يبدو أن الرواية، وخصوصا تلك التي تكتبها الأجيال الجديدة، ستظل تفاجئ الواحد، وتمنحه البهجة والسكينة والفرح. ولقد قرأت أخيرا رواية حمدي الجزار الجديدة "الحريم" الصادرة عن دار صفصافة . وبغض النظر عن عنوان الرواية غير الموفق، بل ان محتوي الرواية (إن صح هذا التعبير) يتناقض تماما مع عنوانها، بغض النظر عن هذا فإن الرواية فاجأتني. ربما كان سبب المفاجأة الأول هو اختلافها، علي مستويات متعددة، مع روايتيه السابقتين"سحر أسود" و"لذات سرية"، فالجزار يضرب في أرض جديدة ويتناول عالما يحبه، وبالمناسبة، لايخفي الجزار حبه للعالم والشخوص والأماكن التي كتب عنها روايته الحريم لاأريد أن ألخص الرواية، ولاأحب أيضا، لكنها تقدم مشاهد متتالية وبورتريهات لثماني عشرة امرأة يشكلن معا جسم الرواية. وإذا كان الكاتب يحب عالمه وشخوصه وأماكنه، فإن هذا لايعني تورطه العاطفي، و"الحريم"تقف علي الحافة بالغة الحدة، بين الاستسلام لألق الدنيا وشجنها وتحولات مصائر شخوصها، وبين تلك الفضيلة التي حرص الجزار علي التحلي بها، وأعني بها فضيلة الاستبعاد واستخلاص الجوهر، واللغة الخالية من الحواشي، علي الرغم من نعومتها. النسوة اللاتي اختار الجزار أن يكتب عنهن بضمير المتكلم لم ينجحن في توريطه، وكان مهددا أن يقوده هذا الضمير للتورط العاطفي، لكنه نجا في الحقيقة وقدم عملا روائيا باهرا. ثماني عشرة امرأة لاتشبه واحدة الأخري، وكلهن تركن ندوبا أو جروحا أو بهجة أو بقايا شهوة ساحرة في روح الراوي، وكلهن أيضا عصيات علي التنميط والنمذجة، وهو تحد آخر نجح الجزار في منازلته. فالأم مثلا، اختار أن يفرد لها فصلين متباعدين، أحدهما بوصفها أم الراوي، والثاني بوصفها زوجة أبيه الاسطي فرج النجار. تتناثر خيوط الرواية وتمتد في استغناء كامل عن الحبكة والحكاية والصراع الخ،عبر بورتريهات نساء طفولة الراوي ويفاعته ومطلع شبابه، حتي ينتهي الي مساء 31 ديسمبر عام 1999، وهو يحتفل وحيدا إلا من زجاجة من الخمر الرخيص بعيد ميلاده الثلاثين،بينما العالم يدخل الألفية الجديدة. الحقيقة أن الجزار كتب عملا متماسكا عبر نسوة اختارهن من عطوف طولون وحتي جزر اليابان. قبطيات وأخوات مسلمات. نسوة الطبقة الوسطي اللائي يتمنعن وهن راغبات.الفاجرات والعاشقات واللائي يفضن بعواطفهن علي الدنيا. فأُنس مثلا أو أرزاق ليست كل منهما مجرد مومس محترفة، ولوزة ليست امرأة بل فرسة أصيلة .غزل من كل تلكم الخيوط المتناثرة عالما متسعا في الزمان والمكان ومستويات اللغة، ومنحته معرفته الدقيقة بالعالم الذي يقدمه صدق التفاصيل،وخصوصا في تناوله لعطوف طولون وحواري السيدة زينب والسيدة سكينة، ولعل المشهد الذي يضم الحاجة حُسن مع الأم وصديقتها روحية بعد أن تقدم بهما العمر في الليلة الكبيرة لمولد السيدة سكينة كاف للتد ليل علي أهمية الدراية الدقيقة بالتفاصيل. منحنا الجزار عملا ممتعا وتشعر أنه مكتوب باستمتاع أيضا، والسطورالسابقة لاتشكل نقدا بأي حال من الأحوال، بل هي مجرد قراءة لرواية تختطف القارئ اختطافا، ليس فقط بسبب تنوع وثراء نسوة الجزار، بل أيضا بسبب مستويات اللغة والسرد المتنوعين علي نحو مدهش.