وزيرة الهجرة: «اكتشف مصر» وسيلة لربط الأجيال الجديدة بالخارج وبين بلدهم    النواب يبدأ مناقشة قانون بربط حساب ختامي الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2022/ 2023    محافظ أسيوط: التدريب العملي يُصقل مهارات الطلاب ويؤهلهم لسوق العمل    رئيس النواب: التزام المرافق العامة بشأن المنشآت الصحية لا يحتاج مشروع قانون    «عيسى»: الغرف السياحية شريك أساسي في تنمية الصناعة    «المشاط»: نسعى مع الأمم المتحدة وشركاء التنمية لإتاحة أدوات التمويل المبتكرة والتمويلات الميسرة    محافظ الفيوم يوجه بتوفير الرعاية الطبية والعلاج على نفقة الدولة للحالات المرضية    استلام 193 ألف و191 طن قمح ب 25 موقعاً فى كفر الشيخ    لليوم ال20.. «البترول» تواصل تسجيل قراءة عداد الغاز للمنازل لشهر مايو 2024    ارتفاع الطلب على الصادرات في تايوان بأكثر من المتوقع    فيفا يعلن إيقاف قيد جديد للزمالك 3 فترات بسبب مستحقات أحد مساعدى البرتغالي فيريرا.. والنادى يرد: سيتم حل الأزمة في أسرع وقت    سفير اليابان يشيد بجهود مصر في إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة    إيطاليا: حادث تحطم مروحية الرئيس الإيراني لن يزيد التوتر في الشرق الأوسط    تفاصيل اجتماع وزير الشباب مع اللجنة العلمية لبحث تطوير قطاع الرياضة    مصر تواجه بوروندي في بطولة أمم أفريقيا للساق الواحدة    المشدد 15 عامًا وغرامة 200 ألف جنيه لصاحب شركة مقاولات لإتجاره بالحشيش في القليوبية    المشدد 5 سنوات لعامل بالشرقية لاتهامه بخطف طالبة وهتك عرضها    بعد قليل.. محاكمة طبيب نساء شهير لاتهامه بإجراء عمليات إجهاض بالجيزة    ضبطهم الأمن العام.. كواليس جريمة التنقيب عن الذهب بأسوان    ضبط 20 طن أسمدة زراعية مجهولة المصدر في البحيرة    تفاصيل أغنية نادرة عرضت بعد رحيل سمير غانم    فتح باب التقدم لبرنامج "لوريال - اليونسكو "من أجل المرأة فى العلم"    «ست أسطورة».. سمير غانم يتحدث عن دلال عبد العزيز قبل وفاتهما    مهرجان ايزيس الدولي لمسرح المرأة يعقد ندوة تحت عنوان «كيف نفذنا من الحائط الشفاف»    عمر الشناوي: فخور بالعمل في مسلسل "الاختيار" وهذه علاقتي بالسوشيال ميديا    الرئيس السورى يقدم التعازى فى وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسى ووزير خارجيته    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    وزيرة التضامن: الاستثمار في البشر يهدف لتحسين الأداء الوظيفي    رئيس مجلس النواب عن الادعاءات حول قانون المنشآت: الهدف منه تطوير المستشفيات ليس بالبيع وإنما بالانتفاع ولمدة أقصاها 15 عاما    ضبط 6 أشخاص سرقوا مبلغ مالى من داخل سيارة وخزينة اموال في الجيزة    هل تفكر في مشاهدة فيلم ريان رينولدز IF.. إليك أحدث تقييماته وإيراداته المتوقعة    مصرع عامل على يد عاطل أثناء اعتراضه على سرقة منزله في قنا    عبدالملك: المثلوثي وزيزو من نجوم الكونفدرالية    قائمة البرازيل - استدعاء 3 لاعبين جدد.. واستبدال إيدرسون    سيد معوض: نتيجة الذهاب سبب تتويج الزمالك بالكونفدرالية    عاجل.. كواليس اجتماع تشافي ولابورتا| هل يتم إقالة زرقاء اليمامة؟    حسين لبيب: الزمالك معتاد على البطولات.. ونسعى لإعادة العلاقات الطيبة مع المنافسين    رئيس جامعة بنها يشهد ختام فعاليات مسابقة "الحلول الابتكارية"    وزير الري أمام المنتدى المياه بإندونيسيا: مصر تواجه عجزًا مائيًّا يبلغ 55% من احتياجاتها    أسرته أحيت الذكرى الثالثة.. ماذا قال سمير غانم عن الموت وسبب خلافه مع جورج؟(صور)    باحثة سياسية: مصر تلعب دورا تاريخيا تجاه القضية الفلسطينية    من هو وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان الذي توفي مع الرئيس الإيراني؟    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    22 مايو.. المؤتمر السنوي الثالث لطلاب الدراسات العليا فى مجال العلوم التطبيقية ببنها    محافظ الجيزة يعتمد المخطط التفصيلي لمدينة أبو النمرس    ماذا يتناول مرضى ضغط الدم المرتفع من أطعمة خلال الموجة الحارة؟    تشاهدون اليوم.. بولونيا يستضيف يوفنتوس والمصري يواجه إنبى    «الرعاية الصحية» تعلن حصول مستشفى الرمد ببورسعيد على الاعتراف الدولي    الأسد: عملنا مع الرئيس الإيراني الراحل لتبقى العلاقات السورية والإيرانية مزدهرة    طريقة عمل العدس بجبة بمكونات بسيطة    السوداني يؤكد تضامن العراق مع إيران بوفاة رئيسها    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 20-5-2024    أول صورة لحطام مروحية الرئيس الإيراني    خلال أيام.. موعد إعلان نتيجة الصف السادس الابتدائي الترم الثاني (الرابط والخطوات)    تركيا: مسيرة «أكينجي» رصدت مصدر حرارة يعتقد أنه حطام مروحية رئيسي    دعاء الرياح مستحب ومستجاب.. «اللهم إني أسألك خيرها»    استعدادات عيد الأضحى في قطر 2024: تواريخ الإجازة وتقاليد الاحتفال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خضراء الله: جدلية الفم والكتابة
نشر في أخبار الأدب يوم 22 - 11 - 2014

الخضراء: جنة الله، الغوطة الخضراء: غوطة دمشق كما أشار الشاعر محمود قرني، جنة الله. والخضراء: السماء أما الأرض فهي: الغبراء. وتخضر الأرض بالماء والزرع الأخضر فيكون الاخضرار أي: البركة والرزق والحسن والإشراق وتقول العرب: الأمر بيننا أخضر: أي جديد. والخضراء من الحمام: الدواجن وإن اختلفت ألوانها ويقال في التعبير العامي "ده لسه أخضر" يعني لم يشتد عوده أو لم تعركه الحياة بعد. وخضراء كل شيء: بدايته وأصوله وخضراء الدمن: "المرأة الحسناء في منبت السوء كما جاء في الحديث الشريف والغصن الأخضر: الغصن اليانع. وقيل في الخبر أو الأثر: من خُضَّرَ له في شيء فيلزمه، معناه: من بورك له في صناعة أو تجارة أو حرفة فليلزمها. ومحمد عيد إبراهيم قد لزم صناعته أو حرفته: الكتابة والإبداع والترجمة، ولذلك فقد بورك له فيها: أحد عشر ديوانًا شعريًا، وثلاثة عشر كتابًا من الترجمات الشعرية وواحد وعشرون كتابا من الترجمات الروائية والمسرحية وسبعة كتب من الترجمات القصصية وخمسة من الترجمات للصغار وأربعة من الترجمات النقدية؛ والمجموع (بعد استبعاد المطبوع أكثر من طبعة منها) حوالي خمسين كتابًا، أليست هذه بركة.
يستخدم محمد عيد في هذا الديوان وفي أعماله الأخري اللغة بطرائق إبداعية يخرج فيها دائمًا من المألوف إلي غير المألوف، يكسر التوقعات ويرجئ الإشباعات، وكأنه يلجأ وفي معظم كتاباته الشعرية إلي ما يسمي في الموسيقي بالنبر المرجأ، فالمعني مؤجل غير متاح لمن أراده يسيرًا، والإشباع مرجأ غير متوفر لمن سعي خلفه بخفة، سهلاً دون عناء. هنا تجارب في اللغة والأصوات واللسانيات وهنا مزج بين المألوف وغير المألوف، وهنا محاولات مستميتة لاستكناه أعماق اللغة واستبصارها، وجعلها تنطق بما لا تنطق به، أو تبوح بما لا تبوح به إلا للعارفين والسالكين والخارجين عن كل ما هو نمطي أو مطروق أو مباشر أو يسير.
في ديوانه هذا "خضراء الله" يبدو محمد عيد وكأنه يتأمل ذاته من خلال كلماته ويتأمل كلماته من خلال ذاته، وهو يفعل ذلك وبخاصة من خلال لسان هذه الذات، وأسلوبها وشخصياتها وتفصيلاتها. هنا لغة شفاهية أكثر منها كتابية وذلك علي الرغم من أنها مقدمة إلينا في صيغة مكتوبة. وهناك نزعة غريزية بدائية جسدية وجسدانية تقف وراء هذه اللغة. هنا تجربة تحاول أن تخرج من أسر الإشارات المباشرة إلي آفاق الدلالات المتعددة، ومحاولة لقلب نظام اللغة الرتيب والإتيان بنظام آخر عجيب، وكأن اللغة ترتد، هنا إلي عالم "الهو" الغريزي (لدي فرويد) وتنكص إلي أعماق اللاشعور، وكأنها أيضًا، بل هي كذلك، تخرج من النظام إلي اللانظام كي تعيد تشكيله من جديد.
هنا لغة ليست مرتبطة بالقيد، ولسان لا يتقيد بالترتيب أو النسق التواصلي المغلق، هنا اندماج للحدود واندياح لها وانعكاس علي الذات، بل وانعكاس أيضًا علي عملية الكتابة ذاتها واللسان نفسه. هناك أبعاد عديدة في هذا الديوان أو محاور شتي، لكننا نكتفي بالاهتمام من بينها، برمزيات الفم واللسان.
حيث يرتبط رمز اللسان عند محمد عيد في ديوانه هذا بآليات الكتابة والتلاعب بالأصوات، بالصوامت والصوائت، بالعلاقة مع الآخر، بالحركة، باللغة، بالكلام، والجنس والغموض والجمال، بالوعي واللاوعي، بالعلاقات الملتبسة بين الحب والنطق والكتابة والتهويم، هناك تتابعات من وقدة ووهج ثم صمت وسكون، وهناك تجريب وتغريب (بالمعني البريختي)، ولادة وخلق ومطاردة أيضًا للرموز والأساطير.
وترتبط رمزية اللسان لدي مجموعة أيضًا علي نحو بارز، برمزية الفم، ذلك الذي يقوم بإصدار الكلام ويقوم كذلك بعمليات التقبيل، وفي الفم شفاه ولسان وأسنان وأعضاء أخري ترد في الديوان علي أنحاء شتي وتتجلي وكأن الشاعر هنا قد تم تثبيته علي المرحلة الفمية، وبالمعني الفرويدي تحديدًا.
هكذا كانت التنانين دومًا في الأساطير وحوشًا تنفث النيران من الفم والأنف، من ناحية، وتلتهم ضحاياها من ناحية أخري. كذلك صورت الحيوانات واسعة الأفواه مثل فرس النهر وأسماك القرش والغوريلا في الأفلام في صورة متوحشة، وتم تجسيد الكائنات الأسطورية كالغيلان في الأفلام بأفواه واسعة حادة الأنياب. ولم يكن دراكولا في رواية "برام ستوكر" الشهيرة وفي أفلامه، واسع الفم، لكنه كان حاد الأسنان قادرًا علي امتصاص دماء ضحاياه من خلالها، كذلك كان هانيبال ليكتر آكل لحوم البشر الحديث في السينما الحديثة، وكما جسده الممثل العظيم أنطوني هوبكينز نموذجًا للوحش الحديث الأنيق الذي يعيش بيننا، يستطيع أن يستمر حيًا دون أن يأكل لحوم الآخرين. كذلك صورت الغيلان والجن والعفاريت والشياطين في الثقافات البوذية والمسيحية والإسلامية بشكل مخيف، حيث كان للفم القاسي الملتهم فيها، مبني ومعني، شكلاً ومضمونًا، مظهرًا ومخبرًا، دورًا مهمًا في تأكيد الدلالة التدميرية المخيفة له.
داخل الفم يسكن اللسان، أو لا يسكن، أو لا يصمت، إنه صوت الله وصوت الإنسان، المرتبط بالكلمة والخلق: "كن فيكون" والذي يجسد الصوت القوي والأوامر والنواهي أو الصوت الضعيف الدال علي الخضوع أو الاستسلام، الذي ينتمي ويرجو ويغوي ويوجه ويحرك ويمتص ويتذوق، وهو أيضًا اللسان الخاص، هنا كما لو كان محمد عيد يستخدم لسانه الخاص، صوته الخاص، كتابته الخاصة بطرائقه الخاصة المجسدة لتنوعات الوجود الشتي الخاصة بهذا اللسان في حالتيه: العدوانية والإيروتيكية، أو حالتيه المرتبطتين بالهدم والبناء، بالعدوان والعشق. هنا لسان مزدوج الطبيعة متناقض الحضور والأحوال والحالات: عندما يقترب من الشفتين يكون إيروتيكيا وعندما يقبع خلف الأسنان يكون عدوانيًا "ثاناتوسيًا" (نسبة إلي ثاناتوس إله الموت غير العنيف وشقيق هيبنو إله النوم في الميثولوجيا الإغريقية).
وقد ارتبط اللسان في الرمزيات الجمعية بالحية والثعبان، وارتبط كذلك في الرمزيات الفردية بالعضو الذكري، لكنه ارتبط أيضًا بالحكمة والشخصية، وكما قال الإمام علي بن أبي طالب "المرء مخبوء تحت لسانه، فإن تحدث ظهر" أو كما قال سقراط: "تكلم حتي أراك". في الفنون المسيحية في القرون الوسطي كان الشيطان غالبًا ما يُرسم بينما يتدلي لسان كبير من فمه. كما أن اللسان قد يرتبط أيضًا بالصلوات الخفية والمناجاة وقد يمثل شكلاً من أشكال التحية أو الإغاظة أو الكشف عن بعض الأمراض (في حالات التسمم مثلاً). وقد يستخدم في التعبير عن الإغواء أو الرفض أو العطش ويوجد لدي بوذا - في بعض تماثيله - لسان طويل. وفي الصين يرتبط اللسان بوصفه قوة خارقة بقرن الوعل. وفي الميثولوجيا الفرعونية القديمة قام أحد الآلهة بخلق العالم من صيحة قوية بالفم (قيل أيضًا إن ذلك قد حدث من خلال الضحك). في الفن اليوناني القديم تم إضفاء صبغة مقدسة علي اللسان وذلك بوصفه الأداة المخيفة التي تستخدمها الجورجونة (ثلاث أخوات رؤوسهن مكسوة بالأفاعي بدلا من الشَعر، كان كل من ينظر إليهن يتحول إلي حجر). وفي الحضارة البابلية كانت الوحوش المخيفة ترسم دائما بألسنة ممتدة. في لسان العرب وغيره من المعاجم والقواميس العربية. اللسان: جارحة الكلام، وقد يكني به عن الكلمة، فاللسان يذكر ويؤنث. واللسان: الرسالة. واللسان: إبلاغ الرسالة والألسنة: ناطقة. واللسن: الفصاحة وجودة اللسان. ولسن الشيء: خرطه ودققه من أعلاه. ولسان القوم: المتكلم عنهم. ولسان النار ما يتشكل علي أشكال اللسان: ورجل ملسون حلو اللسان بعيد المنال. والملسون أيضا الكذاب وقد قيل فيه: يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب. ولسن الجارية: تناول لسانها رشفا. ولسنت العقرب: لدغت وهكذا.
والفم هو ذلك الجانب العنيف الذي يقوم بالتقطيع والتمزيق والسلب والانتزاع والالتهام من الأم العظيمة (عند يونج) وقد جسده جويا في لوحته "ساترن يلتهم أبناءه" عن ذلك الوحش الذي يلتهم البشر.
والفم هو المنطقة الشبقية الأولي التي يستخدمها الإنسان خلاله مرحلة الرضاعة ورمز أيضًا للدخول إلي العالم السفلي أو إلي بطن الحوت كما فعل يونس أو يونان وفي الفنون الأزتكية يرمز الفم الضخم المفتوح إلي الجوع وكذلك إلي الأرض التي تلتهم الجميع في النهاية ومن ثم إلي الموت.
وتتصل عملية فتح الفم بالتثاؤب والغناء والتبسم وإصدار الأحكام والتقييم والنقد والمدح والذم، وكذلك بقوة الكلام وأنواع الغناء الأوبرالي وإلقاء الشِعر والنطق والتعبيرات الخاصة بالفرح والحزن والأوامر والنداء والرجاء والغناء والتدخين، وعض الأصابع، وأداة التوصيل "الرسول" بين الرجل والمرأة أو القُبلة كما جاء في حديث شريف.
كذلك نجد "لسان البحر" الذي يرتبط برمزية الباب والبوابات وبوصفه صلة للاتصال بعالم آخر بالمحيط أو النهر، حيث رموز الوحدة والتكامل والصلات التي تقوم وتنشأ بين كائنات وكيانات منفصلة أو متباعدة أو غير متصلة. والفم قد يخرج منه الماء وقد يستخدم في التعبيرات المجازية الدالة علي الضيق والغضب: "في فمي ماء"، أو "جف ريقه" إلخ و"الفم الذهبي" مذهب مقدس في البوذية.
في التحليل النفسي، ترتبط رمزية الفم برمزية اللسان والأسنان، حيث قد نجد بعض "الشخصيات اللسانية" التي تبرُع في الكلام لكنها تميل أيضًا إلي المتعة الإيروتيكية والاستمتاع بالطعام والجنس والحياة، وهناك الشخصيات الأسنانية التي تهتم بالتمزيق والعض والطحن والابتلاع والنقد. وليس هناك إنسان لساني تماما أو أسناني تمامًا بل إننا جميعًا مزيج من هذين الطابعين ولكن بمقادير مختلفة. والأمزجة الشخصية الفمية العدوانية (الأسنانية) يقال عنها في التحليل النفسي إنها ناتجة عن التثبيت علي مرحلة العض بالفم علي ثدي الأم أثناء مرحلة الرضاعة وفي الوقت نفسه امتصاص اللبن منه. وتتسم هذه الشخصية بسلوكيات عدوانية مصطبغة بالحسد والحقد والاستغلال للآخرين والميل إلي إطلاق الشتائم والألفاظ النابية والولع أو الشراهة في التدخين والميل إلي مضغ اللبان (أو التشدق باللادن) ويسمي كارل ابراهام (1877-1925) هذه المرحلة ومن ثم هذه الشخصية بالسادية الفمية ويقول المحللون النفسيون إن هناك عاملا فمويا في العصاب وكذلك الإيروتيكية في سلوكيات مثل: العض، المص، التدخين، تعاطي الكحوليات، الإسراف في تناول الطعام والولع الوسواس القهري بمضغ اللبان أو بدائله.
تقوم الشفتان بالتقبيل والامتصاص والرغبة في الامتلاك والشراهة والطمع والشخصية الفمية المتلقية (أو المازوخية) يتسم أصحابها بالاعتماد والتفاؤل وتوقع الاهتمام والرعاية من الآخرين والرغبة كذلك في إرضائهم أو امتاعهم.
والأسنان نقدية أما الشفاه فإبداعية ولدي كل شاعر أو مبدع عامة شفاه إبداعية وأسنان نقدية يوجهها إلي ذاته أو إلي الآخرين. وقد تفوق أسنان الناقد قدرة شفتيه علي التذوق والعطاء.
والفم وسيلة أو أداة للشرب والأكل والتبسم والتقبيل، أداة للازدراد والعض والالتهام والابتلاع والتذوق والكلام والحكي والتعبير، للصلاة والأصوات الشهوانية، للضحك (وداد: بالخفة والضحك تسخو إلي نقطة كمال" والفم أداة التكسير والعبوس والتعبير عن الغضب وقد ارتبط باسم بعض الأعمال الفنية (ابتسامة الموناليزا مثلاً)، ووجود الفم كثيف في أعمال الفنان فرنسيس بيكون وكذلك فرانز هالز وغيرهما، وبعض الروايات مثل "الرجل الضاحك" لفيكتور هوجو.
ترد مفردة اللسان كعنوان لإحدي قصائد ديوان "خضراء الله" وهي "حامي اللسان" لكنها ترد بكثرة في العديد من قصائد أيضًا وهي ترد بدلالاتها السيكولوجية والاجتماعية والشعرية الإبداعية الثقافية أيضًا ففي القصيدة الأولي من الديوان وعنوانها "برولوج" نقرأ ما يلي:
"لا تعيد الألسن ابتداع العالم.
بل تفكر في الطريق إلي مملكة العقل، حقيقة بسيطة
هي أن المادة بدقة الرسم واسم للأشياء لا يهتدي إلا بذاته.
كلب يصطاد أرنبا بثقافة سهم وتصريف معلومات،
بحسب تاريخه الجدلي. براءة، دون مبادرة ناطقة.
حوار شفهي، بشري وغير بشري، مصدر الحي إلي الجماد، وقرابة الصوت للمعني. كأن النطق تصور للغة، وقابل للتجريب.
لسان يدفع الثمن."
هنا تبدو لنا لغة أقرب إلي التجريد والرمز، كأنها لغة طقسية أو همهمات تعاويذ، يقدمها الشاعر أو يتقرب من خلالها إلي إله مجهول غامض. هنا كتابة أقرب إلي ما يسمي في لغة فنون التشكيل المعاصرة بالفن المفهومي. هنا الشاعر غير معني إلا بذاته وبتصوراته، يطرح رؤاه وأفكاره للعالم غير معني بأن يتوحد مع العالم المألوف أو يتوحد هذا العالم معه، بل إنه يطرح هنا تصوره العام للغة واللسان والكتابة والعالم. وهنا تصور يذكرنا بما قاله بافلوف من إن "اللغة هي التي صنعت منا بشرا". هنا الكلمة هي العالم والعالم موجود في اللغة، هكذا كان هيدجر يقول: واللغة لا تعيد ابتداع العالم، بل تعيد اكتشافه، فقدمه لنا من جديد كما لو كنا نراه لأول مرة هكذا تكون الأشياء موجودة وتعطي أسماء عندما يتم نطقها، ومن خلالها تكتسب الكائنات أسماءها، يصبح الكلب كلبًا والأرنب أرنبًا، ومن خلال فعل من أفعال المطاردة والصيد تقوم العلاقة بينهما. هكذا نشأت الحوارات أيضا بين البشري وغير البشري، بين الحي والجماد، بين الصوت والمعني "كأن النطق تصور للغة وقابل للتجريب" كما يقول محمد عيد إبراهيم النطق يتم باللسان ولا ينقل إلا جانبا من جوانب اللغة والمعني. اللغة وكما كان تشومسكي يتصورها، هي ذلك المستوي العميق من بحر المعني، واللغة، التي تزخر باللآلئ والأسماك والكائنات البحرية والمتنوعة والأصداف والغرقي والسفن الغارقة الغاطسة. أما الكلام المنطوق أو المكتوب فهو المستوي السطحي، قمة جبل الجليد، يبرز القليل ويخفي الكثير، ولا بد هنا من مداومة التجريب والتأمل للذات، ودفع الثمن، "فالمادة بدقة الرسم" ولكن أين هي تلك الدقة؟ لا بد من مواصلة المطاردة، للغة، والذات، من هنا ينشأ الصراع بين مستوي اللغة السطحي والعميق في تعريف المعلومات كما يطارد الكلب الأرنب، "وكما السهم أملا في الصيد"، لكن سهم الصيد يكون في كثير من الأحيان، إن لم يكن فيها جميعًا أشبه بسهم (زينون الإيلي) في الفلسفة اليونانية القديمة، الفيلسوف السوفسطائي الذي عارض قول هيراقليطس بالحركة والتغيير، وقال إن كل شيء في هذا العالم ثابت حتي وإن بدا غير ذلك كما يحدث عندما نطلق سهما من قوس يبدو متحركا وهو في الأصل ثابت، وهي الفكرة التي أخذها دريدا بعد ذلك وطورها في كتاباته التفكيكية.
هنا، في هذا الديوان، نجد الذات المتكلمة المتأملة لذاتها والمؤلفة بالتجريب، في دفع الثمن وتستمر أيضًا في حوارها الشفهي الدائم هذا بمحاولة إعادة تشكيل العلاقة بين البشري وغير البشري، بين الحي والجماد، والصوت والمعني، الرسم والدلالة... إلخ.
وهنا أيضًا يتحول مثل هذا الحوار إلي نوع من الهوس والولع بالمفردات والصور يشبه الحوار المهيمن المسيطر عليها، كوسواس قهري، لكنه وسواس جميل يشبه العشق، هنا عشق ترغب خلاله الذات في "تملك الأم. كأنها حلم بمجري المفردات. توازن قلق علي حدود مفروضة، محتوي ثابت لتنوع الشخصين،
إصبع مستعار لقبلة، ولسان يحمل سمة الذاكرة."
هنا كتابة تقع في قلب عملية الكتابة ذاتها وهنا نطق يكمن في قلب عملية الخلق نفسها، هنا أحلام تحدث في قلب نهر الأحلام والمفردات شديدة الجريان، ومحاولة للوصول إلي توازن قلق أو استقرار غير مستقر، وحالة بينية توجد علي حدود مفروضة، لكنها تخرج من هذه الحدود بالسباحة في نهر المفردات والتحليق في عالم الأحلام والذكريات والقراءات والثقافات والرفاق الخياليين: لوركا وديستويفسكي والمتنبي ونيتشه وميكلانجلو والروايات اليابانية وإقامة للصلات البعيدة التي تقوم علي أساس الاكتشاف لما هو مؤتلف بين كل ذلك المختلف. هنا لسان يعود إلي عالم الطفولة، يوغل في الذاكرة "يستعير أصابع للقبلات"، كي تصبح أشبه بطفل يمتص أصابعه بلسانه، يستمتع بها وقد يتألم، قد يعض لسانه وقد يعاقب علي ما يقوم به، لكنه يستمر في ولعه المستحوذ هذا الذي قد يتطور لاحقًا، إلي شكل علاقة بين الفم واليد، بين اللسان والكتابة، هنا قد يتجسد ذلك الفعل المبكر للإبداع في
"لسان مستميت علي إصبع،
وبراءة الفعل في صوته بمثابة قلب يحاكي البالغين."
وأيضًا:
"قال للمرأة: لم تحددي باب اللسان.
وغاب برسم الكتابة في حالة من صيغة النفي.
لا يتيح الكلام من دون تدليل علي وصفه رمزًا.
بينما نفسه في عبادة أصنام بحركات بالغة الهمجية."
هنا تحتوي الكتابة علي غياب، وعلي نفي وعلي رموز، هنا الكتابة أشبه بعبادة الأصنام، هنا الكتابة طقس وعقيدة واستغراق وخشوع.
في قصيدة "حامي اللسان" نجد مفردة "حامي" مزدوجة المعني: الحماية والحرارة الشديدة القاتلة وفي العامية يقال عن الشخص حاد الكلام والكلمات عنيفها: لسانه حامٍ. كما تتجلي علاقة اللسان كذلك باللغة والحركة والمرأة والرجل والجمال والجسد والموت. هنا يكون "ثمة جنس هو الجمال المطلق للمعرفة"، وتكون "واقعة الوجود هي الهلاك".
ولأن اللغة أنثوية بينما الكلام ذكري، فإن: "المرأة تبقي علي حالها، أما الرجل فليس موجودا". المرأة هي الحياة، والرجل هو الموت، وترتبط المرأة بأصل الحياة بالتجدد بالأرض، بالأم العظيمة، بالتغذية والرضاعة، والعطاء، المرأة هي الشفتان والرجل هو اللسان، وبينهما توجد الأسنان مزودجة الطابع والأداء، أما الرجل فيرتبط بغرائز الموت، بالتدمير، والعدوان، والامتصاص والبلع والهضم والاستحواذ والامتلاك والعكوف علي الذات والتأمل والتجريد، وقد يوجه ساديته أو عدوانيته إلي المرأة أحيانا، أو إلي الطبيعة أو الآخرين أحيانا أخري، وقد يوجهها أحيانا إلي ذاته، وقد يوشك علي الانتحار، قد يلجأ إلي المبالغة في التجريد، وإلي عقاب اللغة، إلي الإيغال في اللعب بها، إلي قتلها أثناء محاولته نفخ الحياة فيها، يظنها قريبة بينما تكون موغلة في البعد. تصبح موجودة في ذاتها أو في ذاته، في ذاته هو فقط، يصبح هو اللغة وتصبح اللغة هو، قد يقتل اللغة من خلال مبالغته في التجريب وقد تقتله ويصيران كيانا واحدا، لكنه يكون كيانًا منفصلا بل كيان ميت، وقد يقوم بقتلها أثناء تلاعبه بها، يظنها امرأة وهي ليست كذلك، فالعلاقة مع اللغة علاقة غير متعدية وليست لازمة، اللغة متعددة العلاقات منفتحة الصلات، ليست كالكلام الباطني أو النجوي، تلك التي يبدأ الطفل من خلالها حواره الداخلي مع ذاته كما كان ومن خلالها تتطور اللغة لديه أيضا، لكن الشاعر لا يستطيع أن يكتفي باللغة، لا بد له هو أن يخرج من حوار المونولوج إلي حوار الديالوج، الحوار التفاعلي مع آخر، أو مع آخرين، مع آخر قريب من المرأة أو بعيد عن القراءات والمبدعين من رفاق الخيال. ولا يكون اللعب موجودًا إلا مع آخر لا يكون اللعب موجودًا مع الذات إلا في حالات الاستمناء أو الولع بالتجريب أو الانفصال والانعزال أو النجوي أو الانتظار لوحي يأتي من الفضاء أو يهبط من السماء. في حالات الاحتجاز والسجن كما فعل بطل رواية "لاعب الشطرنج" الشهيرة لاستيفان زفايج.
عندما يكون عدد الصوتيات "قليل" والمعاني مقاربة "لسان يسيل" كما يقول الشاعر "إلي هدف، باعتباره محرك الحدث." ويكون الهدف هنا هو الجنس
"جنس هو مفتاح البيت وشاعرية الحقيقة.
فاصلٌ وحدَه، تعرق الأشياء منه. مع ذلك، عالم لا يتوقف عن الحركة ومن الجنون السيطرة عليه".
هنا حركة لا تتوقف "ونص مراسيم ومتحف ألحان تناغمت مع حامي اللسان" خلال ذلك تتبدل المعاني ويتغير النطق، "فيقطر الشعري بالمعني" هنا علاقة جميلة ملتبسة يرصدها الشاعر بين أصوات الممارسة للجنس وحركاتها، وبين الممارسة للكتابة وآلياتها، بين الوقدة والتوهج والحركة والسكون، وحيث هنا أيضًا تلاعب وتفاعل وتداخل بين الصوائت والصوامت والعلاقة مع الآخر، مع المرأة، ومع اللغة والكلام والكتابة، وثمة غموض وجمال وتغريب وتجريب. وفي الحالتين، هنا متعة وعذاب، وسرور وألم، وحيث يتلاعب اللسان "بأفق الصوامت في نسيج الشَعر فوق العتبة"، والعتبة قد تكون هي الفم ذاته، وقد تكون هي عتبة الوعي وبوابة اللاوعي وقد تكون المألوف وبوابة غير المألوف والغريب والعجائبي، قد تكون هي البوابة التي ينتقل عبرها من عالم إلي عالم ومن حال إلي حال، ومن هدوء إلي استنارة، من سكون إلي حركة والعكس بالعكس. هكذا تظهر له "شِعاب من الغابات تفطِرُ العالم، بتنسيقها العفوي"، وتتبدي هكذا أيضا "والخيال يضحي بثقافته لمزاوجة اللعب. ويتفجر "نشاطٌ بتأويل، ولا وعي مستمعٍ يلبسُ الشك".
هنا أيضًا رصد لتوترات الكتابة وقلقها ولهواجس الجنس وحالاته؛ هنا خروج من الحسي إلي الرمزي ومن الواحد إلي الكثرة، هنا وعي باللاوعي ولا وعي بالوعي، نشاط مولع بالجدوي واللاجدوي، بالتأويلات والتجريب، مستمع يتلبسه السمع، ينصت إلي صوته الداخلي، إلي غابات المعاني وتفجرات الدلالات بداخله، بداخل عقله الباطن وعبر عتبة خالية ووجدان.
هناك ولع أيضًا بالدلالات الخاصة باللسان واللغة والكلام والجنس، بالأعضاء التي تستخدم في الحالتين في الجنس والكتابة، الفم واللسان واليد، وغيرها من الأعضاء، هكذا يكون الفم وسيلة للنطق والتعبير والتصوير والتقبيل واللسان أداته، في هذه الأحوال جميعها يقول: "هنا لغة لتعدي النظام. وعينةٌ لاقتطاع الحزن من قلب اللسان، قلب لسانه يسحر المتأمل"، هكذا يكون اللسان/ النطق/ وسيلة للسحر: "إن من البيان لسحرًا" وطريقة للخروج علي المألوف، للبهجة وإبعاد الحزن من قلب صاحبه وقلب الآخرين، وسيلة لسحرهم والسيطرة عليهم، اللسان أداة للسيطرة والهيمنة من خلاله يقلب صاحبه القلب والإبصار، وبه يتجسد العالم ويتجلي، وتحلّ الكائنات وتتشكل وتبقي، وبه
"يشهد الصياد صرعة الإيل كحرف الراء نحو الأرض".
حرف الراء هو هكذا "ر" هكذا يكون وضع الإيل بعد أن يصرعه الصياد وهكذا يكون وضع المرأة أيضًا في حال الاستلقاء، وكذلك فإن
"أكثر من 58٪ من ميم القُبلة لا يعني أن جنسًا يقوم.
بل عسل بري صاف يدغدغ الحنك. وجوف الفم رطبٌ
بحلواه. من رؤية العلاقة الجنسية، في غير طلب الجنس.
نشاط من الحنجرة كبربرة أو شهيق،
والإيل مقلوب ليختفي اللسان بتاريخ الحضارات من قُبلةٍ.
وَلَهٌ بمنظور تجديدي يرسم مصير الكلام،
وكلام يرسم مصير القُبلة.
وقُبلة ترسم مصير السقوط علي يوتوبيا الجنس،
من أوّله إلي فِتَن الخلافات بعنصري الفاعل والمفعول".
ومثلما قد تكون العلاقة الجنسية علاقة بين مالك ومملوك، وواصل وموصول، كذلك تكون اللغة ويكون اللسان ويكون الكلام، قد يكون الصوت عواءً من حيوان أو همجية أو حمحمة أو دمدمة من إنسان أو حيوان، وفي هذه الأحوال كلها، فإنه
"وعند خروج العواء من كلٍّ علي طريقته تستعر معالم بدائية،
وتتفكك أعضاء بمعني التجاور والتداخل في الزمان والمكان
من اجتهاد الرمز أن يتحطم".
وأيضًا
"أفعال تتعدد تندرج تشتد، تجهد في
التتابع والتغير والتحفيز والجمع والطرح.
مضاعفاتٌ من خفيفٍ ثقيلٍ بحفرٍ ضيق."
تتوالي الأصوات والكلمات والحروف المخنوقة والمتهتكة، ويتوالي
"تصوير أصوات لناطقَين حسّيين كأكثر الرواة موهبة."
وأيضًا
"تحريك ألحانٍ بصوتٍ خفيضٍ كتنغيمٍ وراثيٍّ لاقط لمحاكاة قديمة من عهد آدم أو شبيهه".
في "نهاية الكردية" تتخيل عطاف مديرها في الصباح قطاً علي سطح مكتبها يطارد سمكة، وتخيلها تلاعبه الاستغماء في عينيه، وهناك مقابر من الأزهار وكهرباء وتماثيل من يأس وتفاح وسط غربان وديكة تصيح واستدعاء للحلاج وهو يصرخ قبل موته: "في قتلي حياتي"، أمراض وتعذيب وقتل ورجاء وحلوي وديدان ومحبة الوطن هي فروض وتركيبات وتشكيلات في أشكال دورية وشبه دورية ودائرية فيها تكون البدائية هي النهاية والنهاية هي البداية، وكل شيء يحدث "في شارع الحمراء".
في "حادثة باب توما" هناك مشهدية غالبة وتصوير لحوارات ونقاشات تدور بين رجلين عن الرب الذي يعبدانه، والمارة يلتزمون الصمت، وعلي رصيف مواز رجل مستغرق في ذاته، ويتناول السندوتش بينما امرأة حامل تمرّ وتطوح ما اشترته من خضراوات في ذراعها والطقس تقريبًا جاف ولا وجود لرائحة العرق، عالم فردوسيّ "وبيوت كالصبايا الصغيرات مُشربة بألوان"، ويمر جنرال مع زوجته في سيارته وتولد قصة حب في مشربية، وثمة رايات كثيرة وموسيقي وملابس منشورة ويحضر أيضًا: الثورات والإستراتيجية والفوضويون والعلمانيون والأصوليون والنساء الحكيمات والشعراء المهزولون المهزومون. والشاعر يتلاعب هنا بالأحداث والصور، ويتلاعب بفمه أيضًا بالكلمات، يهمسها، يغنيها، يطلقها، وأحيانًا يحبسها يكظمها، ولا يبوح بها، يكتفي بالإيماءات. يقول: "في باب توما سعادة، من معالجة الحياة باسمٍ آخر"، وجلد الوجه يتطاير من الرغبات ذاكرة غامضة لكلام بكعبين. والحب جدي، يلحس العدم في باب توما، لوحات وكلمات ورغبات ونساء لسن كبقية البشر.
في "مؤلفات جازية" يوصف صوتها بأنه "نصف خواجة" وأنها "يصفَرُّ الكلام من فمها. تقطّره الحنجرة، حدّ شفرة أبيض ما بين شفتيها، وهي تبلع الريق، حين تناجي ظلها، أن يعمل الشاي". وجازية مؤلفة "طفحت من دعاوي المؤتمرات" تكتب الرواية والقصة القصيرة وكتابًا عن السينما التسجيلية بعنوان غرابة السرير وأطروحة عن المراهقة لم تطبع بعد. وهي "تأخذ كيس المُسكّن. ثلاث حبات معفّرة. تقذف بها في مجاري القصبة كالحصرم. ومثل قطة مسرحية. تبدأ المشهد من جديد".
ومقلوب المتنبي "يري مهمته أن يشتل اللغة، بمناطق الشكل الرمادية"، ويوصف أيضًا بأنه "فمه صار كالطحلب، ثم وشوش من عمق حنجرته: بالشعر فتنة".
وفي "الياء ما فضل من اللبن" يقول: "فائق الجمال، يلعب في المنادِي والمنادَي، ماحيا كل توبة، بوجود طويل".
وفي "لعنة صلاح الدين"، تصوير لتلك العوامل المتداخلة الخاصة ببغداد أيام المغول والقدس أيام الصليبيين وريتشارد وصلاح الدين والمغول القدامي واجتياح الأمريكيين لبغداد عام 2003 وتدميرهم لها كالمغول واستباحتهم هناك لكل شيء.
وحتي في حالات غياب التعبير أو الاستخدام المباشر للمفردات المرتبطة بالفم والكتابة والجنس، تكون هناك إشارات كاشفة عن مثل تلك العلاقة، كما في قصيدة "سرير المُلك"، التي جاء فيها
"غربال من المعني، فالمؤنث أصل، ووجب أن تجدع الغصون.
شهوة خيطية، حكم عليها أن تربط الوصل بالفصل."
وأيضًا في قصيدة "نشيد رعوي": "
نهايةُ الكلمة فراشٌ رمزيٌ هائجٌ، يحصرُ المعني في تحول الاستلقاء".
وهنا حضور أيضا لبيولوجيا الجنس والإبداع وأماكن العدوان والسلطة والإرادة واللاإرادة في المخ.
وفي "فانتازيا أم البنات" هناك حكايات عن شهرزاد وست الحسن والشاطر حسن، واستعادة للذكريات والصور والأخيلة من خلال إعادتها، نطقها، سردها من جديد، التعبير عنها ومقاومة النسيان، إعادة الحكي وتجسيد الحكايات المنسية عن البشر العابرين والمتصوفة والحكام والشعراء والأدباء، عن ابن عربي وشولوخوف وأراجون ودستويفسكي ونيتشه وزارادشت ولوركا ولوحات رينيه ماجريت وأبيقور وصلاح الدين والكردية والروايات اليابانية.
ويكون الفم أشبه بمجاز مرسل يتم خلاله إيراد الجزء (الفم) ويقصد من ورائه الكل أي الوحش أو العاشق أو التاريخ أو تلك الذات التي لا تكف أبدًا عن التذكر والحكي والإعادة، كي تقاوم الموت أو النسيان.
نسخ:
كذلك نجد "لسان البحر" الذي يرتبط برمزية الباب والبوابات وبوصفه صلة للاتصال بعالم آخر بالمحيط أو النهر، حيث رموز الوحدة والتكامل والصلات التي تقوم وتنشأ بين كائنات وكيانات منفصلة أو متباعدة أو غير متصلة. والفم قد يخرج منه الماء وقد يستخدم في التعبيرات المجازية الدالة علي الضيق والغضب: "في فمي ماء"، أو "جف ريقه" إلخ و"الفم الذهبي" مذهب مقدس في البوذية.
في التحليل النفسي، ترتبط رمزية الفم برمزية اللسان والأسنان، حيث قد نجد بعض "الشخصيات اللسانية" التي تبرُع في الكلام لكنها تميل أيضًا إلي المتعة الإيروتيكية والاستمتاع بالطعام والجنس والحياة، وهناك الشخصيات الأسنانية التي تهتم بالتمزيق والعض والطحن والابتلاع والنقد. وليس هناك إنسان لساني تماما أو أسناني تمامًا بل إننا جميعًا مزيج من هذين الطابعين ولكن بمقادير مختلفة. والأمزجة الشخصية الفمية العدوانية (الأسنانية) يقال عنها في التحليل النفسي إنها ناتجة عن التثبيت علي مرحلة العض بالفم علي ثدي الأم أثناء مرحلة الرضاعة وفي الوقت نفسه امتصاص اللبن منه. وتتسم هذه الشخصية بسلوكيات عدوانية مصطبغة بالحسد والحقد والاستغلال للآخرين والميل إلي إطلاق الشتائم والألفاظ النابية والولع أو الشراهة في التدخين والميل إلي مضغ اللبان (أو التشدق باللادن) ويسمي كارل ابراهام (1877-1925) هذه المرحلة ومن ثم هذه الشخصية بالسادية الفمية ويقول المحللون النفسيون إن هناك عاملا فمويا في العصاب وكذلك الإيروتيكية في سلوكيات مثل: العض، المص، التدخين، تعاطي الكحوليات، الإسراف في تناول الطعام والولع الوسواس القهري بمضغ اللبان أو بدائله.
تقوم الشفتان بالتقبيل والامتصاص والرغبة في الامتلاك والشراهة والطمع والشخصية الفمية المتلقية (أو المازوخية) يتسم أصحابها بالاعتماد والتفاؤل وتوقع الاهتمام والرعاية من الآخرين والرغبة كذلك في إرضائهم أو امتاعهم.
والأسنان نقدية أما الشفاه فإبداعية ولدي كل شاعر أو مبدع عامة شفاه إبداعية وأسنان نقدية يوجهها إلي ذاته أو إلي الآخرين. وقد تفوق أسنان الناقد قدرة شفتيه علي التذوق والعطاء.
والفم وسيلة أو أداة للشرب والأكل والتبسم والتقبيل، أداة للازدراد والعض والالتهام والابتلاع والتذوق والكلام والحكي والتعبير، للصلاة والأصوات الشهوانية، للضحك (وداد: بالخفة والضحك تسخو إلي نقطة كمال" والفم أداة التكسير والعبوس والتعبير عن الغضب وقد ارتبط باسم بعض الأعمال الفنية (ابتسامة الموناليزا مثلاً)، ووجود الفم كثيف في أعمال الفنان فرنسيس بيكون وكذلك فرانز هالز وغيرهما، وبعض الروايات مثل "الرجل الضاحك" لفيكتور هوجو.
ترد مفردة اللسان كعنوان لإحدي قصائد ديوان "خضراء الله" وهي "حامي اللسان" لكنها ترد بكثرة في العديد من قصائد أيضًا وهي ترد بدلالاتها السيكولوجية والاجتماعية والشعرية الإبداعية الثقافية أيضًا ففي القصيدة الأولي من الديوان وعنوانها "برولوج" نقرأ ما يلي:
"لا تعيد الألسن ابتداع العالم.
بل تفكر في الطريق إلي مملكة العقل، حقيقة بسيطة
هي أن المادة بدقة الرسم واسم للأشياء لا يهتدي إلا بذاته.
كلب يصطاد أرنبا بثقافة سهم وتصريف معلومات،
بحسب تاريخه الجدلي. براءة، دون مبادرة ناطقة.
حوار شفهي، بشري وغير بشري، مصدر الحي إلي الجماد، وقرابة الصوت للمعني. كأن النطق تصور للغة، وقابل للتجريب.
لسان يدفع الثمن."
هنا تبدو لنا لغة أقرب إلي التجريد والرمز، كأنها لغة طقسية أو همهمات تعاويذ، يقدمها الشاعر أو يتقرب من خلالها إلي إله مجهول غامض. هنا كتابة أقرب إلي ما يسمي في لغة فنون التشكيل المعاصرة بالفن المفهومي. هنا الشاعر غير معني إلا بذاته وبتصوراته، يطرح رؤاه وأفكاره للعالم غير معني بأن يتوحد مع العالم المألوف أو يتوحد هذا العالم معه، بل إنه يطرح هنا تصوره العام للغة واللسان والكتابة والعالم. وهنا تصور يذكرنا بما قاله بافلوف من إن "اللغة هي التي صنعت منا بشرا". هنا الكلمة هي العالم والعالم موجود في اللغة، هكذا كان هيدجر يقول: واللغة لا تعيد ابتداع العالم، بل تعيد اكتشافه، فقدمه لنا من جديد كما لو كنا نراه لأول مرة هكذا تكون الأشياء موجودة وتعطي أسماء عندما يتم نطقها، ومن خلالها تكتسب الكائنات أسماءها، يصبح الكلب كلبًا والأرنب أرنبًا، ومن خلال فعل من أفعال المطاردة والصيد تقوم العلاقة بينهما. هكذا نشأت الحوارات أيضا بين البشري وغير البشري، بين الحي والجماد، بين الصوت والمعني "كأن النطق تصور للغة وقابل للتجريب" كما يقول محمد عيد إبراهيم النطق يتم باللسان ولا ينقل إلا جانبا من جوانب اللغة والمعني. اللغة وكما كان تشومسكي يتصورها، هي ذلك المستوي العميق من بحر المعني، واللغة، التي تزخر باللآلئ والأسماك والكائنات البحرية والمتنوعة والأصداف والغرقي والسفن الغارقة الغاطسة. أما الكلام المنطوق أو المكتوب فهو المستوي السطحي، قمة جبل الجليد، يبرز القليل ويخفي الكثير، ولا بد هنا من مداومة التجريب والتأمل للذات، ودفع الثمن، "فالمادة بدقة الرسم" ولكن أين هي تلك الدقة؟ لا بد من مواصلة المطاردة، للغة، والذات، من هنا ينشأ الصراع بين مستوي اللغة السطحي والعميق في تعريف المعلومات كما يطارد الكلب الأرنب، "وكما السهم أملا في الصيد"، لكن سهم الصيد يكون في كثير من الأحيان، إن لم يكن فيها جميعًا أشبه بسهم (زينون الإيلي) في الفلسفة اليونانية القديمة، الفيلسوف السوفسطائي الذي عارض قول هيراقليطس بالحركة والتغيير، وقال إن كل شيء في هذا العالم ثابت حتي وإن بدا غير ذلك كما يحدث عندما نطلق سهما من قوس يبدو متحركا وهو في الأصل ثابت، وهي الفكرة التي أخذها دريدا بعد ذلك وطورها في كتاباته التفكيكية.
هنا، في هذا الديوان، نجد الذات المتكلمة المتأملة لذاتها والمؤلفة بالتجريب، في دفع الثمن وتستمر أيضًا في حوارها الشفهي الدائم هذا بمحاولة إعادة تشكيل العلاقة بين البشري وغير البشري، بين الحي والجماد، والصوت والمعني، الرسم والدلالة... إلخ.
وهنا أيضًا يتحول مثل هذا الحوار إلي نوع من الهوس والولع بالمفردات والصور يشبه الحوار المهيمن المسيطر عليها، كوسواس قهري، لكنه وسواس جميل يشبه العشق، هنا عشق ترغب خلاله الذات في "تملك الأم. كأنها حلم بمجري المفردات. توازن قلق علي حدود مفروضة، محتوي ثابت لتنوع الشخصين،
إصبع مستعار لقبلة، ولسان يحمل سمة الذاكرة."
هنا كتابة تقع في قلب عملية الكتابة ذاتها وهنا نطق يكمن في قلب عملية الخلق نفسها، هنا أحلام تحدث في قلب نهر الأحلام والمفردات شديدة الجريان، ومحاولة للوصول إلي توازن قلق أو استقرار غير مستقر، وحالة بينية توجد علي حدود مفروضة، لكنها تخرج من هذه الحدود بالسباحة في نهر المفردات والتحليق في عالم الأحلام والذكريات والقراءات والثقافات والرفاق الخياليين: لوركا وديستويفسكي والمتنبي ونيتشه وميكلانجلو والروايات اليابانية وإقامة للصلات البعيدة التي تقوم علي أساس الاكتشاف لما هو مؤتلف بين كل ذلك المختلف. هنا لسان يعود إلي عالم الطفولة، يوغل في الذاكرة "يستعير أصابع للقبلات"، كي تصبح أشبه بطفل يمتص أصابعه بلسانه، يستمتع بها وقد يتألم، قد يعض لسانه وقد يعاقب علي ما يقوم به، لكنه يستمر في ولعه المستحوذ هذا الذي قد يتطور لاحقًا، إلي شكل علاقة بين الفم واليد، بين اللسان والكتابة، هنا قد يتجسد ذلك الفعل المبكر للإبداع في
"لسان مستميت علي إصبع،
وبراءة الفعل في صوته بمثابة قلب يحاكي البالغين."
وأيضًا:
"قال للمرأة: لم تحددي باب اللسان.
وغاب برسم الكتابة في حالة من صيغة النفي.
لا يتيح الكلام من دون تدليل علي وصفه رمزًا.
بينما نفسه في عبادة أصنام بحركات بالغة الهمجية."
هنا تحتوي الكتابة علي غياب، وعلي نفي وعلي رموز، هنا الكتابة أشبه بعبادة الأصنام، هنا الكتابة طقس وعقيدة واستغراق وخشوع.
في قصيدة "حامي اللسان" نجد مفردة "حامي" مزدوجة المعني: الحماية والحرارة الشديدة القاتلة وفي العامية يقال عن الشخص حاد الكلام والكلمات عنيفها: لسانه حامٍ. كما تتجلي علاقة اللسان كذلك باللغة والحركة والمرأة والرجل والجمال والجسد والموت. هنا يكون "ثمة جنس هو الجمال المطلق للمعرفة"، وتكون "واقعة الوجود هي الهلاك".
ولأن اللغة أنثوية بينما الكلام ذكري، فإن: "المرأة تبقي علي حالها، أما الرجل فليس موجودا". المرأة هي الحياة، والرجل هو الموت، وترتبط المرأة بأصل الحياة بالتجدد بالأرض، بالأم العظيمة، بالتغذية والرضاعة، والعطاء، المرأة هي الشفتان والرجل هو اللسان، وبينهما توجد الأسنان مزودجة الطابع والأداء، أما الرجل فيرتبط بغرائز الموت، بالتدمير، والعدوان، والامتصاص والبلع والهضم والاستحواذ والامتلاك والعكوف علي الذات والتأمل والتجريد، وقد يوجه ساديته أو عدوانيته إلي المرأة أحيانا، أو إلي الطبيعة أو الآخرين أحيانا أخري، وقد يوجهها أحيانا إلي ذاته، وقد يوشك علي الانتحار، قد يلجأ إلي المبالغة في التجريد، وإلي عقاب اللغة، إلي الإيغال في اللعب بها، إلي قتلها أثناء محاولته نفخ الحياة فيها، يظنها قريبة بينما تكون موغلة في البعد. تصبح موجودة في ذاتها أو في ذاته، في ذاته هو فقط، يصبح هو اللغة وتصبح اللغة هو، قد يقتل اللغة من خلال مبالغته في التجريب وقد تقتله ويصيران كيانا واحدا، لكنه يكون كيانًا منفصلا بل كيان ميت، وقد يقوم بقتلها أثناء تلاعبه بها، يظنها امرأة وهي ليست كذلك، فالعلاقة مع اللغة علاقة غير متعدية وليست لازمة، اللغة متعددة العلاقات منفتحة الصلات، ليست كالكلام الباطني أو النجوي، تلك التي يبدأ الطفل من خلالها حواره الداخلي مع ذاته كما كان ومن خلالها تتطور اللغة لديه أيضا، لكن الشاعر لا يستطيع أن يكتفي باللغة، لا بد له هو أن يخرج من حوار المونولوج إلي حوار الديالوج، الحوار التفاعلي مع آخر، أو مع آخرين، مع آخر قريب من المرأة أو بعيد عن القراءات والمبدعين من رفاق الخيال. ولا يكون اللعب موجودًا إلا مع آخر لا يكون اللعب موجودًا مع الذات إلا في حالات الاستمناء أو الولع بالتجريب أو الانفصال والانعزال أو النجوي أو الانتظار لوحي يأتي من الفضاء أو يهبط من السماء. في حالات الاحتجاز والسجن كما فعل بطل رواية "لاعب الشطرنج" الشهيرة لاستيفان زفايج.
عندما يكون عدد الصوتيات "قليل" والمعاني مقاربة "لسان يسيل" كما يقول الشاعر "إلي هدف، باعتباره محرك الحدث." ويكون الهدف هنا هو الجنس
"جنس هو مفتاح البيت وشاعرية الحقيقة.
فاصلٌ وحدَه، تعرق الأشياء منه. مع ذلك، عالم لا يتوقف عن الحركة ومن الجنون السيطرة عليه".
هنا حركة لا تتوقف "ونص مراسيم ومتحف ألحان تناغمت مع حامي اللسان" خلال ذلك تتبدل المعاني ويتغير النطق، "فيقطر الشعري بالمعني" هنا علاقة جميلة ملتبسة يرصدها الشاعر بين أصوات الممارسة للجنس وحركاتها، وبين الممارسة للكتابة وآلياتها، بين الوقدة والتوهج والحركة والسكون، وحيث هنا أيضًا تلاعب وتفاعل وتداخل بين
الصوائت والصوامت والعلاقة مع الآخر، مع المرأة، ومع اللغة والكلام والكتابة، وثمة غموض وجمال وتغريب وتجريب. وفي الحالتين، هنا متعة وعذاب، وسرور وألم، وحيث يتلاعب اللسان "بأفق الصوامت في نسيج الشَعر فوق العتبة"، والعتبة قد تكون هي الفم ذاته، وقد تكون هي عتبة الوعي وبوابة اللاوعي وقد تكون المألوف وبوابة غير المألوف والغريب والعجائبي، قد تكون هي البوابة التي ينتقل عبرها من عالم إلي عالم ومن حال إلي حال، ومن هدوء إلي استنارة، من سكون إلي حركة والعكس بالعكس. هكذا تظهر له "شِعاب من الغابات تفطِرُ العالم، بتنسيقها العفوي"، وتتبدي هكذا أيضا "والخيال يضحي بثقافته لمزاوجة اللعب. ويتفجر "نشاطٌ بتأويل، ولا وعي مستمعٍ يلبسُ الشك".
هنا أيضًا رصد لتوترات الكتابة وقلقها ولهواجس الجنس يسحر المتأمل"، هكذا يكون اللسان/ النطق/ وسيلة للسحر: "إن من البيان لسحرًا" وطريقة للخروج علي المألوف، للبهجة وإبعاد الحزن من قلب صاحبه وقلب الآخرين، وسيلة لسحرهم والسيطرة عليهم، اللسان أداة للسيطرة والهيمنة من خلاله يقلب صاحبه القلب والإبصار، وبه يتجسد العالم ويتجلي، وتحلّ الكائنات وتتشكل وتبقي، وبه
"يشهد الصياد صرعة الإيل كحرف الراء نحو الأرض".
حرف الراء هو هكذا "ر" هكذا يكون وضع الإيل بعد أن يصرعه الصياد وهكذا يكون وضع المرأة أيضًا في حال الاستلقاء، وكذلك فإن
"أكثر من 58٪ من ميم القُبلة لا يعني أن جنسًا يقوم.
بل عسل بري صاف يدغدغ الحنك. وجوف الفم رطبٌ
بحلواه. من رؤية العلاقة الجنسية، في غير طلب الجنس.
نشاط من الحنجرة كبربرة أو شهيق،
والإيل مقلوب ليختفي اللسان بتاريخ الحضارات من قُبلةٍ.
وَلَهٌ بمنظور تجديدي يرسم مصير الكلام،
وكلام يرسم مصير القُبلة.
وقُبلة ترسم مصير السقوط علي يوتوبيا الجنس،
من أوّله إلي فِتَن الخلافات بعنصري الفاعل والمفعول".
ومثلما قد تكون العلاقة الجنسية علاقة بين مالك ومملوك، وواصل وموصول، كذلك تكون اللغة ويكون اللسان ويكون الكلام، قد يكون الصوت عواءً من حيوان أو همجية أو حمحمة أو دمدمة من إنسان أو حيوان، وفي هذه الأحوال كلها، فإنه
"وعند خروج العواء من كلٍّ علي طريقته تستعر معالم بدائية،
وتتفكك أعضاء بمعني التجاور والتداخل في الزمان والمكان
من اجتهاد الرمز أن يتحطم".
وأيضًا
"أفعال تتعدد تندرج تشتد، تجهد في
التتابع والتغير والتحفيز والجمع والطرح.
مضاعفاتٌ من خفيفٍ ثقيلٍ بحفرٍ ضيق."
تتوالي الأصوات والكلمات والحروف المخنوقة والمتهتكة، ويتوالي
"تصوير أصوات لناطقَين حسّيين كأكثر الرواة موهبة."
وأيضًا
"تحريك ألحانٍ بصوتٍ خفيضٍ كتنغيمٍ وراثيٍّ لاقط لمحاكاة قديمة من عهد آدم أو شبيهه".
في "نهاية الكردية" تتخيل عطاف مديرها في الصباح قطاً علي سطح مكتبها يطارد سمكة، وتخيلها تلاعبه الاستغماء في عينيه، وهناك مقابر من الأزهار وكهرباء وتماثيل من يأس وتفاح وسط غربان وديكة تصيح واستدعاء للحلاج وهو يصرخ قبل موته: "في قتلي حياتي"، أمراض وتعذيب وقتل ورجاء وحلوي وديدان ومحبة الوطن هي فروض وتركيبات وتشكيلات في أشكال دورية وشبه دورية ودائرية فيها تكون البدائية هي النهاية والنهاية هي البداية، وكل شيء يحدث "في شارع الحمراء".
في "حادثة باب توما" هناك مشهدية غالبة وتصوير لحوارات ونقاشات تدور بين رجلين عن الرب الذي يعبدانه، والمارة يلتزمون الصمت، وعلي رصيف مواز رجل مستغرق في ذاته، ويتناول السندوتش بينما امرأة حامل تمرّ وتطوح ما اشترته من خضراوات في ذراعها والطقس تقريبًا جاف ولا وجود لرائحة العرق، عالم فردوسيّ "وبيوت كالصبايا الصغيرات مُشربة بألوان"، ويمر جنرال مع زوجته في سيارته وتولد قصة حب في مشربية، وثمة رايات كثيرة وموسيقي وملابس منشورة ويحضر أيضًا: الثورات والإستراتيجية والفوضويون والعلمانيون والأصوليون والنساء الحكيمات والشعراء المهزولون المهزومون. والشاعر يتلاعب هنا بالأحداث والصور، ويتلاعب بفمه أيضًا بالكلمات، يهمسها، يغنيها، يطلقها، وأحيانًا يحبسها توما سعادة، من معالجة الحياة باسمٍ آخر"، وجلد الوجه يتطاير من الرغبات ذاكرة غامضة لكلام بكعبين. والحب جدي، يلحس العدم في باب توما، لوحات وكلمات ورغبات ونساء لسن كبقية البشر.
في "مؤلفات جازية" يوصف صوتها بأنه "نصف خواجة" وأنها "يصفَرُّ الكلام من فمها. تقطّره الحنجرة، حدّ شفرة أبيض ما بين شفتيها، وهي تبلع الريق، حين تناجي ظلها، أن يعمل الشاي". وجازية مؤلفة "طفحت من دعاوي المؤتمرات" تكتب الرواية والقصة القصيرة وكتابًا عن السينما التسجيلية بعنوان غرابة السرير وأطروحة عن المراهقة لم تطبع بعد. وهي "تأخذ كيس المُسكّن. ثلاث حبات معفّرة. تقذف بها في مجاري القصبة كالحصرم. ومثل قطة مسرحية. تبدأ المشهد من جديد".
ومقلوب المتنبي "يري مهمته أن يشتل اللغة، بمناطق الشكل الرمادية"، ويوصف أيضًا بأنه "فمه صار كالطحلب، ثم وشوش من عمق حنجرته: بالشعر فتنة".
وفي "الياء ما فضل من اللبن" يقول: "فائق الجمال، يلعب في المنادِي والمنادَي، ماحيا كل توبة، بوجود طويل".
وفي "لعنة صلاح الدين"، تصوير لتلك العوامل المتداخلة الخاصة ببغداد أيام المغول والقدس أيام الصليبيين وريتشارد وصلاح الدين والمغول القدامي واجتياح الأمريكيين لبغداد عام 2003 وتدميرهم لها كالمغول واستباحتهم هناك لكل شيء.
وحتي في حالات غياب التعبير أو الاستخدام المباشر للمفردات المرتبطة بالفم والكتابة والجنس، تكون هناك إشارات كاشفة عن مثل تلك العلاقة، كما في قصيدة "سرير المُلك"، التي جاء فيها
"غربال من المعني، فالمؤنث أصل، ووجب أن تجدع الغصون.
شهوة خيطية، حكم عليها أن تربط الوصل بالفصل."
وأيضًا في قصيدة "نشيد رعوي": "
نهايةُ الكلمة فراشٌ رمزيٌ هائجٌ، يحصرُ المعني في تحول الاستلقاء".
وهنا حضور أيضا لبيولوجيا الجنس والإبداع وأماكن العدوان والسلطة والإرادة واللاإرادة في المخ.
وفي "فانتازيا أم البنات" هناك حكايات عن شهرزاد وست الحسن والشاطر حسن، واستعادة للذكريات والصور والأخيلة من خلال إعادتها، نطقها، سردها من جديد، التعبير عنها ومقاومة النسيان، إعادة الحكي وتجسيد الحكايات المنسية عن البشر العابرين والمتصوفة والحكام والشعراء والأدباء، عن ابن عربي وشولوخوف وأراجون ودستويفسكي ونيتشه وزارادشت ولوركا ولوحات رينيه ماجريت وأبيقور وصلاح الدين والكردية والروايات اليابانية.
ويكون الفم أشبه بمجاز مرسل يتم خلاله إيراد الجزء (الفم) ويقصد من ورائه الكل أي الوحش أو العاشق أو التاريخ أو تلك الذات التي لا تكف أبدًا عن التذكر والحكي والإعادة، كي تقاوم الموت أو النسيان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.