سعر الذهب اليوم السبت في مصر يهبط مع بداية التعاملات    انخفاض أسعار الدواجن اليوم السبت في الأسواق (موقع رسمي)    مياه الشرب بالجيزة: عودة المياه تدريجيا لمركز الصف    رئيس جهاز مدينة العبور يتابع سير العمل بمشروعات الطرق والمحاور ورفع الكفاءة والتطوير    محطة جديدة لتنقية مياه الشرب في 6 أكتوبر بطاقه 600 ألف متر (تفاصيل)    232 يوما من العدوان.. استشهاد عدد من الفلسطينيين جراء القصف المتواصل للاحتلال    الفصائل الفلسطينية تطالب بتنفيذ قرارات محكمة العدل الدولية    أمين عام الناتو: مساعدة الصين لروسيا أمر مفصلي في حرب أوكرانيا    إحداها مجانية.. موعد مباراة الأهلي والترجي التونسي والقنوات الناقلة بنهائي دوري الأبطال    نهائي دوري أبطال إفريقيا.. الملايين تنتظر الأهلي والترجي    انطلاق امتحانات الدبلومات الفنية بجنوب سيناء داخل 14 لجنة    محمد فهيم يشيد بفوز فيلم رفعت عيني للسما بجائزة العين الذهبية في مهرجان كان: الله أكبر على الجمال    الليلة.. مهرجان كان السينمائي يسدل ستار نسخته ال77    تضم 8 تخصصات.. قافلة طبية لذوي الاحتياجات الخاصة بشمال سيناء    صباحك أوروبي.. عهد جديد لصلاح.. صفقات "فليك" لبرشلونة.. وغموض موقف مبابي    الصين تعلن انتهاء مناوراتها العسكرية حول تايوان    الأرصاد: طقس حار نهارا على الوجه البحرى.. والعظمى بالقاهرة 33 درجة    إصابة 25 شخصا فى حادث انقلاب سيارة ربع نقل على طريق بنى سويف الفيوم    باحث: قرارات «العدل الدولية» أكدت عزلة إسرائيل القانونية بسبب جرائمها في غزة    في "يوم إفريقيا".. سويلم: حريصون على تعزيز التعاون مع كل الدول الإفريقية    أبرز تصريحات شيماء سيف في برنامج "كلام الناس"    مصدر أمني: بدء اختبارات القبول للدفعة العاشرة من معاوني الأمن للذكور فقط    نصائح الدكتور شريف مختار للوقاية من أمراض القلب في مصر    وزير الصحة يشهد توقيع بروتوكول تعاون في مجال التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي    متصلة: أنا متزوجة وعملت ذنب كبير.. رد مفاجئ من أمين الفتوى    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. السبت 25 مايو    مباريات اليوم السبت في الدوري المصري والقنوات الناقلة    Genesis Neolun| الكهربائية الفاخرة.. مفهوم يعبر عن الرفاهية    غضب جديد داخل غرفة ملابس الزمالك بسبب شيكابالا وشرط وحيد للتوقيع مع ديانج    «دكّ معاقل الاحتلال».. فصائل عراقية تعلن قصف «أهداف حيوية» في إيلات بإسرائيل    عيد الأضحى 2024 الأحد أم الاثنين؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    ليست الفضيحة الأولى.. «الشاباك» الإسرائيلي أخطأ مرتين في نشر صورة إعلامي مصري    شاهد عيان يروى تفاصيل انهيار عقار الباب الجديد بالإسكندرية (فيديو)    حظك اليوم| برج القوس 25 مايو.. تأثير في الحياة العاطفية والاجتماعية    أنا متزوجة ووقعت في ذنب كبير.. متصلة تفاجئ أمين الفتوى    مصرع طفل صدمته سيارة مسرعة في الخصوص بالقليوبية    ملف مصراوي.. خطة كولر لنهائي أفريقيا.. وتحذير الترجي لجماهيره    أنهى حياة 3 سيدات.. القبض على "سفاح التجمع"    أول لقاح للهربس متاح في مصر| تفاصيل    الصحة العالمية: تسليم شحنة من أحدث لقاح للملاريا إلى أفريقيا الوسطى    استعلم الآن.. رابط نتيجة الصف الخامس الابتدائي 2024 الترم الثاني بالاسم والرقم القومي    ضبط 2 طن أغذية مجهولة المصدر وتحرير 90 محضرا تموينيا بجنوب سيناء    ميلان يختتم مشواره فى الدوري الإيطالي أمام ساليرنيتانا الليلة    حلقة أحمد العوضى مع عمرو الليثى على قناة الحياة تتصدر ترند تويتر    وزيرة الثقافة تهنئ فريق عمل رفعت عينى للسماء ببعد فوزه بالعين الذهبية فى مهرجان كان    وليد جاب الله ل"الشاهد": الحرب تخلق رواجًا اقتصاديًا لشركات السلاح    المدارس المصرية اليابانية تعلن بدء التواصل مع أولياء الأمور لتحديد موعد المقابلات الشخصية    احذروا كتائب السوشيال.. محمد الصاوي يوجه رسالة لجمهوره    «بيعاني نفسيا».. تعليق ناري من إسماعيل يوسف على تصريحات الشناوي    عمرو أديب عن نهائي دوري أبطال إفريقيا: عاوزين الأهلي يكمل دستة الجاتوه    تعرف على أدوار القديس فرنسيس في الرهبانيات    تعرف على سعر السكر والأرز والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 25 مايو 2024    تكوين: لن نخوض مناظرات عقائدية تخص أي ديانة فهذا ليس في صميم أهدافنا    أعضاء القافلة الدعوية بالفيوم يؤكدون: أعمال الحج مبنية على حسن الاتباع وعلى الحاج أن يتعلم أحكامه قبل السفر    الوضع الكارثى بكليات الحقوق «2»    المفتي يرد على مزاعم عدم وجود شواهد أثرية تؤكد وجود الرسل    الإفتاء: الترجي والحلف بالنبي وآل البيت والكعبة جائز شرعًا في هذه الحالة    وزير الري: إفريقيا قدمت رؤية مشتركة لتحقيق مستقبل آمن للمياه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سهرات الصالحين .. في ليالي رمضان
نشر في أخبار الأدب يوم 05 - 07 - 2014

في القاهرة ، كان باشوات ذلك الزمان يتنافسون علي مشاهير قراء القرآن الكريم ليحيوا ليالي رمضان في قصورهم ، التي تفتح أبوابها ليس فقط للضيوف المدعوين ولأصدقائهم ، بل أيضا ً لعامة الناس ، للإستمتاع بليال تجلت فيها أصوات أعلام المقرئين ومنهم : محمود صبح ، اسماعيل سكر ، يوسف المنيلاوي ، علي محمود ، مصطفي إسماعيل ، عبدالباسط عبدالصمد ، محمد صديق المنشاوي ، وغيرهم ... كما كان كبار المنشدين "الصييتة" مثل : علي محمود و طه الفشني ونصر الدين طوبار و سيد النقشبندي يحيون ليالي رمضان في قصور الباشوات والأمراء ، و دور الأعيان والعمد في قري مصر .
كما كانت تنتشر في البيوتات القديمة ذات الأصول والتقاليد المتوارثة ، سهرات دينية عقب صلاة التراويح ، تبدأ بتلاوة من آيات الذكر الحكيم ثم تعقبها "الحضرة" وهي اجتماع فريق من الأحباء في الله ، ينتظمون في حلقات ذكر هادئة لطيفة يتخللها إنشاد ممن حسنت أصواتهم ، وجميع الحاضرين قد نزلوا من علي الكراسي أو "الشلت" للجلوس أرضا ً علي سجادة كبيرة ، وفي هذه السهرة يتناولون أطباقا من الكنافة والقطايف وأقداحا من شراب القرفة أو القهوة ..
نور علي نور
كانت القاهرة تتألق في هالات من النور ، وحتي قبيل إنتشار الكهرباء ، كان الحكام حريصين علي إضاءة المنارات والقباب بالفوانيس والقناديل ، كما تزدان بها واجهات البيوت والميادين والأسواق ، كانت البيوت يشع منها عبق الزهور و شذا البخور وروائح الشواء والأطعمة الدسمة كلما إقترب المغرب ، وكان من عادة أهل القاهرة تبادل الدعوات علي طعام الإفطار وقد فتحت الأبواب لعابري السبيل ، وعقب صلاة التراويح ترتفع أصوات المقرئين والمنشدين شجية جليلة بلا مكبرات صوت !
كانت السيدات إذا برزن إلي الطريق في رمضان وهم ب"الحبرة واليشمك" لزيارة الأهل والجيران ، يسعين وبين أيديهم الخدم يحملون الفوانيس الكبيرة فتزيد الطريق نورا ً علي نور !.. وكانت المشربيات والنوافذ ينبعث منها نور المصابيح ، كما ينبعث منها النور الأعظم : تلاوة القرآن الكريم .. وينتشر هذا النور أيضا ً من ساحات المساجد الكبيرة عقب صلاة التراويح ، خاصة مساجد : الإمام الحسين والسيدة زينب والإمام الشافعي وغيرها من مساجد أهل البيت ..
وكان أكثر البيوتات العريقة تبدأ سهرات رمضان مع إنطلاق المدفع ، حيث الأسمطة قد مدت بأشهي الأطعمة ، وعقب أذان المغرب ، يطوف أحد الخدم بطبق البلح الإبريمي الجاف فيأخذ كل منه ما يشاء فيما عرف ب"شق الصيام" .. وسجاجيد الصلاة قد فرشت ، الرجال في "السلاملك" والنساء في "الحرملك" فإذا قضيت الصلاة إجتمعوا لتناول إفطارهم ، يعقبه أطباق من الكنافة والقطايف وأكواب من عصائر الفاكهة ، حتي صلاة العشاء تتلوها صلاة التراويح .. ثم تصدح من هذه القصور والدور أصوات المقرئين والمنشدين ..
في قصر عابدين
كان الملك فاروق حريصا ً علي إحياء ليال رمضان ، بدءا ً من الموائد التي كانت تصف في ساحة سراي عابدين ، يجلس إليها الفقراء وعامة الناس لتناول فطورهم بكل ما لذ وطاب .. وعقب صلاة التراويح ، كانت تبدأ السهرات القرآنية التي يحضرها الملك بنفسه ، وكان "أحمد حسنين باشا" رئيس الديوان الملكي حريصا ً علي الإتصال بمشاهير القراء لإحياء ليال رمضان وعلي رأسهم : الشيخ عبدالفتاح الشعشاعي شيخ القراء في زمانه ومصطفي إسماعيل الذي أتي به الشيخ الشعشاعي من قريته "ميت غزال" إلي سراي عابدين ليحيي ليالي رمضان عام 1943م ، فكانت بداية شهرته التي أسهم فيها أيضا ً علي المستوي الشعبي إحيائه ليالي رمضان من جامع السيدة زينب ومن جامع الإمام الحسين رضي الله عنهما ، حتي أصبح قارئا ً للجامع الأزهر إلي وفاته عام 1978م ، وكانت السهرات القرآنية بسراي عابدين تنقلها الإذاعة عبر موجاتها يوميا ً وغالبا ً ما تمتد لأكثر من ساعتين !
في درب الجماميز
كان الشيخ محمد رفعت "قيثارة السماء" أسوة حسنة لقاريء القرآن الكريم : خلقه القرآن ، تأنس إليه القلوب .. وكم أحيا ليالي رمضان في قصور الباشوات فكانت فرصة لعامة الناس أن يستمتعوا بصوت الشيخ رفعت والذي أصبح من معالم الشهر الكريم حتي يومنا هذا .. كما كان للشيخ رفعت سهراته القرآنية في جامع الأمير محمود فاضل باشا بشارع درب الجماميز ( والذي إشتهر عند عامة الناس بجامع الشيخ رفعت ) فكان سائقو الترام ومعظمهم من الأقباط يتوقفون وتتوقف حركة الترام بالشارع بالإضافة إلي جمهور "السميعة" ممن ضاقت بهم جنبات المسجد فإنتشروا أمامه وحوله ، لكي يعيشوا لحظات ترتقي فيها أرواحهم إلي ملكوت السماء مع صوت شيخنا الجليل .
في رحاب السيدة زينب
في حي السيدة زينب الأكثر عراقة وتميزا ً بين أحياء القاهرة الإسلامية ، كانت تنتشر قصور وبيوتات العائلات العريقة بتقاليدها المتوارثة ، قبل حملات هدم القصور والفيلات التي إجتاحت القاهرة في السنوات الأخيرة !..
في هذا الحي ولد الشيخ محمد رفعت ، والشيخ أحمد ندا ، ومنه إنطلقت شهرتهما في العالم الإسلامي ، خرج أعلام في السياسة والأدب والصحافة : يحيي حقي ، توفيق الحكيم ، فتحي رضوان ، علي الجارم ، المازني ، المنفلوطي ، عبدالعزيز البشري ، بيرم التونسي ، حافظ محمود و كامل زهيري وغيرهم ...
وكان مولد الأديب الكبير "يحيي حقي" بحارة الميضة خلف مسجد السيدة زينب : ينبوع إلهامه ووحيه الذي تدفق في كتاباته ، وظل يذكر بيته القديم وعائلته ، وصوت "الشيخ حسن" المعروف في الحي، يتردد في أرجاء البيت في ليالي رمضان ، وقد توافد إليه رجال الحارة ومن الجيران .. يمنون أنفسهم بليلة قرآنية ، وبأطباق الياميش وشراب القرفة !
وعاصر "يحيي حقي" نجم فن التلاوة والتواشيح الشيخ "علي محمود" مقريء جامع مولانا الإمام الحسين ، وبأسلوبه الفريد مع بطانته ، كان صوته يجلجل بين جنبات و أروقة الجامع في ليالي رمضان منشدا ً و مادحا ً ، مما جعل منه أسطورة لن تتكرر في هذا الفن .. وقد إنتقل الشيخ من حي العباسية الذي ولد به ، ليقطن بشارع الباب الأخضر بجوار ضريح سيد الشهداء إلتماسا ً لبركته ، وكان يصعد إلي المنارة القديمة ليؤذن للصلوات الخمس ، ويسبق أذان الفجر بتسابيح وإبتهالات توقف جميع السائرين حول المشهد الحسيني ، وكان عندما يقبل علي ساحة الميدان "يخلع نعليه" تأدبا ً ويسير حافي إجلالا ً لسبط رسول الله !
في صالون آل عبدالرازق
كانت سراي "آل عبدالرازق" بشارع جامع عابدين ، تواجه "باب باريس" الباب الجنوبي لقصر عابدين، قصر منيف عظيم بحديقته الغناء وأشجاره الباسقة ، عامر دائما ً بحركة الوافدين إليه ، وبالخدم والسائقين والبستانية ، فكان من أعظم المنتديات السياسية والأدبية ...
إشتهر الصالون الأدبي لهذه السراي في مجتمع القاهرة خلال النصف الأول من القرن الماضي ، فعميد العائلة "حسن باشا عبدالرازق" كان واحدا ً من الشخصيات الأكثر تأثيرا ً في الحياة السياسية المصرية وخدمة القضايا الوطنية ، و ابنه د. علي عبدالرازق صاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم" الذي أثار ضجة في ذلك العصر .. والإبن الأكبر "مصطفي باشا عبدالرازق" والذي تتلمذ علي يد الإمام محمد عبده وحصل علي درجة الدكتوراة من جامعة السوربون ، وعين أستاذا ً للشريعة الإسلامية بكلية الحقوق جامعة ليون ، وعاد أستاذا ً للفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة ، وشغل منصب وزير الأوقاف سبع مرات متتالية إلي أن صدر الأمر الملكي بتوليه مشيخة الأزهر الشريف ، وتنازل عن لقب "الباشوية" مفضلا ً لقب "الشيخ" ، كما كان من أبرز أعضاء مجمع اللغة العربية الملكي ( مجمع الخالدين ) .. لقد كان الشيخ مصطفي عبدالرازق : سيدا ً من سادات زمانه علما ً و فضلا ً و سخاء و نبلا ً ، و طرازا ً فريدا ً من رواد الثقافة العربية والإسلامية .
وتجدر الإشارة إلي أن أول فرع عربي لنادي القلم الدولي تأسس في هذا الصالون الشهير ، كما عقدت بعض مؤتمرات نادي القلم الدولي في هذه السراي ..
وكان هذا الصالون ملتقي أعلام السياسة والصحافة ونخبة المفكرين والأدباء .. وفي جولاتنا القاهرة ، قال لي الكاتب والمفكر ونقيب الصحفيين الراحل والصديق "كامل زهيري" : كان من رواد هذا الصالون الذي مثّل "ارستقراطية الفكر" العميد طه حسين ، الفيلسوف أحمد لطفي السيد ، د. محمد حسين هيكل ، عبدالقادر حمزة باشا ، محمد فريد وجدي ، عباس العقاد ، أحمد أمين ، د. عبدالحميد بدوي ، حافظ إبراهيم ، أحمد حسن الزيات وغيرهم من الأعلام ، وفي ليالي رمضان ، كان ينضم إليهم : مصطفي المراغي ، عبدالمجيد سليم ، حسن مآمون ، د. محمد الفحام ( وجميعهم تولوا مشيخة الأزهر) والشيخ العالم محمد عبدالله دراز ، مصطفي صادق الرافعي ، د. منصور فهمي ( مدير دار الكتب ) ، د. إبراهيم مدكور ، د. علي بهجت و د. علي إبراهيم باشا الجراح العالمي و أول عميد مصري لكلية الطب وصاحب أندر مجموعة سجاد علي مستوي العالم .. وغيرهم من العلماء ورجال الفكر ، واستقطب أيضاًً تلاميذ الشيخ من طلاب الأزهر .. وكانت السهرة الرمضانية في سراي مصطفي عبدالرازق تبدأ عقب صلاة التراويح بتلاوة قرآنية من الشيخ عبدالفتاح الشعشاعي أو الشيخ أبو العينين شعيشع وغيرهما من أعلام القراء .. ثم تتألق السهرة والجمع في مناقشات وحوارات تتناول جوانب من شخصية النبي صلي الله عليه وسلم وسير الصحابة وأعلام التابعين ، وفنون الإعجاز في القرآن ، ومسائل فقهية، وعن إصلاح الأزهر وتطويره ، وفي التاريخ الإسلامي ، وفي الأدب العربي وإتجاهاته ، وفي الثقافة الإسلامية عامة وتأثير الحضارة الإسلامية في الحضارة الغربية ..
وخلال السهرة ، كان خدم السراي يقومون بتوزيع أكواب العصائر وأطباق الحلوي الشرقية وأقداح القهوة والقرفة .. وفي السحر ، عندما يتهادي صوت مسحراتي حي عابدين ، توزع أطباق الأرز باللبن مزدانة بالمكسرات وسلاطين الزبادي "الفخارية" .. ثم يتوجه الجميع إلي "جامع عابدين" الملاصق للسراي الملكية ، لأداء شعائر صلاة الفجر .. فكانت مسك الختام ..
ولما كان الشيخ مصطفي عبدالرازق ، معلماً وفيلسوفاً وصاحب رسالة هي التوفيق بين القديم والحديث وبين الشرق والغرب ، فقد كان حريصا ً في حواراته في هذه السهرات وغيرها في صالونه علي تأكيد مبدأه الأساسي : أن هناك شيئاً يسمو فوق العلم والأدب هو "الأخلاق"
حاتم زمانه !
ومن البيوتات العريقة الشهيرة : عائلات "ذو الفقار" أصهار الملك فاروق و"محمود سليمان باشا" والد محمد محمد باشا رئيس الوزراء والوزير حفني محمود و "التيمورية" التي أنجبت : الأدباء اسماعيل وأحمد ومحمود تيمور ، وعائلات : الشريعي والشريف والوكيل ويكن وعزام والمنشاوية والرضوانية والبكري والبدراوي والشواربي وأبو علم وغيرهم .. إلي جانب بعض أمراء البيت المالك ، وكانت سرايات هذه العائلات تتوزع ما بين أحياء : المنيرة والعباسبة والزمالك وجاردن سيتي ومصر الجديدة ، ولا يمكن أن نغفل العائلة الأشهر "الأباظية" الذين خرج منهم أعلام في عالم البيان ووزراء منذ عصر الملكية وحتي يومنا هذا ..
كان "إبراهيم دسوقي أباظة" باشا عميد الأباظية ، وكيل مجلس النواب في الأربعينيات من القرن الماضي وسكرتير عام حزب الأحرار الدستوريين ، كما كان أديباً وشاعراً وكاتباً صحفياً ، وهو والد الأديب الكبير "ثروت أباظة" ، اشتهر إبراهيم دسوقي بلقب "حاتم زمانه" وكان قصره بشارع الجنزوري بالعباسية ، وفيه تأسست "رابطة أدباء العروبة" تحت رعايته الأدبية والمادية وكان البعض يري فيه صورة "الأمير العربي" الكريم ، والحديث عن هذا الرجل يستغرق مجلداً .. ولأنه كان سياسياً فقد كان وثيق الصلة بكل السياسيين حتي المعارضين - ولأنه كان وزيراً فكان علي صلة بكل وزراء عهده حتي السابقين ولما كان برلمانياًً عريقا ً فقد كان صديقاً لكل أعضاء مجلس الشيوخ والنواب ، كما كان علاقاته رائعة بكل الصحفيين بمختلف انتماءاتهم السياسية ، كما كان خبيراًً زراعياً يعرفه كل الفلاحين في بلدته "الشرقية"..
كان من عاداته في رمضان : أن يخصص يوماً لجميع السياسيين ، ويوماً لجميع البرلمانيين ، ويوماً للوزراء، ويوماً لجميع الصحفيين .. كان كريماً بلا حدود ، وموائد الإفطار الرمضانية كانت مضرب الأمثال ، كان حريصاً علي استقدام أشهر المقرئين طوال ليالي رمضان، ومنهم الشيوخ : مصطفي إسماعيل ، عبدالعظيم زاهر ، كامل يوسف البهتيمي ، محمد الصيفي وغيرهم ، كما كان يحرص علي دعوة عدد من علماء الأزهر لإلقاء دروس في التوعية الدينية ، وتمضي السهرات في مناقشات حول تفسير بعض الآيات وتقوية الرابطة بين الشعوب الإسلامية ، وفي شئون السياسة والأدب والصحافة .. أما باقي أيام رمضان فكانت السراي مفتوحة لأهله وللفلاحين من الشرقية ، وللأحبة والأصدقاء في القاهرة ، ولعامة الناس ، ويحيي هذه الليالي أشهر المنشدين في ذلك العصر : علي محمود و طه الفشني وإبراهيم الفران وغيرهم .. كان الباشا يسره أن يؤكل طعامه وأن تغشي داره في الأيام العادية ، فما بالنا في شهر رمضان !
في تكية المولويه
كانت أشهر تكايا الصوفية ، وقد أعيد ترميمها بشارع السيوفيه بحي الحلمية الجديدة ، وكان الأمير "يوسف كمال" أحد اشهر أمراء الأسرة المالكة هو المسئول عن شئونها ويدعمها مادياًً ، وكان يرأسها حاجي "سري بابا" وكانت له صلات بالسلطات الحاكمة ، كانت التكية جنة وسط الرمال والصخور ، تغطيها الكروم وتحيط بها الأشجار المورقة ، وكان روادها من سكان أحياء القلعة والحلمية وعابدين وباب الخلق ..
واشتهرت التكية بأحياء ليالي رمضان ، التي تبدأ بموائد الإفطار العامرة ، وعقب صلاة التراويح تتلي آيات من القرآن الكريم ، يعقبها حلقات الذكر ، قد يصحبها دفوق وآلات وترية ، وتنشد أشعار لأقطاب الصوفية .. ومن المدهش أن السير "مايلز لامبسون" المندوب السامي البريطاني وقرينته كانا حريصين علي شهود ليالي المولوية ، كما كان يحضرها أيضاًً بعض من أمراء وأميرات البيت المالك ، وكثير من الأدباء والشعراء !
ليلة مع الشيخ مصطفي إسماعيل
إنقضي عهد السرايات والبيوتات العريقة ، وراحت معها كثير من القيم والأشياء الجميلة في حياتنا، ووجد الناس بغيتهم في سهرات المساجد الكبري يحيها مشاهير القراء وكبار المنشدين ، وانتشر بين السميعة أن الشيخ فلان سيسهر الليلة في جامع السيدة أو جامع الحسين أو زين العابدين فينتشر الخبر وتزدحم ساحات المساجد بمحبي الشيخ والسميعة من كل الفئات .
وأذكر في الاحتفال بليلة القدر عام 1974م في ساحة مسجد السيدة زينب ونفحات عقيلة بني هاشم تعبق الأجواء ، وجموع السميعة كأن النور غسل أحزانهم وهمومهم ، يغمرهم شعور بالسعادة والرضا .. تألق الشيخ طه الفشني وبطانته ، بروائع إنشاده ومدحه للرسول الكريم ، بصوته الرقيق الحنون وامتلاكه لكل فنون الصنعة فاستولي علي ألباب الناس ، وكان الشيخ مصطفي إسماعيل عليه رضوان الله هو قاريء الليلة .. كان الشيخ مصطفي يمتلك صوتاً فذاً وأسلوباً فريداً ، وكانت له حصيلة من العلم بالمقامات لا تتوافر لكثير من أقرانه .. وكان محبوه وعشاق صوته بالملايين في مصر والعالم الإسلامي .. أبدع الشيخ في تلاوته من سورتي النجم والقمر والأرواح مستشرفة إلي هذا الصوت الجميل النادر يسترسل في تنغيمه وتطريبه، والآذان مرهفة والقلوب خاشعة وما إن يكمل الشيخ الآية أو أكثر حتي تنطلق الحناجر بعبارات الاستحسان .. حلق الشيخ مصطفي بصوته إلي عنان السماء ثم يهبط إلي قرار قريب ، فنجد أنفسنا مسحورين بهذا الصوت الفريد وهذا الإيقاع العبقري الجميل في إمالة سائغة لأواخر الآيات الكريمة ، يهفو إليها السمع وتترشفها النفس ، فكانت ترتفع مع صوته نفوس السامعين ثم تهبط وهم خاشعون حتي يفرغ ذلك النفس الطويل المفتن فتعلو أصوات السميعة بلفظ الجلالة وكلمات الثناء علي هذا التجويد الساحر العبقري .. كانت ليلة أفرغ فيها الشيخ مصطفي إسماعيل كل فنه وبلغ صوته فيها غاية الحلاوة والطلاوة .. وعقب الانتهاء من تلاوته ، رفع يديه بالدعاء لأئمة القراء الراحلين الذين تتلمذ عليهم وقرأ الفاتحة علي أرواحهم تلاها بالدعاء لعامة المسلمين أجمعين، وبمجرد أن هم بالقيام حتي هجم عليه سيل من المحبين يقبلون رأسه ويده .. وبصعوبة بالغة استطاع شيخنا أن يتخلص من مظاهرة الحب التي أحاطت به !
ويمضي الزمان .. و أضحت تلك الليالي في ذاكرة التاريخ ، وهدمت قصور و دور كانت عامرة ، واندثرت عائلات عريقة وتقاليد جميلة .. و ذهب كل ذلك ولم يبق سوي الذكريات ، ويتمثل قول "أبي تمام" :
ثم انقضت تلك السنون وأهلها
فكأنها .. و كأنهم أحلام!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.