كانت مريمة والرحيل- الجزء الثاني والثالث من ثلاثية غرناطة- هي من أهم الأعمال التي صدرت باللغة العربية لتكشف لي عن عالم بعيد في الزمان والمكان يعزز مشاعر ورؤي وأفكار فترة التسعينيات من القرن الماضي. فقد كانت قضية الراحل نصر حامد أبو زيد مثارة، وكانت قضايا التكفير ومصادرة الرأي قد بلغت أوجها، فكانت فترة محاكم تفتيش بامتياز. هكذا جاءت تلك الثلاثية البديعة التي كتبتها الراحلة لتقدم لي مخرجا من المحلي، وتوسع عالم الأفكار، وتسمح برفع سقف الأحلام. لم أنس مريمة مطلقا وهي مهددة بالمشي علي الجمر، ولم أنس أبدا أن الخروج علي السلطة يحمل دائما في طياته تهديد الحرق من ناحية، والخلود من ناحية أخري. ثم تظهر شخصية شجر في رواية "أطياف"، تلك الرواية التي صدرت قبل نهاية الألفية بعام واحد (1999)، حيث تواجه شجر الأستاذة الجامعية ما يشبه أزمة وجودية عندما تري بعينيها الطلاب الذين تعرفهم جيدا وهم يمارسون الغش في الامتحانات بمنتهي البراعة، فتعود لتضعنا أمام أزمة دائمة في الحياة اليومية، أن يقوم الطالب الذي نعرف أفكاره جيدا بهذا العمل المخادع. الحق أن رضوي وضعتنا في مواجهة مع أنفسنا، فالغش في الجامعات تحول إلي فعل "طبيعي" بحيث لا يمكن أن يثير الدهشة، لكن ما كتبته رضوي يعيد طرح أسئلة جديدة حول فعل متكرر بشكل يضعنا جميعا في الأزمة. هكذا كانت رضوي تلتقط أكثر التفاصيل إهمالا- نتيجة التكرار الذي جعلها طبيعية- وتعيد إليها الأهمية المطلوبة، الأهمية المستحقة، الأهمية الحقيقية. الحق أن رضوي كانت تمارس حياتها بشكل مشابه لتقنيتها في الكتابة الإبداعية. فقد كانت الراحلة عضوا أساسيا في لجنة الترقيات لأقسام اللغة الانجليزية، وكان من حظي- مع آخرين وأخريات كثر- أن أدخل امتحان الترقية لدرجة أستاذ مساعد ثم أستاذ والدكتورة رضوي عاشور في اللجنة. لا يمكنني وصف تلك اللجنة بشكل عام إلا بالصرامة وعدم التهاون، فلا إغداق للدرجات ولا تساهل مع أبحاث ضعيفة. وبقي الأمر دائما سببا كافيا للقلق، ناهيك عن المقابلة التي تجريها اللجنة في شكل مناقشة في الأبحاث المقدمة. نعم كما نجلس ونحن غالبا ما نتفوه بجمل تؤكد ارتباكنا، من قبيل "صباح الخير"، أو "كيف حالكم؟"، أو نقدم أنفسنا في حين أن الجميع يعرفنا (علي الأقل هناك أوراقنا أمامهم)، ونرتبك تعمد الراحلة إلي طمأنتنا بجملة ودودة وصادقة، فتقول مثلا أنها استمتعت بالبحث الفلاني، وتبدأ في "الامتحان" دون أن يشعر الممتحن! ولا تنسي أن تودعك بابتسامة، وأن تلفظ اسمك بحميمية، فتشعر أنك أنفقت شهرا من القلق دون أي داع، ولا يبق معك بعد المقابلة سوي نظرة رضوي وابتسامة رضوي. وبالرغم من كل ذلك لا يفارقنا القلق، ففي الترقية لدرجة أستاذ كنت أنتظر دوري في المقابلة وأتأمل حدوث معجزات مثل الاختفاء الفوري، أو انهيار المبني علي رأسي، أو نشوب حرب عالمية، أو وقوع زلزال، وفي أثناء هذه التأملات "الرقيقة"،خرجت الدكتورة من الحجرة المواجهة لي، وسلمت علي بود شديد، وأخذتني من يدي حرفيا وأدخلتني إلي المقابلة. وبدأت هي في طرح الأسئلة علي حول بحث أنجزته عن يوميات جين سعيد مقديسي وعنوانها "شظايا ونرتبك بيروت"، سألتني رضوي عاشور أسئلة ممتعة، أسئلة منطقية، كان بعض منها يسمح لي استعراض ما قدمته في البحث، أثنت علي البحث، وأمدتني بأفكار جديدة، وأخبرتني أنها تعرف الكاتبة، ففرحت كالأطفال، وعندها قامت أستاذة من ضمن الجالسين بطرح سؤال علي أعتقد أنه كان يقلل من قيمة البحث، لكن المشكلة أنني لم أتمكن من تحديد الرد المناسب، الحق أنني لم أفهم السؤال، الذي كان أقرب إلي تعليق، هل تصدقون أن رضوي عاشور قامت بالرد عليها، ثم نظرت لي وشكرتني بنفس الود وطلبت مني أن أرسل شخصا كان يجلس مثلي في الغرفة الأخري وينتظر دوره. وصلت إلي الباب ونظرت خلفي لأجد ابتسامة رضوي تصل بيني وبين المسافة الطويلة التي أصبحت تفصلني عنها. ماذا تعلمت من رضوي الإنسانة؟ تعلمت معني أن أفصح عن مشاعري، أن أستبق بإرساء الود، فأصبحت أختتم رسائلي الالكترونية مثلها بكلمة "محبتي" (كانت تثير أكثر المسائل حساسية علي بريد مجموعة 9 مارس)، والتي أحيانا ما أغيرها إلي "مودتي"، بدلا من "تحياتي"، فالتحيات المشفوعة بالود والمحبة تختلف عن التحيات الميكانيكية التي لا تعني أي شيء، التحيات التي تشبه لوحات الفنادق التي تكلم عنها مريد البرغوثي في "ولدت هنا، ولدت هناك". غابت رضوي بجسدها وسيبقي إبداعها ونقدها ومواقفها السياسية.