نشرت ريفكا جالتشن(كندا- 1976) روايتها الأولي "اضطرابات جَوَيَّة" عام 2008، وهي رواية عن طبيب نفساني يصحو يوماً ليكتشف أنّ زوجته تمّ تبديلها بنسخة مُطابقة، ويقع فريسة لأوهام واحد مِنْ مرضاه (يؤمن بقدرته علي التحكّم في الطّقس) كي يُفسِّر له سِرّ اختفائها. وفي مجموعتها القصصيَّة الجديدة "بدع أمريكاني" التي صدرت في يونيو الماضي، تعود جالتشنْ ذات الخلفيَّة الطِبيَّة إلي عوالم الأحداث الغريبة. امرأة تراقب الأشياء في شقّتها ببروكلين ترحل بمحض إرادتها، طالب في مكتبة للعلوم يطوِّر ثدياً ثالثاً، وشريحة جُبن مُبرّدة لا ترغب بالبقاء. تطرح قصص جالتشنْ مُتناقضات تذوب داخل مراياها الخّاصة: فالحقيقي يظهر بشكل المُصطنع والفانتازي والغريب يبدو أكثر واقعيَّة مِمَا ندعوه واقعاً. ولدت ريفكا جالتشنْ في تورنتو بكندا عام 1976، تُرجمت روايتها الأولي "اضطرابات جَوَيَّة" إلي عشرين لغة ونالت جائزة ويليام سارويان العالمية، واختارتها النيويوركر ضمن أفضل عشرين كاتباً أمريكيَّاً تحت سِنّ الأربعين. الطّبيعة الرّوحانيَّة للقصص، التي تهيم سعياً للوصول إلي التجسّد في هيئة ماديَّة، هاجس دائم لدي ريفكا جالتشنْ. فِي قِصّتها "توت برّي أزرق" ثمّة جزء كبير منها يدور في ماكدونالدز والبطلة فتاة شابّة، لكن لماذا ماكدونالدز؟ ثمّة عاطفة منقوصة تحاول عزف لحنها القصير، فكان ماكدونالدز خلفيَّة مناسبة لتلك العاطفة. تُحيل الواقعيَّة في قصص جالتشن إلي معني ما عاطفي. ثمّة خُرافة يابانيَّة قديمة، حكاية قاطع الخيزران ( قاطع خيزران مبتور وفقير وعجوز يُصادف يوماً ساق خيزران زاهية ويعثر بداخلها علي طفلة صغيرة. يحمل الطفلة معه إلي زوجته في البيت ويربيانها بوصفها ابنتهما ويبدآن بالعثور علي الذّهب داخل سيقان الخيزران التي يحصدانها. تنضج البنت امرأةً باهرة الجمال حتّي الإمبراطور يقع في هواها، لكنها ترفض جميع الخُطّاب، ويتبيَّن أنّها مِنْ القمر وأنّها كانت منفية وقَدْ آن أوان عودتها إلي حيث تنتمي، فتستقل مركبة فضائيَّة وتعود إلي القمر) تثير استغراب جالتشن، يثير تفكيرها أنّها منذ ألف ومائتي سنة، لكن لمّا قرأتها مؤخّراً- تقول الكاتبة- رأت فيها الوصف الأكثر أمانة لشعور الوجود بالقرب من طفل، كأنّهم جاءوا من عالم آخر، لديهم كاريزما غريبة وتتراءي الحياة مُشرقة وثريَّة داخل هالاتهم ويوماً ما سيتركونك. كُل تلك التفصيلات الواقعيَّة تبدو فقط لتفويت جوهر الوجود بجانب طفل. أغلب أبطال قصص جالتشن يتحاشي المشّاعر المُعقّدة أو الصّعبة، وهو الوجه الآخر لواقعيَّة ريفكا. تبدو البطلة فِي "كانت النّيران تلفّ النّاحية الشّمالية بأسرها" أقلّ اكتراثاً بهجران زوجها مِنْ أخذه مبشرة الجبن الإيطالي، تُشجّعها رسالة من مُعجب سجين لطرح تفسير لحادث غامض انشقّت فيه السّماء في سيبيريا. وهي تُحيل إلي ازدهار روح الفوتوغرافيا عقب الحرب الأهليَّة ومرّة أخري عقب الحرب العالميَّة الأولي. أو ازدهار الرّواية البوليسيَّة في اليابان بعد الحرب العالميَّة الثانية. الأمور تستغرق وقتاً طويلاً جِدّاً لاستيعابها. بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحين كانت طالبة طبّ في مستشفي جبل سيناء، كانت تري من يلبسون قمصاناً كُتب فوقها « ناجي من 11/ 9 » ثمّة سخرية سوداء بشأن التفكير في تلك القمصان الآن. تجد ريفكا جالتشنْ في لُغة المكالمات الهاتفيَّة المُتحررة من حاجات الجّسد مساحة ما لإلقاء نظرة خاطفة علي خرائط الأحلام الصّغيرة العجيبة لشخصيَّة ما. فِي "الطّلب الضائع" تتلقّي الراوية اتصالاً من رجل يخلط بينها وبين موظفة استقبال في مطعم صيني لكنها، وبشكل ملتبس، تؤكِّد له أنّ طبق الدّجاج بالليمون في طريقه إليه. هُناك الكثير مِنْ التلميحات الماديَّة الضّاغطة علي المُتّصلين بعيداً عن مفاهيمهم الخاطئة. كما يتضمن الحقل الطِّبّي فِي رأي ريفكا جالتشنْ علاجاً لطيفاً للحماقة واليقين. وتري أنّ الطب يُفسِّر وضعاً ما طبقاً لحالة ما وبعدها يصطدم بحائط صدّ، وأغلبه لا يهبّ إلا إحساساً بالتفسير، أساساً ملتبساً لانتهاج خطة علاج. هو لا يُشبه علوم الطّبيعة إذْ لا تصطدم بحائط الصدّ ما لم تكن قَدْ تمددت كثيراً- . الخيال الأدبي غالباً ما يتفوّق في تلك المساحات الواسعة نفسها حيثُ تبدأ البيانات في خسارة فائدتها القاطعة. فِكرة تشخيص الحالة تدفعها لتشبيهنا مثلاً فِي بحثنا عن قناعات علي الشبكة العنكبوتيَّة بأطفال يحدّقون بوجوههم في ملاعق. وهي تُحيل إلي كتاب للأطفال تدور أحداثه عن عائلة خلال موسمين أثناء الشتاء، تتجمّد أي كلمة منطوقة داخل العائلة. ثُمّ خلال الرّبيع يبدأ جميع من بالعائلة بالانفعال إزاء بعضهم البعض بسبب أفكار عجيبة. يستغرقون بعض الوقت لإدراك أنّ مردّ ذلك أنّ كلمات الشتاء ذابت وهي ما يسمعونها، تلك الكلمات القديمة من شهور خلت.