في شهر يوليو من العام 2004، كان قد مر علي زواجي قرابة العامين ولم نُرزق بالولد بعد، مدة العامين في عُرف الصعايدة ذ الذين أنتمي إليهم بالدم لا الإقامة ذ فترة طويلة ومثيرة للقلق؛ لذا كنا قد انتهينا - أنا وزوجتي ذ من التردد علي الأطباء ووصلنا لقناعة أن الله عز وجل لم يكتب لنا ذلك الرزق، ورضينا بما قسمه لنا. في هذا الشهر دعانا الشاعر الصديق رفعت سلام ؛ لنقضي مع أسرته يوما علي شاطئ المعمورة، هناك شملت جلستنا عددا كبيرا، رفعت وأسرته وبعض أقاربه وأنا وزوجتي، تكلمنا عن الحياة والاهتمامات والشعر والسياسة وذكريات من أسفاره ورحلاته كصحافي.. كما لم يخل الحديث من الطرف والنوادر. لسبب ماكانت صغيرته يارا مركز اهتمام الجميع، إذا تحدثت أنصتت لها الآذان وسعدت العيون بملامحها الهادئة، كانت تنتظر انقضاء الصيف؛ لتبدأ عامها الجامعي الأول في كلية الحقوق، هذه الطفلة فيها شيء لا تستطيع مقاومته ومهما كنت متحفظا كتوما سرعان ما تفصح عن إعجابك بها، ثمة طاقة داخلية تنبثق منها لتشمل كل من في دائرتها، الأمر الذي جعلني خلال اللقاء استرجع ترددات الاسم ( يارا) في قصائد الأب، خاصة ديوانه الذي يشكل علامة فارقة في شعرنا العربي الحديث ( إشراقات رفعت سلام ) والذي سعيت بعد قراءته إلي لقاء الشاعر الكبير الذي أعطاني عبر الهاتف عنوان منزله بلا أدني تردد ودون سابق لقاء بيننا. علي إثر تلك المكالمة مضيت من الإسكندرية إلي بيته في مصر الجديدة وللأسف لم يكن بالمنزل، أحسنت السيدة راوية صادق استقبالي، غير أن دخولي البيت صار لا معني له في ظل غياب الشاعر الكبير، فوقفت عند الباب أطيب خاطر شغفي بطلب كوب من الماء، ذهبت سيدة المنزل لإحضاره، فاختلست النظر إلي رفوف المكتبة الضخمة المثقلة بالقواميس وكتب الشعر في لغات عدة، وورقة معلقة مكتوب عليها بقلم فلوماستر أزرق( لا خروج مع يارا حتي آخر الأسبوع!!) تحت وطأة شحنة السوريالية والصور العنيفة التي زخر بها ديوان الإشراقات، خمنت أن يارا حالة إبداعية تخص الشاعر لا شخص من لحم ودم!! وحينما أخبرته في وقت لاحق بتلك التفاصيل، ضحك كثيرا ولم يعلق. بالعودة إلي ذلك اليوم من صيف 2004، لم تتمالك زوجتي نفسها أمام ذلك الحضور العذب وقالت بعينين تفيضان إعجابا: (ربنا يرزقني ابنة تكون مثلك وأسميها علي اسمك .. يارا.) زوجتي التي كانت قد استسلمت لفكرة الحياة بلا أطفال، عاودها الأمل بلقاء يارا رفعت سلام، الأمل تلك المعجزة الإلهية الخارجة علي القوانين والمعدلة للأقدار، فيشاء الله عز وجل أن نُرزق بطفلتنا يارا بعد تسعة أشهر من ذلك اللقاء، وبعد عام تحدثت إلي يارا وتكلمنا عن نظام المعمودية في المجتمعات المسيحية وكيف أن ثقافتنا الرسمية لا تقر أمرا كذلك علي ما فيه من توطيد الصلات بين المعارف والأصدقاء، قلت لها أتمني أن تكون يارا ابنتي مثلك وأتمني ان تكوني عرابتها (أمها الروحية) ضحكت في تواضع وقالت اعتبرني كذلك!! أنهت يارا دراستها الجامعية وعملت في مجال الحريات وحقوق الإنسان، وبقيت كما هي لم تتغير، ما زال ذلك التوازن الداخلي علي حاله، وما زالت البساطة والرقة والتواضع أسس تعاملها مع من حولها... وحين سمعت بخبر القبض عليها بعد مظاهرة الاتحادية الرافضة للقانون الظالم؛ بكيت حزنا وخوفا علي هذه الفتاة الرقيقة، وكلما حاولت الاتصال بوالديها تخونني شجاعتي.. وأعرف أنني سأبكي؛ فأتراجع حتي لا يكون اتصالي سببا لإيلامهما.... وكما فاجأتني يارا الصغيرة في شعر رفعت سلام بأنها كيان إنساني لا مجرد فكرة للكتابة، فاجأتني اليوم برسائلها وأخبارها في السجن، بقوتها وقدرتها اللانهائية علي تغيير الواقع مهما كان قبيحا قاسيا، يارا التي جمعت حولها السجينات ليتعلمن معا اللغة الإسبانية، وقد قهرت قسوة الجدران بهشاشة القطط الصغيرة اللائي يلاطفنها عبر إحدي نافذتي الزنزانة! وعبر النافذة الأخري تصبغ حقها في الحرية بزرقة السماء.. وكأن صاحبة الضحكة الخجلي أبت إلا أن تكون عرابة لأجيال قادمة تأبي الظلم ولا تساوم علي الحرية.