جفاف البحر وبينما يقود سيارة العزال في طريقهم إلي هناك، قال:
"خيرالله جبل، جبل، تطلعي فوق تلاقي أرض ماتجيبيش آخرها .. إيه اللي رماكي الرمية دي؟"
"يمين بالله مابضحك عليكي يا صالحين ، هاتشوفي بعينك وتقولي عم جمال قاللي!".
ثلاثة مطالع تربط خيرالله بالعمار ومدق جبلي يربطها بجبانات البساتين والتونسي والإمام الشافعي وأم نادية، وآخر يصلها بالسبع بنات والحلاليف، المطلع الكبير يصلها بمصر القديمة والجيارة، وآخر صخري ضيق متعرّج ينتصب بشكل رأسي كحية رقطاء في وجه الصاعدين من إسطبل عنتر والساحل. الزهراء أقرب محطة قطار من جهة ودار السلام من جهة أخري.
"قُريّب هايعملو قطر يمشي تحت الأرض ويعدي البحر للجيزة، هايصرفوا عليه مال قارون، بس هايخلي مصر دي زي اليابان اللي بيعملوا فيها البيوت بسُسَت، تميل في الزلازل وترجع تقف علي حيلها تاني".
قريبا أيضا سيشقون طريقا دائريا يمر وسط خيرالله وساعتها "يا بخته يا هناه اللي لحق وركب قيراط"، قال جمال. أكبر مطالع العزبة ذلك الذي يصلها بمصر القديمة والجيارة، مطلع أباليسي، عجيبة من عجائب ربنا، كتلة حجرية تستخدم كجسر صاعد يرتفع خمسين ستين مترا فيما لا يتجاوز طوله 300 متر، تسير فوقه سيارة الأنفار كذبابة خرجت من كوب ماء لتصعد جدارا أملس، يشبه مدقّات التريللات علي الطرق الصحراوية، في أسفله موقف
أجرة لصناديق تشبه كثيرا سيارات نقل الأنفار بالأقاليم من حيث العجلات الأربع والموتور غير أنها تسير بمحلول له رائحة البنزين يضعونه في جراكن بلاستيكية فوق "الكبوت" يصلونه بأنبوب بلاستيكي من أنابيب المحاليل الطبية المستهلكة للموتور مباشرة، فإذا انخبل أحد ركابها أو أحد
حسن الكتبي، تاجر الورق أخبر علي ذات يوم بأن عنتر هو نفسه فريد شوقي في فيلم عنتر بن شداد للمخرج نيازي مصطفي عام ستين، الفيلم السينمائي الذي تم تصويره أيضا في خيرالله، بينما لا علاقة بين الاسطبل وبين هذه الشخصية التاريخية المعروفة، فيما أقسم الشيخ يونس بأيمانات المسلمين بأنه إسطبل عنتر ابن شداد الله يرحمه ، بناه لتخزين غنائم غزواته وحروبه بعد هجرته من الحجاز، أقسم أيضا أن عنترة تزوج علي عبلة تسع نساء بينهن زنجيات!! الأثريون الذين التقاهم علي بعد سنوات طويلة خلال إجراء تحقيق صحفي، قالوا إن الاسطبل ليس اسطبلا، وإنما بارود خانة أنشأها محمد علي باشا بعد احتراق بارود خانة بولاق الدكرور لصناعة الأسلحة التي استخدمها في حملاته العسكرية، أدارها إبراهيم باشا وبعض الفرنسيس وكان عمالها من السودان، والبناء الهندسي الذي يتوسطه من الداخل ما هو إلا معمل بارود حفروا في مركزه بئرا لتوصيل المياه وملأ خزانات الإطفاء. أما الطواحين والتي ظهرت أيضا في أفلام كالمطارد لسمير سيف ونور الشريف عام 85، فلم تكن سوي خزائن غلال أقامها الفاطميون زمن المجاعة الكبري في هذه البقعة الجافة بعيدا عن فيضانات النيل والرطوبة وبعيدا عن أيدي اللصوص وأفواه الجياع.
استطاعت صالحين سريعا بناء صورة للعزبة ذات معالم، وقاربت تلك الحياة التي ستعيشها مستقبلا، لا شيء يدعو للخوف ولا شيء يدعو للاطمئنان، طالما كانت في حالها لا أحد سيدوس لها طرفا ، هكذا فهمت. أما لقمة العيش فإن "رزق العبيط بالغبط" وليس هناك أعبط منها، تستطيع تحصيلها بمشنة خضار علي ناصية شارع، أو بمساعدة أحضار زوجة نطرة في شونة الخردة ، أو بالنزول مع هدي بنت عضمة في ساحل الزهراء تساعد في تعبئة التبن أو تشوين الفاكهة والخضروات. رزقها سيبحث عنها إن لم تبحث هي عنه كما قال الشيخ يونس قبل أن يستأذن لرفع أذان المغرب لأنها أمانة، "إنا عرضنا الأمانة علي السموات الأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان"، "راجل حافظ كتاب ربنا" قالت صالحين، دون أن يفارق محمد ذو العامين يدها خوفا من عقارب سوداء قالوا إنها تخرج من بين الصخور.
في اليوم التالي سألت صالحين جيرانها كمن يطلق استغاثة عن الصخرة التي تأكل نصف البيت كأتَبْ الأحدب، والحفرة التي تفصل بين بيتها وبيت الشيخ يونس وتنشع قطرانا، اقترح خليل أن تبني فوق الصخرة، قال الشيخ يونس: "مش بقولكوا غلبان وعقله علي قده!"، الصخرة يأتي لها حجّار يقطعها لتستخدم حجارتها في البناء، " شوفوا مين اللي غلبان ، حجار؟ ".. ردها خليل! "يعني يحاسب بالمتر ويلهف لُكْشة ونص الليل غير حلوان الضبع ورجالته؟" وقبل أن تسأل صالحين عن الضبع ورجالته وحلوانهم، ينهض الشيخ يونس ويغيب دقائق ثم يعود حاملا جوالا قديم به شاقوف بيد حديدية ورأس مدببة الطرفين ومرزبة وصفائح مشرشرة ومسامير حديدية تشبه الأوتاد، يلقي بها وسطهم قائلا : لا حجّار ولا طيز الجحش.. انت مش راجل يا ناجي انت وأخوك علي ولا إيه ؟ ليصيح علي بعزم.. أيوة راجل..
تهتف إحداهن محذرة "حرام عليك يا شيخ يونس.. أعربة تلدع حد فيهم؟"
تنتفض صالحين: " قُطْعِت علي دماغ صحابها "، ليسأل الشيخ يونس: انتِ خايفة من الموت يا صالحين ؟ غلبانة ! ده هو والرزق بينزلوا من فوق مباشرةً، ونظرت صالحين وبقيتهن فوق مباشرة حيث أشارت سبابته، بينما اتخذ هو وضعية أحد أئمة المذاهب الأربعة وشرع يحكي، قال إن سيدنا سليمان كان ذاهبا إلي عرس أحد الأعيان فقابله ملك الموت فسأله سليمان عن وجهته فأخبره أنه ذاهب لقبض روح العريس، فعاد سليمان حتي لا يتحول العُرس في حضوره إلي مأتم، وفي اليوم التالي قابل والد العريس فعاتبه لعدم حضوره فاندهش، استدعي سليمان ملك الموت ليعاتبه علي هذا الفصل البارد، فأخبره بأنه كان ذاهبا ليقبض روح الرجل لكن عجوزا سبقته إلي العرس وطلبت طعاما، فأعطاها ما كان لسليمان من طعام فدعت له بطول العمر فاستجاب لها الله وأمر ملك الموت بالعودة.
وانطلقت صيحات خليل وأبوياسين والعسكري واللهم صل ع النبي، وحالة شرود وتدبّر في عظمة صاحب القوت والملكوت، يتوسّل العسكري للشيخ يونس أن يصدح بها مرة أخري في خطبة الجمعة بدلا من قصة الغلام والراهب التي يصبُّها الشيخ أبوعصام الظابط في آذانهم صبا منذ سنوات، يضحك الشيخ يونس في تواضع مفتعل، ثم يستأذن ليرفع أذان المغرب ويعود بسرعة مدهشة ليجدهم تجمعوا علي حصيرة أمام دكانة خليل واصطفوا استعدادا لصلاة المغرب في جماعة ، كل منهم يدعو الآخر للإمامة، يستجيب أحدهم متطوعا، بعد ركعتي السُنّة يلتفون حول الجوزة، يلتقط أبومنال مبسمها أولا لتشغيل "الكوالح". بعد نفسين طويلين تشتعل الأجزاء المنطفئة من الحجر ويمتلئ الجزء الفارغ من المياه داخل البرطمان بالدخان، يبدأ الأخير في السحب علي طريقة عازفي الساكسفون في لحن أوبرالي مركب، أنفاس متقطعة قصيرة سريعة يليها نفس طويل ثم نفس أقصر إيقاع متغير من مقام موسيقي واحد، يشتعل الحجر ويبدأ طواف الجوزة ومبسمها فوق أفواههم، يكتفي كل منهم بدعك طرف المبسم في باطن كفّه أو في صدغه قبل أن يضعه بين شفتيه ويسحب.
يطلب الشيخ يونس من خليل أن يحاول تشغيل تلفزيونه الناشيونال 12 بوصة فيخبره أن البطارية مازالت فارغة وفي حاجة لمن يعيد شحنها. تمر فترة صمت تسبق فتح الموضوع الرئيس للجلسة والذي غالبا ما سيكون استفسارا من أحدهم استنكاريا أو تعجبيا أو سؤالا حقيقيا يبحث صاحبه عن مشورة، ولم يكن من شك أن تكون الوافدة الجديدة وإخوتها الأربعة هم موضوع الجلسة والجلسات التي تليها، صالحين البنت ذات الخمسة عشرة عاما التي تجرّ أربعة صبيان في ذيلها دون قريب أو كبير أو معيل.
أبو ياسين كان الأكثر إجادة للدَخْلة، يعرف كيف يثير موضوعا بمسّه من بعيد ليترك للآخرين الولوج إلي تفاصيله دون أن يبدو متطفلا حشريا أو متورطا في غلط بحق أحد، قال "ألا بصحيح هاتعملوا إيه في معجنة القطران اللي بينك وبين صالحين يا شيخ صدّام؟" يكركر الشيخ يونس، وكان الصدام هو الاسم الذي أطلقه عليه جيرانه لحبه لحاكم العراق آنذاك، مستخفا بالسؤال "يعني هجيب الكراكات واطلع البترول يا غلبان.. أهي نسيرها تنشف".

يعود الشيخ يونس ليعلم ناجي كيف يستخدم الشاقوف لتكسير الصخرة، يقول إن عليه أن يمسكه باليسري عند الرأس واليمني خلفها وأن ينظر إلي موضع الضربة ويوالي الضربات بسن الشاقوف المدبب حتي يصنع تجويفا طوليا عميقا نحو نصف شبّر يكفي لحشر الصفائح المشرشرة، ليثبت المسامير بينها ويدق فوقها بالمرزبة حتي تنغرس فيكون ذلك إيذانا بشق الصخرة، قال إن عليه أيضا أن يتخيّر الموضع الذي سيحفر فيه للصفائح والمسامير بحيث تكون بين أعصاب الحجر وألا يكون الجزء المراد شقه كبيرا حتي يسهل تحريكه بعد فصله عن الصخرة، مرت الساعات وشعرت صالحين بالكسوف يأكل وشها فلم تقدم كوب شاي للرجل يبل ريقه، بينما كان علي يساعد أخاه في كل مرة يترك فيها الشاقوف من يده ليلتقط نفسا ويحرك أصابعه المتيبسة، بعد كل ضربتين ثلاثا يتحسس علي عضلات ذراعه ليقيس كم كبرت، تحولت بشرتهم جميعا إلي اللون الأبيض حتي اختفت ملامحهم تحت بودرة نثرات الحجارة التي تطايرت في كل اتجاه، بدت الحفرة أخيرا- كافية لاحتواء الصفائح، انضم خليل والعسكري وأبوياسين، وتبعهم حسن الكتبي هذه المرة بصينية الشاي فوقها عدد لا نهائي من الأكواب ذات النقشة الذهبية أشعرتهم جميعا بالغبطة وأمدتهم بالطاقة والحماس، اقترح خليل أن يصنعوا حفرة أخري قريبة لأن الصخرة كبيرة ولن تنفلق بمدماك واحد وكانت الفكرة كافية لتثبيط ناجي وعلي والشيخ يونس نفسه، فقال : "غلبااان هم يادوبك دقتين اتنين وهاتشوف"، وضع مسمارا جديدا في بين الصفائح ودق فوقه برفق حتي غطس ثلثه بين الصفائح، عرض العسكري المساعدة فرفض الشيخ يونس وعرض خليل وناجي فقال إن شق الجيب "عايز مَعْلَمة" .. ورفع المرزبة بعزم وهبد بها علي رأس المسمار فغطس لأسفل بينما طار المسماران الاخران
أحدهما في نافوخه والاخر في صينية الشاي، أصيب، ونشعت طاقيته الشبكية البيضاء بقعة دماء أخذت تتسع. جلب الكتبي كيس البن وكبس موضع الإصابة وربط عليها
بقماشة بالية وتوقف النزف، أعطته صالحين كوب ماء بالسكر وهي تردد بصوت خفيض سمعته بطرسة وقعقعت ضحكا "شيلوه معزة زرّط وقال أنا مولف علي شيل الجمال" قربع كوب الماء بالسكر دفعة واحدة وظل ممسكا بالكوب كتذكار لمذاق طيب، حاول استعادة ضحكته لتخفيف وطأة الموقف لكن خليل الذي لم يفوت له هفوة دون تعليق قال "عوّرت المسمار يا شيخ يونس". الجميع شعروا بالتعاسة عدا علي فقد كان يمسك كوب الشاي خاصته في يده بينما الآخرون تركوها في الصينية التي أسقطها المسمار الطائر!!
وقبل أن تصدر صالحين فرمانا بحظر لمس الشاقوف من هنا ورايح، يعتلي ناجي الصخرة ويعيد المحاولة، يضع المسامير في مكانها في غفلة من الجميع ويدق برفق ضربات متالية، ومع توالي الضربات يتغير الصوت كأنه أنين مكتوم صادر من بطنٍ خاوية، ينتبه الشيخ يونس ويطلب منه الضرب بقوة فلا يستجيب ، يقترح خليل أن يضع مسمارا أطول إلي جوارها فلا يجيب أيضا، تتوالي ضرباته وتزداد قوة بوتيرة واحدة حتي يصبح لوقعها صدي مغناطيسيا مميزا ، يضرب علي جانبي المسامير كأنه يصنع لها براحا في التجويف الصخري، يتبادلون النظرات، يواصل ناجي ضرباته فوق رؤوس المسامير ، فجأة يظهر شرخ كبير بطول الصخرة كبرق أومض بين سحابتين ربابتين تنبآن بمطر، تطلق أحضار زوجة نطرة شهقة جعلت أم ياسين تكبّب بأصابعها الخمسة في وجهها وتتمتم بسورة الفلق، بينما صالحين تطلق زغرودة لا تعرف سببها استدعت إليها بقية سكان الشارع والشوارع المجاورة، وأصبح ناجي منذ اللحظة ناجي الحجّار، ابتاعا له أبوياسين والشيخ يونس عدة جديدة من سوق الإمام مستعينين بأبومنال الذي كان ذبونا وبائعا بالسوق إلي جانب عمله في مصنع الاسمنت، أعاد لهما ناجي ثمنها من أجرة أول ثلاثة بيوت كسّر حجارتها، حتي الحجّار الوحيد الذي كان يستعين به العزباوية من منطقة الجيارة لم يعرف كيف كانت تخرج الحجارة من تحت يد ناجي مستوية كقوالب الاسمنت علي نحو لا تحتاج معه إلي استعدال عند استخدامها في البناء، الشيخ يونس اعتبرها كرامة وقال لخليل لا تسأل عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، بينما هو نفسه يسأل ناجي لماذا يضع أذنه فوق الصخرة بعد كل مجموعة ضربات كأنه ينصت إلي سرها، كان ناجي يلصق أذنه بموضع الضربات كابن بار يستمع لوصية أب يحتضر، بل ويتبادل معها الهمس أحيانا ، تظهر انطباعات مختلفة علي ملامحه ما بين حزن وفرح وتساؤل ودهشة وغضب واستفهام وتعجب كأنه ملبوس بعفريت يسكن الحجر، ذات يوم سألته صالحين بتوجس بدافع من جاراتها فأبدي استغرابه، قال إنها تهوّل وأنه لا يفعل شيئا مما تقول، استمر ناجي في مهنته الجديدة لنحو عام ونصف بكد دون انقطاع، وكان ما يحصله كافيا لسد احتياجاتهم القليلة لولا اضطرار صالحين لدفع شهرية معتبرة لرجال المعلم الضبع دون علم أخيها، اشترت سرير صاج كبير بقوائم حديدية وكليم مقلّم بنقشة ، وكلوب غاز براتينة شبكية تعطي ضوء أبيض كضوء النيون، بينما اشتري ناجي نحو ثلاثين كيلو خشب قديم من مغلأ خشب عبد الجواد عند الملعب حسبما أرشدهم أبوياسين لاستخدامه في إنشاء "كبانيه" حفروا له في أقصي زاوية في البيت حفرة بعمق مترين ثم غطوها بالأخشاب مع الاحتفاظ بفتحة مدعمة بعرقي خشب تسمح بانزلاق الفضلات إلي الحفرة ثبتوا علي جابنيها قالبي طوب أحمر يحملان قدمي الجالس فوقهما، انتظر متولي الخرار سنوات طويلة لكي تستدعيه صالحين لنزح هذه الحفرة ولم تفعل، وعندما أسر للشيخ يونس بالمسألة مؤكدا أن حساباته التي لا تخر قطرة تقول إن طرنش صالحين يجب أن يمتلأ بعد نحو ستة أشهر إذا امتدت فعام علي الأكثر، وأجاب الشيخ يونس أن صالحين وأخوتها أمورهم ربانية وأنك يا متولي غلبان تبحث عن لقمة عيشك وتحسبها بالجردل والنقلة بينما يسيرها ربنا بحسابه، بينما كانت الأرض تتشرب ما يلقي إليها من فضلات كالمضطر إذا أكل الجيفة بعد أن تجاهل ناجي عند حفر الطرنش تبطينه من الداخل بمادة عازلة تمنع تسرب بقايا الأطعمة غير المهضومة وإفرازات معداتهم وأمعائهم ومياههم المالحة تربة خير الله . بيت عبد الجواد كان آخر بيوت خيرالله التي كسّر ناجي حجارتها، لتختفي المهنة وتظهر مهن أخري أكثر عصرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.