أثار النص الكامل للسياسة الثقافية للدولة المصرية الذي نشرناه في عدد سابق ردود أفعال كثيرة معظمها لم يكن في صالحه، لكنه بلاشك نص يستحق التوقف عنده، فالتعليق والاختلاف علي ماجاء فيه هو السبيل الوحيد المطروح للتغيير إذا أردناه أن يسير في طريق مفهوم. النص بحسب جهة نشره وزارة الثقافة يحمل توجهات الدولة الأيديولوجية معبراً عنها في مجمل القرارات والتدابير والبرامج والأنشطة والأفعال (بما في ذلك الامتناع عن الفعل)! والتي توجه إلي الجوانب الثقافية اللامادية في المجتمع: المعتقدات والفكر والرأي والفن والأدب والقيم والعادات والتقاليد والذوق العام والقدرات الإنسانية وبخاصة القدرة الإبداعية والقدرة علي التذوق الفني والقدرة علي التفكير العلمي بهدف تحقيق أهداف وغايات تتفق وتوجهات الدولة الأيديولوجية. وتبني النص/الوزارة لهذا التعريف غير الواضح وغير المحدد والذي انسحب علي ورقة العمل بكاملها معناه أن السياسة الثقافية التي ستتم دراستها، ثم تنفيذها -غير أنها ستمتد لتشمل السياسة الثقافية لوزارة الثقافة وغيرها من الوزارات دون توضيح حقيقي لإمكانية ذلك- ستكون غير واضحة وغير محددة. وهو ما يعني ضرورة المشاركة الجماعية في تقييم الورقة وتبيان ما جاء فيها. طرحت الوزارة الورقة بغرض المناقشة وها نحن نفعل فهل من مستجيب؟ عندما قامت ثورة 25 يناير 2011، كان من الضروري إعادة النظر في السياسات العامة، ومن بينها السياسة الثقافية؛ فالتحولات السياسية الكبري في المجتمعات تستدعي دومًا الحاجة إلي صياغة سياسات جديدة تتلاءم مع عملية التحول وتأتي في سياقها. واليوم ما الذي يتطلع إليه المجتمع المصري في مجال السياسات الثقافية بعد 60 عاما من الحكم الشمولي، وبعد ثورة شعبية كانت تتطلع نحو تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وبناء الدولة المدنية الحديثة؟ نحتاج إلي سياسة ثقافية جديدة، تعتمد علي هذه الأهداف، وتستبعد فكرة التوجيه واستخدام المؤسسات الثقافية المملوكة للدولة/الشعب في الترويج لسياسات بعينها واستبعاد سياسات أخري، مثلما كان عليه الحال بدرجات متفاوته طوال الأعوام الستين الماضية، ومثلما كان يبدو في الأفق من سياسات نظام الإخوان، ومثلما يطالب البعض في الجماعة الثقافية به الآن بعد إزاحة الإخوان، حيث يسعون إلي تحويل السياسة الثقافية إلي تعبير عن "أيديولوجية" الدولة! ينبغي للسياسة الثقافية الجديدة أن تحافظ علي وجود دور للدولة في العمل الثقافي دون أن يكون هذا الدور موجِهًا أو مُسيطرًا، بل يكون هذا الدور داعمًا للنشاط الثقافي الأهلي والمستقل، ومشجعًا للصناعات الثقافية، مدافعًا عن حرية التعبير والإبداع والحق في المعرفة والوصول للمعلومات، وحاميًا للتراث الثقافي، وساعيًا إلي الوصول بالخدمات الثقافية للمواطنين؛ وفي هذا الإطار تتم إعادة هيكلة مؤسسات الدولة العاملة في مجال الثقافة بما يلائم تحقيق السياسة الثقافية الجديدة، ويُعاد النظر في التشريعات الثقافية بما يتماشي مع هذه السياسة. والوظيفة الأساسية للدولة في مجال الثقافة في النظم الديمقراطية تتلخص في تحقيق ثلاثة أهداف: الأول: حماية التراث الثقافي بما فيه من آثار ومخطوطات ووثائق وموروث ثقافي شعبي تراكم عبر الزمن، بالإضافة إلي التراث الفني الحديث بتنويعاته المختلفة، من خلال إقامة مؤسسات لجمع هذا التراث وحفظه وصيانته وترميمه، وصياغة التشريعات القانونية لحمايته. الثاني: حماية حقوق الملكية الفكرية للمبدعين، وتشجيع الصناعات الثقافية الحديثة والحرف التراثية والإنتاج الثقافي والإبداعي بمختلف أنواعه الأدبية والفنية، بما في ذلك الحماية ضد المصادرة. الثالث: توفير الخدمات الثقافية للمواطنين، وتوفير البنية الأساسية لممارسة الأنشطة الثقافية والاستمتاع بها. وتتلخص الآليات التنفيذية للسياسة الثقافية المقترحة في عشرة عناصر: أولا: تحقيق ديمقراطية الثقافة التي تستند إلي: عدالة التوزيع للخدمات الثقافية، وإنهاء حالة المركزية الشديدة في العمل الثقافي، وتوفير الخدمات للمناطق المحرومة، والاهتمام بدور المواقع الثقافية المنتشرة في جميع محافظات مصر. احترام التعددية الثقافية والاهتمام بحماية التنوع الثقافي والعناية بالثقافات الفرعية (النوبة سيناء سيوه حلايب وشلاتين قبائل الساحل الشمالي)، وحماية التعدد اللغوي (القبطية النوبية الأمازيغية السيوية) والتعامل مع هذا التنوع باعتباره عنصر إثراء وقوة للثقافة المصرية، يضيف إليها ولا ينتقص منها. الاهتمام بقطاعات المجتمع المختلفة في الأنشطة والخدمات الثقافية، علي أساس النوع والمراحل العمرية والفئات الاجتماعية والمناطق الجغرافية. توفير المناخ الثقافي الملائم للإبداع ورعايته وتشجيعه، وإلغاء القيود القانونية علي حرية الإبداع والتعبير. ديمقراطية الإدارة الثقافية من خلال جماعية الإدارة عن طريق مجالس إدارة ومجالس أمناء لقطاعات الوزارة والبيوت والمراكز الفنية والمتاحف؛ وإحياء دور المكاتب الفنية؛ واعتماد تجربة انتخاب مديري الفرق الفنية، وإدارة المواقع الثقافية التابعة للدولة بمشاركة المستفيدين من الخدمة الثقافية. الرقابة علي الإنفاق الحكومي في المجال الثقافي من خلال مجلس منتخب من الجماعات الثقافية. ثانيا: التكامل بين مؤسسات الدولة العاملة في مجال الثقافة، فمهمة تثقيف المجتمع لا تقع علي وزارة الثقافة فقط، بل هي مسئولية تضامنية بين عدد من الوزارات والهيئات. ثالثا: التفاعل بين مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الخاصة والجماعات الثقافية المستقلة؛ بهدف تمكين المجتمع المدني من المشاركة في الأنشطة الثقافية وفي تنفيذ المشروعات وتنظيمها، وإدراج المسار الديمقراطي والتشاركي لإدارة الشأن العام واتخاذ القرارات، لتحقيق التنمية المستدامة والرفاهية، وتقديم الدعم لهذه المنظمات وفقا لقواعد شفافة وواضحة، وإتاحة المراكز والمواقع التابعة لوزارة الثقافة لتقدم من خلالها هذه الكيانات الثقافية المستقلة أنشطتها. رابعا: تعظيم دور مصر الدولي والإقليمي من خلال سياسة ثقافية خارجية تخدم السياسة الخارجية للدولة وتحقق التواصل الثقافي بين مصر ودول العالم. خامسا: دعم الصناعات الثقافية الحديثة بحزمة من التشريعات تتضمن الحماية ومواجهة القرصنة من ناحية، والتشجيع بالإعفاءات الجمركية والضريبية من ناحية أخري، وإلغاء القيود الرقابية علي الإبداع، انطلاقا من القناعة بأن الصناعات الثقافية تشكل ميزة تنافسية أساسية لمصر، كما يمكن أن تشكل قيمة مضافة للاقتصاد القومي المصري، خاصة صناعات السينما والكتاب والنشر والموسيقي والغناء. سادسا: تنمية الصناعات التراثية والحرف التقليدية والحفاظ عليها باعتبارها جزءا من التراث الثقافي، وفي نفس الوقت مجالًا للتشغيل وموردًا اقتصاديًا مهمًا. سابعا: المساهمة في توفير الأدوات اللازمة لتحقيق القدرة علي إنتاج المعرفة، بالتوسع في إنشاء المكتبات العامة من ناحية، ودعم إنتاج المواد الثقافية بأشكالها المختلفة، والتوسع في سياسة النشر الرقمي، وزيادة الاتصال بين الأفراد والمجموعات وتيسير سبله، والاتجاه إلي تقديم الخدمات الثقافية بصورة رقمية. ثامنا: تعديل التشريعات الثقافية واللوائح المنظمة للعمل الثقافي، لتحقيق الأهداف التي تسعي إليها الجماعة الثقافية. تاسعا: تنمية قدرات العاملين في المؤسسات الثقافية من خلال دورات تدريبة وتثقفية تنمي مهارتهم وتحولهم إلي منشطين ثقافيين. عاشرا: إعادة هيكلة قطاعات وزارة الثقافة حتي تتوافق مع السياسة الجديدة، ومع تطلعات الجماعة الثقافية، ومع الاحتياجات الفعلية لتطوير العمل، من خلال إجراءات متدرجة تراعي إعادة النظر في حجم العمالة في إطار رؤية شاملة لسياسة التشغيل في الدولة.