محافظ الوادي الجديد يهنئ الأقباط بعيد القيامة المجيد    تراجع سعر الريال السعودي في البنوك بالتزامن مع بدء موسم الحج    البلطى يتراجع.. أسعار الأسماك والمأكولات البحرية في حلقة الأنفوشى بالإسكندرية اليوم السبت    محافظ أسيوط يناقش مستجدات مشروعات البرنامج الوطني لإدارة المخلفات الصلبة    نجوم الغناء ينعون الشاعر بدر بن عبد المحسن: «انطفى ضي الحروف»    تردد القنوات الناقلة لمباراة الأهلي والترجي في نهائي دوري أبطال أفريقيا    تجديد حبس جزار ونجله بتهمة قتل شاب في السلام    طوارئ في القناطر الخيرية لاستقبال آلاف الزائرين للاحتفال بشم النسيم    شيرين عبدالوهاب تحيي حفلا كامل العدد في الكويت.. «بكت على المسرح»    طرح البوستر الرسمي لفيلم «بنقدر ظروفك» بطولة أحمد الفيشاوي (تعرف علي موعد عرضه)    مستشار الرئيس للصحة: مصر في طريقها للقضاء على مسببات الإصابة بسرطان الكبد    اندلاع نيران في خاركيف بأوكرانيا جراء هجمات روسية بعد منتصف الليل    عاجل| السيسي يعزي رئيس مجلس السيادة السوداني في وفاة نجله    كوريا الجنوبية: ارتفاع عدد الهاربين للبلاد من الشمال لأكثر من 34 ألفا    السيسي يهنئ البابا تواضروس بمناسبة عيد القيامة المجيد    موعد بيرنلي أمام نيوكاسل يونايتد في الدوري الإنجليزي والقنوات الناقلة    سكرتير عام مساعد البحيرة يتابع تنفيذ مشروعات مياه الشرب والصرف الصحي    وزير الري: نعمل على توفير حياة كريمة للمواطنين بالصعيد    شذوذ جنسي وشرب الحشيش.. ننشر اعترافات المتهم بذبح طفل شبرا الخيمة    التصريح بدفن طالبة سقطت من البلكونة أثناء نشر الغسيل بالجيزة    ضبط 37 مليون جنيه حصيلة قضايا إتجار بالنقد الأجنبي    الدكتورة رانيا المشاط وزيرة التعاون الدولي تُناقش آفاق التعاون مع وكالة تمويل الصادرات البريطانية    تفاصيل مشروعات الطرق والمرافق بتوسعات مدينتي سفنكس والشروق    جامعة المنيا تحقق معدلات مُرتفعة في سرعة حسم الشكاوى    الصحة السعودية تؤكد عدم تسجيل إصابات جديدة بالتسمم الغذائي    إندونيسيا: 106 زلازل ضربت إقليم "جاوة الغربية" الشهر الماضي    مصرع 14 شخصا إثر وقوع فيضان وانهيار أرضي بجزيرة سولاويسي الإندونيسية    «الرعاية الصحية» تعلن خطة التأمين الطبي لاحتفالات عيد القيامة وشم النسيم    «أتوبيسات لنقل الركاب».. إيقاف حركة القطارات ببعض محطات مطروح بشكل مؤقت (تفاصيل)    "دفنوه على عتبة بيتهم".. أبوان يقيدان ابنهما ويعذبانه حتى الموت بالبحيرة    "تطبيق قانون المرور الجديد" زيادة أسعار اللوحات المعدنية وتعديلات أخرى    «الإسكان»: دفع العمل بالطرق والمرافق بالأراضي المضافة حديثاً لمدينتي سفنكس والشروق    عفروتو يرد على انتقادات «التقصير والكسل»    تامر حسني يوجه رسالة لأيتن عامر بعد غنائها معه في حفله الأخير: أجمل إحساس    برج «الحوت» تتضاعف حظوظه.. بشارات ل 5 أبراج فلكية اليوم السبت 4 مايو 2024    ما حكم الإحتفال بشم النسيم والتنزه في هذا اليوم؟.. «الإفتاء» تُجيب    إيرادات فيلم السرب على مدار 3 أيام عرض بالسينما 6 ملايين جنيه ( صور)    «القومي للمرأة» يشيد بترجمة أعمال درامية للغة الإشارة في موسم رمضان 2024    هل بها شبهة ربا؟.. الإفتاء توضح حكم شراء سيارة بالتقسيط من البنك    حملات لرفع الإشغالات وتكثيف صيانة المزروعات بالشروق    عاجل| مصر تكثف أعمال الإسقاط الجوي اليومي للمساعدات الإنسانية والإغاثية على غزة    الصحة توجه نصائح هامة لحماية المواطنين من الممارسات الغذائية الضارة    رئيس هيئة الدواء يشارك في اجتماع «الأطر التنظيمية بإفريقيا» بأمريكا    بايدن يتلقى رسالة من 86 نائبا أمريكيا بشأن غزة.. ماذا جاء فيها؟    «سببت إزعاج لبعض الناس».. توفيق عكاشة يكشف أسباب ابتعاده عن الإعلام    محمود بسيوني حكما لمباراة الأهلي والجونة في الدوري    عمرو وردة يفسخ تعاقده مع بانسيرايكوس اليوناني    تشكيل أرسنال المتوقع أمام بورنموث| تروسارد يقود الهجوم    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    إسماعيل يوسف: «كولر يستفز كهربا علشان يعمل مشكلة»    حفل ختام الانشطة بحضور قيادات التعليم ونقابة المعلمين في بني سويف    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أداجيو
نشر في أخبار الأدب يوم 08 - 11 - 2014

قصة حب كبيرة استثنائية في الفراق فيها من البهجة الكثير لكنها مثل »الأداجيوا« الحزين.. لحن الوداع.. ينتقل بها الكاتب الكبير إبراهيم عبدالحميد من عوالمه الأثيرة، المدن، والصحاري، إلي الروح الإنسانية في لحظات لا تتكرر.
في المساء خرج وذهب إلي محل سيراميك يعرفه في البيطاش. حدثه عن الماء الذي نشع من بين الباركيه وأنه يريد أن يرفع من مستوي الأرض. تواعد معه علي الغد يرسل له العمال بعد أن عرف مساحة الصالة وحدد النوع الذي يريد. قال لصاحب المحل إنه لا يريد الخشب الباركيه ويمكن لو ينفعه يبيعه لمصلحته ولا يريد تعويضا. حدد له الرجل مبلغا مبدأيا ثمنا للسيراميك وتركيبه فوافق علي الفور وأبدي استعداده أن يدفع أكثر. المهم أن يحضر العمال معهم ما يريدون من أسمنت ورمل وغير ذلك مما يستخدم في تركيب السيراميك. واعده أن يأتي إليه في العاشرة صباحا ليصحب العمال خلفه إلي الفيلا. كان قد وضع علي عينيه نظارة سوداء وأرخي عليهما طرف القبعة السوداء وأدار الكوفية حول عنقه ووجهه كأنه يحتمي من البرد. والحقيقة أنه لا يريد أن يعرفه أو يتعرف عليه أحد. حتي صديقه الصيدلي الذي لا يغلق صيدليته بالليل صيفاً ولا شتاء لن يذهب ليشتري منه ما يريد. لقد دخل صيدلية أخري. لم يكن ما يريده غير كميات كبيرة من الجلوكوز وكيس كبير من "الأولويز". ربما ذلك ما جعل الصيدلي يبتسم . وسط هذا الجو البارد والمطر الخفيف يظهر رجل ليشتري "أولويز". هو أيضا ابتسم. اشتري طعاماً ساخناً وأطعمة باردة كثيرة. الجبن بأنواعه والبيض وطماطم وخيار وجزر وغير ذلك من الأطعمة الخفيفة.
الآن بعد أن أعد العشاء جلس في الصالة السفلية واضعا قدميه علي البلاط الذي فرّقه فوق الماء وأمام السفرة ليتناول عشاءه. لكنه لم يأكل. صعد يلقي نظرة علي ريم رغم أنه لم يفارقها إلا نحو ساعتين.

أمام السرير وقف يفكر في شراء مرتبة خاصة مثل التي كانت في القاهرة حتي لا يصيب جسمها أي تقرحات. ذلك يحتاج منه مشواراً غداً في المساء بعد أن ينتهي العمال من تركيب إلي محطة الرمل، ليشتري ذلك من المحلات الطبية التي في شارع كلية الطب المؤدي إلي المستشفي الأميري. يعرفها هذه المحلات إذ سمع عنها من قبل.
رآها نائمة علي ظهرها بلا حركة مغمضة العينين وفي ذراعها "الكانيولا" المتصلة بكيس محلول الجلوكوز والدواء المسكن الممزوج به. لقد غير كيس البول المتصل بالقسطرة مرة بعد أن انصرفت الإسعاف بساعات. لن تحتاج مرة أخري الليلة حتي الصباح.
نظر إلي كل ما في الحجرة الكبيرة من أثاث أبدع في تصميمه وأبدع عماله في تنفيذه. يتوزع الصدف علي قوائم المقاعد وظهرها وقوائم السرير وظهره من الناحيتين وعلي قوائم التسريحة والدولاب وكل شيء في الغرفة. يراها وهي تندفع تحتضنه في كل مرة تري فيها ماحولها ولا تنقطع عادتها رغم مرور الزمن. عشرون عاما مرّت الآن علي زواجهما الذي كان يتجدد كل يوم.
لكنه ينظر إليها. الشعر الأسود الغزير في رأسها لم يعد موجوداً، لكن شعيرات متناثرة بدأت تظهر. ابتسم. هل كان ممكنا أن تري نفسها كذلك وترضي؟
بعد الاستئصال للورم في مستشفي جوستاف روسي Institute Gustave Roussy ظلت أسبوعا تبتسم وتتحرك علي مهل في بهو الفندق الصغير في باريس. ثم أخذهما صديق لهما إلي بيته الريفي في سانت مامي St mames بالقرب من غابات فونتان بلو fountain Bleau. بدأت بعد ذلك العلاج الكيماوي والذري معا. لم يكن يري في وجوه الأطباء راحة. لقد تم تحليل الورم وعرفوا أنه نوع يقاوم العلاج خاصة وقد توحش وسوف يعود.
لا داعي لأي علاج. أيام معدودات وتفارق الدنيا.
لكنه صمم أن يعالجها فقال الطبيب:
سنجرب عليها طريقة جديدة لكن لن يكون النجاح مضمونا.
ليكن.
قال ذلك في عزم.
عشرون يوما تردد معها علي المستشفي كل يومين مرة. العلاج الكيماوي والذري معا. رآها تقف يوما أمام المرآة تمسك بشعرها بأصابعها وتنزعه بهدوء فيسقط معها، ورأي دمعها يسقط معه.
ماذا تفعلين ياريم؟ ستكونين بخير والله.
أخذها في حضنه يمشي بها الي حديقة البيت وأجلسها علي المقعد الهزّاز وراح يهزها وهي لا تضحك. توقف لحظة فقالت:
أريد أن أعود. لا أريد العلاج.
إنه ورم حميد ياحبيبتي لكن كبر حجمه فقط بسبب خطأ التشخيص. العلاج الكيماوي والذري بسبب ذلك فقط.
لن أصدقك. حتي لو كان كذلك أريد أن أعود. لا تحملني جثة من هنا.
استطاع إقناعها باستمرار العلاج في مصر. أحضر لها عددا من أطباء الأورام الكبار في المنزل. كلهم تحدثوا بطريقة
واحدة . كلهم قالوا له ما قيل له في فرنسا. نقلها إلي معهد الأورام لتكون قريبا من العلاج الذي بلا طائل، لكنها لم تلبث بعد خمس جلسات أخري أن دخلت في الغيبوبة التي لم تفق منها بعد.
يقف الآن أمامها متأملا عينيها المغمضتين. حواجبها التي سقطت ورموشها التي لاتزال طويلة مدهشة. وجهها الشاحب وشفتيها المزمومتين.ريم. ريم. لا ترد. لو تسمعني مرة.

انتبه الي خيط من الدم يسري أسفلها ويظهر من جلبابها بين فخذيها. "حبيبتي. آسف. انشغلت عنك " وبسرعة أحضر "الأولويز" والبامبرز الكبير الذي كان من بين ما أحضره معه من القاهرة. رفع جلبابها فبان له فخذاها رفيعين يترهل لحمهما علي العظم. هز رأسه في ألم. بهدوء نزع عنها البامبرز الكبير وراح يمسح الدم من فوق فخذيها وبينهما. أمسك بكيس "الأولويز" وأخرج واحدة راح يفردها ليضعها مكانها لتمتص دم الدورة.ابتسم. فعل ذلك أول مرة في القاهرة وكانت شبه واعية حين غابت الممرضة عن البيت يومين. كان يضع الأولويز مقلوبا وهي تبتسم
وتشير اليه بإصبعها في دائرة ولا يفهم وهي تزداد ابتساما حتي فهم أن يقلبه حتي تكون أطرافه الصمغية الي الداخل فتلصق باللحم. فعل ذلك أكثر من مرة بعد ذلك وسيفعله الآن لخمسة او ستة أيام هنا وحده حتي تنتهي الدورة الشهرية. لقد عرف الطريقة ويبتسم الآن. هذه هي الحياة نفسها التي تتسرب منك حبيبتي فكيف يقولون إنك مريضة؟ يفعل ذلك بنجاح. ثم يحيطها بالبامبرز الكبير ويأخذ ماتم استخدامه من قبل وينزل
يضعه في سلة قمامة أمام باب الفيللا. ما إن فتح الباب حتي لفحت وجهه موجة برد شديدة. دخل مستنجدا بالتكييف. أخذ حماماً وقرر الصعود لينام قريباً منها علي السرير الثاني الصغير. يجب ألا يبتعد عنها. لن تحتاج شيئا الليلة ولكن من يدري قد تفتح فمها وتناديه فيسمع صوتها الذي أوحشه غيابه كثيرا. سامر. سامر. سامر. كان هو الذي يردد الاسم لنفسه!

كان النهار كافيا لتركيب السيراميك في الصالة المتسعة. ستة عمال انتهوا مع الساعة الرابعة رغم كثافة ما هو مطلوب من عمل. هذه المياه الجوفية التي تنشع من تحت الباركيه لابد لها من طبقة من المازوت فوقها ردم من الرمال ثم فوقه يكون السيراميك. هذا يعني ارتفاع الأرض لعشرين سنتيمترا.علي هذا النحو ستختفي أول درجة للسلم الداخلي الصغير الذي يصعد إلي أعلي حيث غرفة النوم الكبيرة والحمام الكبير وغرفتان.
كان يسمع من العمال ويندهش من نفسه هو الذي يعرف رجال أعمال في البناء ومهندسين كيف لا يستعين بهم. لقد أراد ألا يعرف أحد أنه هنا. وانتبه إلي أن ذلك سهل جدا فليس لديه في القاهرة غير الشقة الكبيرة في الزمالك، وليس لديه في الإسكندرية غير هذه الفيللا، ولن يذهب بها الي الفيللا الأخري بالعين السخنة. لكن أهل زوجته يعرفون ذلك فهل سيبحثون عنها؟ لن يجدوه في القاهرة ويعرفون الطريق إلي العين السخنة والإسكندرية وسيجدونهما. لقد أخبرهم بسفره إلي أوربا وأنه وجد طريقة لعلاج زوجته. كان واضحا أنهم لا يصدقونه لكنهم بدوا مصدقين حتي يرتاحوا من الأمر كله.إذن لن يبحثوا عنها. أخواتها البنات الثلاث وأخوها الوحيد كلهم متزوجون ولديهم أبناؤهم وأعمالهم وقلّت زياراتهم لها يوما بعد يوم . لابد أنهم تمنوا أن ينتهي الأمر مادام سينتهي! لقد رأي ذلك في عيونهم. مدير أعماله الذي هو في الوقت نفسه مدير مصنعه للأثاث ومدير مبيعاته يعرف ولن يخبر أحدا بمكانه كما طلب منه. لن يسأل إلا نور. لكن نور سافرت تكمل دراستها في ألمانيا بعد أن انقطعت عنها شهرا أمضته مع أمها.
يجب ألا يضيع مستقبلك. سافري مطمئنة، إنك ستعودين تجدينها قد تعافت.
خرجت نور باكية حتي السيارة التي حملها فيها إلي المطار. حاول طوال الطريق أن يبهجها بالأحاديث الضاحكة حتي ضحكت. استطاع أن يدخل معها إلي صالة السفر بمعارفه في المطار وودعها علي سلم الطائرة. ستكون معه علي تواصل بالتليفون والإيميل.
ما أن التفت يعود حتي طفرت من عينه دمعة. كان قد أخذ قراره الذي فعله أمس. أن يجلس معها حتي تفارقه وحده دون البشر أجمعين. لم تحب أبدا أن يراها أحد في مرضها. كلما زارهم أحد وهي في شيء من الوعي كانت تعود إلي الغيبوبة بعد خروجه كأنها تتحسر علي حالها الذي لم تكن تحب أن يراها عليه أحد . يعرف أن ريم الفنانة الجميلة التي تروح روحها مع الموسيقي ويفني جسدها في الملكوت ليست ضعيفة. لا تحب أن يراها أحد ضعيفة إلا هو. كان ضعفها لعشرين سنة لأنها تحبه وترتمي في حضنه كل يوم كطفل وجد أباه بعد طول غياب. كانت تشرف علي كل شيء في البيت. تجعل له البيت جنة مختلفة كل يوم. هو يصنع الأثاث ويتاجر في التحف وهي تشتري لوحات الفنانين المصريين من مصر والعالميين حين تسافر إلي أوربا. لم تسافر مرة إلا وعادت بلوحة أصلية لفنان جديد او صور فائقة النتيجة للوحات قديمة لمشاهير الفنانين. رينوار وفان جوخ وبيكاسو وشاجال وغيرهم ممن تمنت لو استطاعت يوماً أن تشتري لوحاتهم جميعا. لكنها وسامر اشتريا لوحات كثيرة لفنانين مصريين أيضا بالإضافة الي صور للموسيقيين الذين تعشقهم ويعشقهم معها سامر. كل ما كانت تحصل عليه كان يتحول إلي فن علي الحائط. أعظم ما لديهم من كتب هي عن الفن التشكيلي. كتب جديدة وقديمة تشتريها من مكتبات باريس ومن السان ميشيل حيث الكتب القديمة متوافرة ومن كل أسواق الكتب بأوربا. كان يعرف أن غادة زميلتها وصديقتها التي حلت محلها أخيراً تبادله إعجاباً صامتاً. لم يفتح لها الطريق أبدا. كان يعرف أن ريم تعرف أنه لن يفعل ذلك وترتمي في حضنه ضاحكة ويتقلبان فوق السرير كالأطفال ضاحكين ثم يذوبان في البهجة العارمة. "لا تعاملها بسوء. دعها تعيش في الوهم. دعها يكون لها قصة وحكاية. لا تحرمها من الخيال ". تقول له ريم وتضحك. إلي هذا الحد أنت علي ثقة؟ يسألها فاتحاً عينيه بإعجاب، فتقول له ضاحكة أيضا "أنا البيانيست الأشهر في مصر. كل مفاتيحك أحركها بلمسة من
أصابعي. أعرف أن نصف حياتك مع التحف وكل حياتك معي! روحي معك حين تنغمس في عملك، وروحك معي وحدي حين تترك العمل ونكون معا ".
كم مرة زارته غادة في المنزل في غياب ريم في أوربا قبل أن يداهمها المرض. مرات كثيرة ما لبثت أن تباعدت. لابد أنها يئست.
سأعزف لك شيئا يذكرك بريم.
تقول غادة ثم تجلس إلي البيانو:
ماذا تحب أن تسمع؟
ما تشاءين.
ماذا تعزف لك ريم؟
نسيت.
يقول ويضحك. تبتسم هي. تتصور أن الباب ينفتح. تعزف له إحدي سوناتات موزار المبهجة تنتهي فيقول لها:
كان يمكن ياريم أن تعزفي أحسن اليوم.
تنظر إليه بدهشة. لقد أخطا في اسمها. ربما تتصور أنه يقصد ذلك لكنه في الحقيقة لا يقصد. تتجهم للحظات فينتبه ثم تشعر بما يدفعها للانصراف فتنصرف. هنا فقط يقول لها:
شكرا يا غادة أسعدتني. سأحدث ريم عن حضورك.
تخرج ويندهش كيف يختفي عطرها الذي كان يملأ الصالة حولهما بعد انصرافها. كيف لا يبقي شيء منه. ملائكة الله يحرسون حبه لريم.

بعد أن انصرف عمال تركيب السيراميك قرر الذهاب إلي محطة الرمل دون سيارته.
كان قد التحق بهم عاملا نجارة اتفق مع صاحب محل السيراميك أن يجدهما ويرسلهما إليه. أعادا الأثاث إلي مكانه. المقاعد والسفرة والبيانو التي أخرجها عمال السيراميك تحت إشرافهما إلي الحديقة ووقف يتنفس مرتاحا يسأل نفسه هل سمعت ريم شئياً من ضجة العمال اليوم؟
كان يصعد بين حين وآخر يطل عليها فلا يجد أي أثر للضجيج. تمني لو رآها تبتسم. لابد أنها تدرك أنه يفعل أشياء جميلة من أجلها. لو تفيق من الغيبوبة دقائق أو ثواني وتطلب منه شيئا. أي شيء. لكنه يتجهم. لايريد أن تفعل ذلك. يعرف ماذا ستطلب. أن
يتركها تموت في أقرب وقت. لم تعد بها طاقة للدنيا. هي راضية بالسفر إلي هناك. العالم الآخر الذي لم يعد منه أحد يخبرنا ماذا يحدث فيه لكننا نحبه ونرجو فيه النعيم!
مشي علي قدميه مع بداية المساء بين الفيلل المهجورة بعد انصراف العمال حتي وصل إلي الشارع الرئيسي في الهانوفيل. مشي عكس طريق حضوره أمس. بدا له الشارع الرئيسي للهانوفيل أكثر قذارة من شارع البيطاش. حركة قليلة من الناس تدخل أزقة في الناحية المقابلة له. عمارات متجاورة عالية تبدو له من الأزقة. لابد أنها تمتد معها. لابد أن الحياة هنا أكثر صعوبة منها في البيطاش. عمارات كثيرة تحاصر كل شيء وناس قليلون. ربما لأنه المساء. ربما لأنهم أيضا هجروا مساكنهم بسبب نشع المياه. الأصوب أن الهانوفيل من زمان جاذب لسكان الأحياء الشعبية بينما البيطاش كان دائما لصفوة المجتمع. طبيعي أن تكون العشوائية في الهانوفيل أكثر رغم أنها أصابت البيطاش. لم يشأ أن يشغل نفسه فأشار إلي تاكسي استقله. كان حريصا أن يكون فوق التاكسي شبكة معدنية ليضع فوقها المرتبة التي سيشتريها. خرج به التاكسي متجها إلي الشارع الرئيسي القادم من الغرب. شارع الإسكندرية ذ مطروح. رأي الزحام حوله يزداد. ماكاد يصل إليه حتي رأي الزحام يشتد أكثر في الطريق وأمام المحلات. عشرات من الميكروباصات الكبيرة والصغيرة تقف في نهر الطريق. رجال ونساء وأطفال وشباب وفتيات. منتقبات كثيرات يظهرن من بين الناس. محجبات أكثر. بنات قليلات يمكن عدهن علي الأصابع مكشوفات الرأس. ملابس قديمة فوق أكثر الرجال. يبدون بها عمالا أو صنايعية. أصوات تنادي من سائقي الميكروباصات. المنشية المنشية. محطة مصر محطة مصر. التاكسي يمشي علي مهل في الشارع الذي يضيق بالمركبات وبالمياه المركونة علي جانبيه. من المطر أم من البلاعات؟ ليس مهما أن يعرف. عادة يأتي إلي هنا مع ريم ومعه سائقه. منذ سنوات لم يأت. هذه المياه الغادرة التي انفجرت من باطن الأرض في العجمي فهجر أصحاب الفيلل فيللهم إلي الساحل الشمالي أو مرسي مطروح أو مثله لم يعودوا يقضون الصيف في الإسكندرية. لكن أدهشه أن المياه المنفجرة تحت البيوت وحولها لم تجد من يجففها. لا تجد من يقيم مشروعا للصرف الصحي في العجمي الذي ازدادت فيه العمارات فتسببت في ذلك.
لقد فكرت ريم أكثر من مرة في بيع الفيللا لكنه كان يرفض. هو رجل أعمال من الصعب أن يترك مافي يده بسرعة. ثم إنه يستطيع أن يقضي الصيف في أي مكان آخر في الدنيا. لم يكن هناك صيف كالصيف إلا مرة واحدة. في الثانية كان هناك صيف صامت كليل الشتاء مهدد بنوبة الصرع. في الثالثة كان هناك صيف صامت من بكاء الروح لاعتلال الجسد. سينشغل بالحديث مع السائق أفضل من أن يري شيئا. هنا أو في مدخل االبيطاش حين يعود.

لم يتحدث مع السائق ولا السائق تحدث معه. بعد نصف ساعة كان التاكسي قد وصل إلي أول البيطاش رغم قصر المسافة . هذا وقت ضاع بين الزحام وماكان يجب أن يضيع. لايريد أن يتأخر عليها. بعد البيطاش انطلق التاكسي مسرعا. علي يمينه المباني السوداء لمصنع الحديد الكبير الممتد تقريبا طوال الطريق إلي حي "الدخيلة". عاد الزحام عند "الدخيلة" لكنه كان يعرف أنه لابد أن ينتهي. بعد نصف ساعة أخري كان قد وصل إلي محطة الرمل. اشتري بسرعة المرتبة الطبية ووضعها السائق فوق التاكسي. اشتري أيضاً كمية كبيرة من "البامبرز" الكبير. لكن السائق يقول الآن:
ربنا معك يا أستاذ.
ابتسم ابتسامة صغيرة ولم يرد فقال السائق:
اسمح لي يعني يا أستاذ. حضرتك باين عليك إنسان محترم. ألم يكن هناك من يشتري لك ما تريد؟
ابتسم من جديد ثم قال:
يوجد طبعا. لكن.
لم يكمل فقال السائق:
هذه المرتبة غالية جدا. أعرفها. اشتريتها منذ ستة أشهر بألفي جنيه. لكن...
وسكت قليلا ثم هز رأسه وقال:
الحمد لله علي كل شيء.
انتبه إلي ما يقول السائق. اتسعت عيناه في دهشة. رآه كأنما لم يره منذ ركب معه. أسمر عيناه خضراوان في حوالي الخمسين من العمر. فتح السائق راديو السيارة فجاء صوت فايزة أحمد تغني "حمّال الأسية ياقلبي" أغلق السائق الراديو علي الفور قائلاً بهدوء وهو يبتسم ساخراً:
تاني!؟
ارتبك سامر لكن السائق قال:
قبل أن تركب حضرتك معي فتحت الراديو فغنت فايزة أحمد أيضا "حمّال الأسية ". فايزة أحمد قسمتي ونصيبي
يا أستاذ.
لم يرد. لم يعرف ماذا يمكن أن يقول فقال السائق:
لن تصدقني لكن هذا ماحدث. منذ توفيت زوجتي بالمرض اللعين بعيد عنك كلما فتحت الراديو أجد فايزة أحمد. مرّة "حمال الأسية "ومرة "يا لولي ياغالي "ومرة "ياتمرحنة ليه شاردة عنا". ستقتلني يا أستاذ. كلما غيرت المحطة أجد فايزة أحمد أيضا. الأمر لله.
دخل في صمت أكثر. لكن السائق ضحك وقال:
اشتريت شرائط تسجيل. قلت بلاها راديو. طلبت أغاني شادية. شادية دمها خفيف. روحت البيت وفتحت الكيس لاقيتها شرايط فايزة أيضا. البائع غلط. تصور. ربنا كاتبها لي والله.
هذه المرة لم يستطع سامر أن يمنع نفسه عن الضحك، لكنه سيطر علي ضحكته لتكون ابتسامة مكتومة. ثم شعر بشيء من الارتباك. هل مايقوله السائق إنذار بما سيأتي؟ قال :
هكذا الدنيا للأسف.
لكن السائق سأله:
هل المرتبة لشخص يهمك يا أستاذ؟
تقريبا.
قال ذلك حتي لا تتوالي أسئلة السائق رغم أنه شعر بالتعاطف معه ورق قلبه له. لا يريد أن يفتح باب الحزن في الطرقات. لن يفيده أحد. كل شيء يمضي في الحياة ولا يتوقف عند ما يتوقف عنده. هو أو غيره. يدرك ذلك. الحقيقة يفعل ماكانت تفعله ريم. لم تخبر أحدا بمرضها ولم تحب أن يزورها أحد.
كان يعرف أن السائق حين يدخل به إلي المناطق الخالية بين البيطاش والهانوفيل سيعود للأسئلة. قرر ألا يلتفت اليه. يدفع له أجرته في صمت. لكن السائق لم يفعل ذلك. ظل صامتا طوال الطريق. وحين مشي به بين العمارات المهجورة وعلي الأرض التي يعلوها الماء ويتجلط الطين علي أطرافها لم يعلّق. بدا له معتادا علي المكان حتي كاد يسأله هو لماذا لايثير الطريق انتباهه؟ لكن السائق فجأة قال:
هناك شيء لم أجد له تفسيرا عند أحد حتي الآن.
سامحني سأقوله لحضرتك.
نظر إليه سامر فقال السائق:
أنا أسكن في حي الورديان. منطقة شعبية زحمة جدا خالية من أي أشجار. قبل أن تودع زوجتي الدنيا بأيام رأيت فراشة كل مساء. بالضبط مع مغيب الشمس. لا أعرف من أين تأتي. فراشة تطير فوق رأس زوجتي وهي فوق السرير وتدور حوله. أي والله. وزوجتي الله يرحمها تنظر إليها وتبتسم سعيدة. ثم تختفي الفراشة لتظهر في اليوم الثاني في الموعد نفسه.
ثم سكت السائق لحظات وظهر عليه التأثر فقال سامر:
أكمل.
ونحن ننقل الجثة في النعش إلي سيارة نقل الموتي رأيت الفراشة أيضا تسير وراء العربة. مسافة قليلة ثم اختفت.
وسكت السائق من جديد وسامر في دهشة وحيرة ثم قال السائق:
سألت الشيوخ. كلهم ضحكوا من الحكاية ماعدا واحداً قال إنها لم تكن فراشة لكن ملاك من السماء جاء يأخذ زوجتي الطيبة. صدقته لأريح نفسي من السؤال لكن لازلت محتارا.
لم يجد سامر مايقوله. أحس بشيء من الإشفاق من
أجل السائق ثم أدرك أنه في المحنة نفسها وتعجب من حظه اليوم. ازداد سكوته.
نزل السائق ليحمل المرتبة فأشار له أن يضعها في صالة الدور الأرضي فوق منضدة السفرة . حملها السائق ودخل بها وحمل هو الكيس الذي به البامبرز كبير الحجم . عاد السائق يقف جوار التاكسي ينظر إلي سحب سودا ثقيلة في الفضاء. عاد إليه سامر وناوله أجرته قائلاً:
الدنيا ستمطر. الأفضل أن تعود بسرعة إلي البيت. او تخرج بسرعة من هذا الخلاء.
نظر إليه السائق في دهشة وقال :
الزوجة الطيبة سقف البيت يا أستاذ. أنا عندي خمسون سنة وأعيش الآن في بيت من غير سقف. لذلك لا أخاف المطر. هو فوقي في الشارع أو في البيت . لكن أعرف أنها إرادة ربنا وأحس بالرضا. سلام عليكم.
وأشار إليه بيده يحييه ويمضي بالتاكسي علي مهل. لم يستطع سامر أن يتحرك إلا بعد لحظات تابع فيها التاكسي ذاهلاً حتي اختفي. شعر بنقط خفيفة من الماء تسقط من السماء وسط الظلام ثم سري ضوء كبير تحتها بسرعة فائقة وتتالي صوت الرعد فدخل مسرعا إلي الفيللا والماء ينهمر خلفه بقوة يملأ الأرض.

تهاوي جالسا علي أقرب مقعد بعد أن أغلق الباب. شعر بالارتياح كأنه عائد من معركة. أشعل سيجارة وراح ينفثها في هدوء. انتهي من تدخين السيجارة ثم نهض حاملا المرتبة الطبية وصعد بها السلم الذي لاحظ أنه صار أقل ارتفاعا بعد أن ارتفعت الأرض رغم أنها درجة واحدة هي التي اختفت. في غرفة نومهما دخل بالمرتبة. ركنها علي الحائط. نزل إلي أسفل من جديد وعاد بكيس البامبرز.
عليه الآن أن ينزع السرنجة من الكانيولا التي بذراعها ويبعد حامل المحلول عن السرير وكذلك يفصل كيس البول المتصل بالقسطرة، ثم ينقلها إلي السرير الآخر الصغير ثم ينقل المرتبة الأصلية خارج الغرفة بعد أن يضع الطبية مكانها. لكنه فكر أن يضع المرتبة الطبية فوق القديمة لتعلو ريم كثيرا فوق السرير. لترتفع ريم دائما!
بسهولة حمل ريم ووضعها علي السرير الآخر في الغرفة الواسعة. نقل أيضا كل الصور التي نثرها حولها أمس إلي السرير الآخر. وضع المرتبة الطبية فوق القديمة وأعاد عليها ريم. صارت خفيفة كريشة. لا لحم يشعر به فوق ذراعيه. أعاد حامل المحلول والسرنجة بعد أن علّق زجاجة محلول الجلوكوز من جديدة. وأعاد كيس البول المثبت في طرف السرير إلي وصلة القسطرة. نثر الصور حولها من جديد. تراجع جالسا علي مقعد ينظر إليها. نهض علي مهل وتقدم غير مصدق. إنها تبتسم.
ريم.
همس. ردد اسمها مرتين. عادت شفتاها إلي انكماشهما وصارتا مزمومتين. لماذا لا تفتح عينيها مع الابتسامة؟ لقد فعلت ذلك من قبل أكثر من مرة. هذه المرة لم تفتحهما. مد يده وباعد بإصبعه بين حاجبي إحدي العينين. كم هي جميلة عيناك يا ريم. سواد العين في مكانه وبياضها. لم يتسلل أحدهما الي الآخر. لم يذبل أحدهما. وكان قد ترك الحاجبين إذ رأي شيئاً قريباً من الماء أو الدمع يسري في العين وداخلها. وأحس بحركة إحدي قدميها. إنها تشعر بما يفعل. انحني يقبلها علي جبينها ثم علي شفتيها اللتين لم تنفتحا. صارتا خشنتي السطح. أجل خشنتي السطح. ذبلتا ياريم. بللهما بلسانه بهدوء. وانحني يقبل صدرها. وضع رأسه عليه. في مثل هذه الأجواء الشتوية كان صدرها ملاذاً رغم التكييف في الحجرة ورغم السرير الوثير الفراش. تحرك إلي قدميها ولثم كلاً منهما. سحب فوقها الغطاء ووقف. يحتاج الهدوء الآن. يدخل الحمام يستحم ويبدأ العشاء. أي طعام خفيف مما اشتري أمس سيأكله ويعزف الموسيقي.
كان الماء ينسكب عليه ساخنا من "الدش" وهو يري نفسه يعزف علي البيانو. يتقدم في العزف وتتالي اللمسات من أصابعه فتتناثر الألحان التي كانت تعزفها له ريم ورودا تطير حوله وفوقه وتصطدم برفق في الجدران وتواصل طيرانها. لم يتوقف العزف وهو ينتهي وينشف جسمه ويشعر بالارتياح
فيسمع الأنغام تملأ الفضاء وتتحرك حوله حتي إنه كان يتحرك يوسع لها طريق الدوران. لم يعد يعرف متي انتهي من الاستحمام ومتي ارتدي بيجامته الشتوية وفوقها الروب دي شامبر وكيف جاء مرتديا الشبشب الي البيانو وجلس أمامه وراح يعزف بهدوء مكملا ما عزفه في الخيال. لم يشعر بجوع فقد رأي بقايا الطعام علي السفرة لم يحملها. إذا لقد تناول عشاءه وسط العزف!
في الخارج كان صوت المطر لا ينقطع وصوت الرعد وبينما البرق لايجد له مكانا للنفاذ فلا نافذة للصالة الكبيرة ونوافذ الغرفتين الخلفيتين علي الحديقة مغلقة. سينفذ البرق الي ريم في الغرفة العلوية رغم إغلاق نافذتها إن لم تكن تسمع صوت الرعد، ولابد أنها تركت السرير الآن وتحركت الي النافذة كما كانت تحب ان تفعل دائما حين يكون هناك شتاء في أوربا وتقف خلف النافذة وتزيح الستارة التي لا تحجب شيئا وتسمع صوت المطر، وفي لحظات طيش جميلة تفتح النافذة الكبيرة فيغلقها هو بسرعة.
في الخارج عاصفة ياريم وليس مطرا فقط؟
قال لها ذلك كثيرا. في بوردو علي المحيط الاطلنطي وفي لاروشيل علي المحيط الاطلنطي أيضا وفي نابولي علي البحر المتوسط وفي موسكو علي نهر موسكوفا
وعلي الجليد في جبال الألب في إيطاليا والنمسا وسويسرا وحول البحيرات بين الجبال. وهي دائما تفتح النافذة وتقول له:
أحب الهواء وهو يصطدم بصدري.
وتضحك. هي تعرف أن ذلك قد يؤدي إلي نزلة شعبية شديدة، ومن ثم تفتح النافذة لعدة ثوان لا أكثر، ولو لم يجذبها هو إلي الداخل ويغلق النافذة لفعلت ذلك هي، لكنها أيضا أحبت أن يفعل ذلك في كل مرة. لا ينسي يوم أن سافرا إلي لاروشيل لأول مرة منذ عشر سنوات بعد أن أحيت حفلا في أوبرا باريس. كان الشهر أغسطس بداية الإجازة للفرنسيين وللأوربيين عموما. كانت مندهشة من رغبته في السفر إلي لاروشيل التي لم تسمع عنها من قبل. حكي لها ضاحكا:
تعرفت علي تاجر فرنسي جاء إلي مصر. زار الغرفة التجارية يسأل عن مصانع الأثاث الشرقي. زارمصنعي وأعجبته أفكاري في صناعة الأثاث. نحن نصنع الأثاث الفرنسي هنا ونصنع الأثاث العربي أيضا. أعجبه الأثاث العربي. قال لي إنه في فرنسا يمكن أن أجد سوقا لما أصنعه من تحف خشبية. سوقا عند الفرنسيين وعند الأغنياء من العرب أيضا. اتفقنا أن يكون وكيلا لي في فرنسا. لا أصدّر له الكثير فإنتاجنا قليل ودقيق لكنه صار وكيلي ومن ثم أحب أن أزوره.
رأت لاروشيل مدينة صغيرة علي المحيط. مقاه ومطاعم عادية تحمل اسماء جميلة أكثرها أسماء روايات وأسماء كتاب وفنانين. أوندين وجارجانتوا والزورق السكران Le Bateau Ivre. وأمام المطاعم والكافتيريات تقف في الصباح الباكرالسيارات النقل الكبيرة حاملة فواكه البحر للمطاعم التي تقدمها طازجة للرواد. بل وتطهوها علي مواقد بين الرواد علي المناضد الكبيرة يغرفون منها جوار الأطعمة الأخري. رأت فرقا غنائية مثيرة في الطريق الوحيد الواسع حول الميناء الذي تحتشد فوقه القوارب واليخوت الخاصة.البنات وجوههن حمراء وشعرهن أصفر وفساتينهن بيضاء ويعزفن علي الجيتار والاوكورديون والكمان.. جمهور الزائرين للميدان عشاق شواطئها يتحلقون حول الشباب الذي يغني. أو يقفون حول الرسامين الشباب الذين يرسمون بورتريهات لهم. كانت تسعد بالفرق الغنائية كثيرا. ومعها سامر وصديقه "ميشيل بوتور" صاحب الاسم الذي لا يجهله أحد في فرنسا رغم أنه ليس الكاتب ميشيل بوتور! كانت تقف باسمة في سعادة وإليها
تتجه عيون بعض العازفات. كان يعرف أن لغة مشتركة في العيون تعرفها العازفة الشابة الفرنسية وتعرفها هي ريم. فكانت العازفة الشابة تنفعل في العزف ليظهر الرضا والسرور علي وجه ريم. لابد أدركت العازفة أن ريم عازفة أيضا. كل مرة يحدث ذلك رغم اختلاف فرق الغناء.
ذات مرة. يوم أحد تمنع فيه المحافظة حركة السيارات التي تعمل بالبنزين. يوم صديق للبيئة لا تتحرك فيه إلا الدراجات. في ذلك اليوم كانت الفرقة معها بيانو تعزف عليه فتاة جميلة. تحركت ريم بهدوء حتي وصلت إليها ووقفت خلفها والفتاة مندمجة في العزف. ما كادت تنتهي حتي ارتفع التصفيق وبينما تدور إحدي الفتيات بالصندوق الصغير يضع فيه الواقفون ما يجودون به من مال سألت ريم العازفة هل يمكن أن تعزف مكانها قليلا. اندهشت العازفة الشابة البيضاء التي يشتعل وجهها بالحمرة. كانت في يد ريم وردة قدمتها إليها. قالت لها إنها العازفة الأولي في الأوبرا المصرية. ابتهجت الفتاة وأوسعت لها فجلست ريم وراحت تعزف بهدوء جعل الجميع يتجمدون في أماكنهم وتزداد دهشتهم ثم اختارت تعزف أحد فالسات فريدريك شوبان السريعة الراقصة فراح الجميع يرقصون وأشارت لسامر أن يرقص مع أي فتاة ففعل ذلك بينما رقص ميشيل مع زوجته. بين الواقفين كانت الهمسات عن العازفة المصرية العظيمة. بينهم تترد كلمة ايجيبسيين egyptienne . انتهي العزف وتوقف الرقص وارتفع التصفيق من كل مكان. فيفا إيجبت. راحت الفتيات يقبلنها في سرور فائق وكذلك فعل شباب العازفين واحتضنها شاب ارتفع بها إلي أعلي صارخا ""les peramides. توالي التصفيق وسامر مبتسم سعيد. طلبوا منها أن تعاود العزف ففعلت حتي انسحب آخر ضوء من النهار. التقطوا معها كثيرا من الصور بالكاميرات التي يحملونها. ثم غادرت المكان مع
سامر وميشيل وزوجته بين تصفيق الجميع الذين فجأة صنعوا طابورين تمر بينهما والتصفيق حولها. تلك الليلة ضحكوا كثيرا في بار الجينيت Guignette La الذي كان بارا للصيادين في العصور القديمة. كان الجالسون كلهم حولهم من الشباب والفتيات الصغيرات. بعضهم سبق ورأوها تعزف. أحدهم وقف يقول بالفرنسية هذه السيدة المصرية قدمت أجمل الألحان لنا اليوم ومن ثم سأعزمها مثل رجال الشرق علي كل ما تشربه مع أصحابها. في اليوم التالي اكتشفت أن المدينة كلها عرفتها. كان بين الواقفين صحفي أرسل صورتها الي جريدة Sud Ouest) ). جريدة إقليمية لكنها عظيمة التوزيع وربما تكون الثالثة في التوزيع في فرنسا. هكذا كلما دخلت محلا تشتري شيئا يتعرفون عليها. آيس كريم أو خبز أو ثياب أو جلست في مقهي. في الصباح بعد يومين ولم يكن بقي لهما في لاروشيل إلا يوم واحد جلست مع سامر في مقهي " علي الرصيف "sur la qauie يشربان القهوة فإذا بصوت عبد الحليم حافظ ينطلق من خلف الشاب الذي يعد الطلبات أمام الماكينة الخاصة بذلك.استدار لهما وابتسم.سأله سامر:
عربي؟
لا. فرنسي. رأيت صورة مدام ريم في الصحيفة وسمعت عن عزفها فتمنيت أن تزور مقهانا. سألت صديقاً عربياً عن شيء أفعله إذا جاءت فاقترح علي أن أقدم لها أغنية عربية. أرشدني إلي هذا المطرب. هاليم!
ضحكا. أمضيا وقتا جميلا حتي جاءهما ميشيل وصحبهما الي بيته في المزرعة قريبا من لا روشيل. أمضيا هناك يومين ثم عادا الي باريس ومنها إلي القاهرة بعد أن باتا يوماً واحداً في فندق "راسباي "بحي راسباي.
كان الوقت صيفا ومن ثم لم تفتح ريم النافذة لتستقبل المطر. لكن في زيارة شتوية في العام التالي عام 1999. لا ينسي تلك الليلة. بعد أن عزفت في أوبرا باريس التي كانت ضيفة كثيرا عليها اعتذرا عن العشاء المجهز لهما مع الفرقة الفرنسية. يعرف سامر أنها تريد أن تمشي في الفراغ وبين أضواء المحلات المغلفة. مشيا كثيراً يضحكان في الأزقة حول شارع السان جيرمان حتي كاد الليل ينتصف . قالت له أريد كالعادة ألا نذهب إلي مطعم بعينه. نمشي حتي إذا تعبنا دخلنا مطعما واحنا وحظنا! دائماً كانت ريم تحب ان تكسر كل القواعد. دخلا مطعماً وحيداً في زقاق صغير وصعدا دوره الثاني. كان مطعماً يونانياً كما بدا من اللغة المكتوبة أعلاه عند الدخول. يتذكر الآن تلك الليلة ويهز رأسه ويتوقف عن العزف وصوت المطر لا ينقطع في الخارج. كان مغنياً متقدماً في العمر لكنه مهيب الشكل بشعره الأبيض المسترسل خلف رأسه وذقنه البيضاء الكثيفة وصدر الظاهر تحت قميصه المفتوح من أعلي. عرفته ريم علي الفور. إنه اليوناني جورج موستاكي ابن الاسكندرية التي رحل عنها مع من رحلوا من الأجانب، لكنه رحل مبكراً إلي فرنسا لعشقه للغناء الفرنسي، يقف يغني ويعزف علي الجيتار. عرفها بدوره. اعتذر جورج موستاكي للحضور الذين كان معظمهم يونانيين بما بدا من سحناتهم وتوقف عن الغناء ثم تقدم إليها يصافحها ويقبل يدها.
لابد أن تشاركيني الغناء الليلة.
ضحكت.
أنا لا أغني. أنا عازفة بيانو كما تعرف لكن أستطيع العزف علي الجيتار.
لا لابد أن تغني معي. "يامصطفي يامصطفي أنا باحبك يامصطفي ".
ضحكت. إنها الأغنية التي اشتهرت في مصر في الستينات وغناها المطرب المصري بوب عزام ولحنها محمد فوزي، ثم منعتها الدولة ولا يعرف أحد السبب. قيل لأنهم اعتبروا مصطفي الذي تذكره الأغنية هو مصطفي النحاس باشا زعيم حزب الوفد وقيل إن جملة بسبع سنين في العطارين وانا باحبك يامصطفي إشارة إلي مرور سبع سنوات علي قيام ثورة يوليو وإلغاء الأحزاب وإبعادها عن الحكم بما فيها حزب الوفد وزعيمه مصطفي النحاس . لكن الدولة مالبثت أن سمحت بالأغنية التي اشتهرت في العالم كله وغناها مطربون انجليز وفرنسيون وأتراك وغيرهم. بوب عزام مصري قيل إنه يهودي الأصل وقيل إنه لبناني الأصل. لكن لم يعرف أحد عنه غير أنه مصري ترك مصر بعد ذلك إلي سويسرا وافتتح ملهي ليلياً ومرت السنين ويقول جورج موستاكي لها إن بوب عزام الآن يعيش في موناكو بفرنسا.
قدم موستاكي ريم إلي الجالسين بالمطعم فهو يعرف عنها كل شيء رغم أنه لم يلتق بها من قبل. غنت معه وغني معهما بعض اليونانيين من النساء والرجال. راح سامر يغني معهما أيضا. لاحظ من بين النساء امرأة عجوزاً تنزل دمعة من عينها، وتجفف الدمعة لتنزل أخري. انتهي الغناء وجلس جورج موستاكي معهما علي المائدة. سأله سامر هل يعرف السيدة التي كانت تبكي بهدوء. قال له من لا يعرفها. ولدت في الإسكندرية وعاشت بها حتي سن الثلاثين ثم هاجرت منها في الستينات. نظر إليها سامر مشفقا. وجد نفسه ينهض يتجه إليها يصافحها ويقبل يدها. قامت وجاءت معه إلي منضدتهما.
إلي هذا الحد سيدتي تحبين مصر؟
من لا يحب مصر. أنا من الأزاريطة. من شارع شامبليون في إسكندرية. كان لدينا فرن يصنع الخبز الأوربي. فرن صغير وحلواني لم يتركوه لنا. تم تأميمه. تركت العائلة الإسكندرية وأنا معها طبعا. من يومها لم أعد إلي مصر.
لماذا لاتزورين الإسكندرية؟
كيف أزورها. كيف أمر علي الفرن والحلواني الخاص بنا. بماذا سأشعر لو وجدت غيرنا يقف فيه. وربما لا أجده. خسارة.
معك حق.
قال سامر ذلك، فقالت:
اتفق اليونانيون مع عبدالناصر ألا يؤمم ممتلكاتهم لكنه لم يف بالعهد.
خيم الصمت علي الجميع لحظات فقال موستاكي باسما.
لن تنسي أبدا ميلينا.
قالت:
أنا أتابع أخبار مصر وأحزن جدا. مش أعرف أفرق بين الرجالة والنسوان. كله بيلبس زي بعضه!
هنا ضحكوا بقوة. فقالت:
وربنا.
ضحكوا أكثر.
وتحدثت السيدة العجوز وحدها بقية الليلة. خرج سامر وريم يلفهما الهواء ومطر خفيف. كانا قد طلبا تاكسي من تليفون المطعم الذ ي سيغلق أبوابه. استقلاه وودعا الجميع .

كثيرة هي الذكريات ياسامر تتداعي كلها عليك الليلة. كل الليالي تتداعي عليك الذكريات. تشعر أنها نذر النهاية وتحاول الهرب منها لكنها تداهمك. لقد تأخرت في الصعود والنظر إلي ريم والاطمئنان عليها.لابد أن تغير جلبابها والكومبليزون تحته. لابد أن تغير سوتيانها. الطبيب قال لك يكفي الجلباب المنزلي أو قميص النوم فوق جسدها لكنك لا تفعل ذلك. لا توافق أبدا علي أنها في غيبوبة. لابد أن ترتدي كامل ثيابها. ولو استطعت وضعت فوقها فساتين الخروج. بسبب البامبرز الكبير اللعين لا تلبسها سروالا. ستقبلها كالعادة قبل أن تنام قريبا
منها علي السرير الآخر ولن تشعر بك. لو تشعر بك الليلة!
انسكبت دموعه فانحني الي البيانو سانداً يديه عليه فارتفع نغم ضاج ورأي دموعه تسقط علي مفاتيح البيانو العاجية لكنه سمع طرقا علي الباب. لم يصدق وإذا بالطرقات تزداد. معقول؟ من عرف مكانهما بسرعة هكذا؟
من؟
أنا السائق يا أستاذ.
وقف حائرا. لابد أنه السائق الذي أتي به وبالمرتبة إلي هنا. لماذا يعود الآن وقد مرت خمس ساعات علي الأقل علي انصرافه. مسح دموعه بكفيه. إتجه الي الباب الذي به عين سحرية. نظر منها فرآه. هو حقا. فتح الباب مسافة قليلة وسأله:
ماذا تريد الآن؟
قدم له السائق وهو يرتعش ورقة صغيرة وقال:
بها اسمي ورقم تليفوني المحمول. ربما تحتاجني يا أستاذ. لا أحد في العجمي غيرك الآن.
تناول الورقة وعاد السائق مسرعا إلي الخلف. أغلق هو الباب وراح ينظر في الورقة غير مصدق.
فصل من رواية جديدة تصدر قريبا من الدار المصرية اللبنانية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.