رئيس جامعة المنصورة يتفقد أعمال تجديد المدرجات بكلية الحقوق    إهداء درع معلومات الوزراء إلى رئيس جامعة القاهرة    رئيس «قضايا الدولة» ومحافظ الإسماعيلية يضعان حجر الأساس لمقر الهيئة الجديد بالمحافظة    خالد صبري: إقبال كبير على سوق العقارات المصري    انطلاق فعاليات الجلسة الرابعة «الثورة العقارية في مصر.. الواقع والمستقبل»    أزمة الدولار لا تتوقف بزمن السفيه .. مليارات عيال زايد والسعودية وصندوق النقد تتبخر على صخرة السيسي    رئيس الرقابة المالية: الانتهاء من المتطلبات التشريعية لإصدار قانون التأمين الموحد    عاجل| أحد مرافقي الرئيس الإيراني: الآمال كبيرة في انتهاء الحادث دون خسائر بالأرواح    وزير الدفاع البريطاني: الحكومة البريطانية قلقة بشأن المسيرات المؤيدة للفلسطينيين    مشاهدة مباراة آرسنال وإيفرتون في جولة الحسم بالدوري الإنجليزي| مباشر    منها مزاملة صلاح.. 3 وجهات محتملة ل عمر مرموش بعد الرحيل عن فرانكفورت    إنجاز قياسي| مصر تحصد 26 ميدالية في بطولة البحر المتوسط للكيك بوكسينج    عاجل.. براءة متهم من قتل سيد وزة ب "أحداث عنف عابدين"    تسلق السور.. حبس عاطل شرع في سرقة جهاز تكييف من مستشفى في الجيزة    «الجوازات» تقدم تسهيلات وخدمات مميزة لكبار السن وذوي الاحتياجات    مصطفى قمر يتألق بأغانيه في حفل زفاف نجلة سامح يسري.. صور    «يا ترى إيه الأغنية القادمة».. محمد رمضان يشوق جمهوره لأغنيته الجديدة    قومية قنا تقدم "المريد" ضمن عروض الموسم المسرحي بجنوب الصعيد    طلاب مدرسة التربية الفكرية بالشرقية في زيارة لمتحف تل بسطا    جوائز مهرجان لبنان السينمائي.. فوز فيلم "الفا بات" بجائزة أفضل فيلم روائي    ما هو الحكم في إدخار لحوم الأضاحي وتوزيعها على مدار العام؟    «الإفتاء» توضح حكم حج وعمرة من يساعد غيره في أداء المناسك بالكرسي المتحرك    الجبالى مازحا: "الأغلبية سقفت لنفسها كما فعلت المعارض وهذا توازن"    نصائح وزارة الصحة لمواجهة موجة الطقس الحار    وزير الصحة: تقديم القطاع الخاص للخدمات الصحية لا يحمل المواطن أعباء جديدة    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية مجانا في قرية أبو سيدهم بمركز سمالوط    أسرة طالبة دهس سباق الجرارات بالمنوفية: أبوها "شقيان ومتغرب علشانها"    مركز الأزهر العالمى للفتوى الإلكترونية يوضح أنواع صدقة التطوع    "علشان متبقاش بطيخة قرعة".. عوض تاج الدين يكشف أهمية الفحوصات النفسية قبل الزواج    إعلام إسرائيلي: اغتيال عزمى أبو دقة أحد عناصر حماس خلال عملية عسكرية في غزة    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    خالد عباس: إنشاء وإدارة مرافق العاصمة الإدارية عبر شراكات واستثمارات عالمية    إيرادات فيلم السرب تتخطى 30 مليون جنيه و«شقو» يقترب من ال71 مليون جنيه    أول صور التقطها القمر الصناعي المصري للعاصمة الإدارية وقناة السويس والأهرامات    وزير العمل: لم يتم إدراج مصر على "القائمة السوداء" لعام 2024    وزارة الإسكان تخطط لإنشاء شركة بالشراكة مع القطاع الخاص لتنشيط الإيجارات    10 نصائح للطلاب تساعدهم على تحصيل العلم واستثمار الوقت    3 وزراء يشاركون فى مراجعة منتصف المدة لمشروع إدارة تلوث الهواء وتغير المناخ    موعد انعقاد لجنة قيد الصحفيين تحت التمرين    رئيس الأغلبية البرلمانية يعلن موافقته على قانون المنشآت الصحية    مساعدون لبايدن يقللون من تأثير احتجاجات الجامعات على الانتخابات    وزيرة الهجرة: مصر أول دولة في العالم تطلق استراتيجية لتمكين المرأة    متى تبدأ العشر الأوائل من ذي الحجة 1445 وما الأعمال المستحبة بها؟    أكبر مدن أمريكا تفتقد إلى الأمان .. 264 ألف قضية و4 آلاف اعتداء جسدى ضد النساء    ياسر إبراهيم: جاهز للمباريات وأتمنى المشاركة أمام الترجي في مباراة الحسم    حجازي يشارك في فعاليات المُنتدى العالمي للتعليم 2024 بلندن    ياسين مرياح: خبرة الترجى تمنحه فرصة خطف لقب أبطال أفريقيا أمام الأهلى    ضبط 100 مخالفة متنوعة خلال حملات رقابية على المخابز والأسواق فى المنيا    مدينة مصر توقع عقد رعاية أبطال فريق الماسترز لكرة اليد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 19-5-2024    سعر السكر اليوم.. الكيلو ب12.60 جنيه في «التموين»    ولي العهد السعودي يبحث مع مستشار الأمن القومي الأمريكي الأوضاع في غزة    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    حقيقة فيديو حركات إستعراضية بموكب زفاف بطريق إسماعيلية الصحراوى    إصابات مباشرة.. حزب الله ينشر تفاصيل عملياته ضد القوات الإسرائيلية عند الحدود اللبنانية    بعثة الأهلي تغادر تونس في رحلة العودة للقاهرة بعد التعادل مع الترجي    مدرب نهضة بركان: نستطيع التسجيل في القاهرة مثلما فعل الزمالك بالمغرب    عماد النحاس: وسام أبو علي قدم مجهود متميز.. ولم نشعر بغياب علي معلول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجسد والسياسة
نشر في أخبار الأدب يوم 21 - 06 - 2014

تحاول الباحثة مريم وحيد في دراستها الهامة " الجسد والسياسة" الغوص في أعماق الدور السياسي للجسد وقيمته السياسية خاصة بالتطبيق علي حالة ثورة 25 يناير المصرية. وعمدت الدراسة إلي التأصيل للجسد كوحدة للتحليل السياسي، والجسد هو الجانب العضوي من الوجود الإنساني فالجسد جوهرٌ واحدٌ ولكن الرؤي تختلف بإختلاف المنظور العلمي، فهناك الجانب الإجتماعي، الثقافي، الإقتصادي، السيكولوجي، الطبي، السلوكي.
وتقوم الباحثة بدراسة مستويين في تعريف الجسد، المستوي الأول: الجانب المادي لجسد الفرد والمستوي الثاني: الجسد المعنوي المتمثل في "المجتمع كجسد" و"الدولة كجسد"، متناولةً تجربة إنتهاك الجسد الفردي ما قبل الثورة ومحاولة تحرره مع الثورة التي مرت بها الدولة. وتركز الدراسة مفهوم الجسد في الثورة المصرية. فقد لفت النظر أثناء الثورة أن المتظاهرين لم يهتموا باختلافاتهم الجسدية بل إنهم تضامنوا وتلاحموا جسداً واحداً وهو ما يمكن تسميته بالجسد المجتمعي وجسد الأمة وجسد الدولة وجسد الفكرة والهدف السياسي. فكان أن تلاشت الاختلافات بين كبير وصغير وذكر وأنثي ومحجبة وغيرمحجبة، ومسلم ومسيحي وليبرالي ويساري وإسلامي وتوحد كل هؤلاء في كيان واحد أو جسد واحد يسعي بإرادة واحدة إلي هدف واحد هو القضاء علي الظلم والاستبداد. وقد نجح ثوار يناير في تحقيق الكثير من أهدافهم عندما ضحوا ب "الجسد البشري - الفرد" من أجل "الجسد المجتمعي - المعنوي". فصار الشهيد رمزاً وقيمة لكافة المتظاهرين بل ولكل المواطنين المصريين أيضا، كما صار لزاماً علي الجميع مواصلة النضال لتحقيق الهدف الذي ضحي من أجله الشهيد بدمه. وهكذا صار الجسد (الميت) ملهماً للثورة. وكانت جذوة الثورة قد اشتعلت من موقع "كلنا خالد سعيد" علي شبكة التواصل الاجتماعي. حينذاك لم يكن الكثيرون من هو خالد سعيد نعرف أنه تم تعذيبه علي يد قوات الداخلية، فكانت الثورة من أجل عدم امتهان الانسان المصري بالتعذيب. هنا فصل من هذه الدراسة الهامة.
اقترب أرسطو من تحليل الثورة من منظور الجسد حين صوّر الثورة بالنسبة لدولة المدينة بأنه مرض يصيب جسد الإنسان. ويتنازع تحليل الثورات وجهتا نظرٍ، إحداهما مادية والأخري معنوية متجاوزة، الأمر الذي نجده في رؤية جان بول سارتر التحليلية للثورات.
ففي كتابه "المادية والثورة" يؤكد سارتر علي أنه عند النظر إلي الثورة وتحليلها يوجد تنازع بين رؤيتين فلسفيتين أساسيتين وهي الجانب المادي والجانب ما فوق المادي أو البعد المتجاوز. ويتساءل سارتر: هل يمكن تفسير الثورة ماديا؟
يقول سارتر: "لا يريد الثوري الذي يعيش الاضطهاد في لحمه وفي كل حركة من حركاته إطلاقاً أن يقلل من شأن العبودية التي تُفرض عليه أو أن يتسامح في أن النقد المثالي يبددها في شكل أفكار. وهو يعارض في نفس الوقت حقوق الطبقة ذات الامتيازات ويهدم نفس الحركة فكرة الحق عموما. وسيكون من الخطأ الاعتقاد كما يفعل الماديون بأنه يقوم بذلك ليحل محلهم بحكم الواقع. والحدث الثوري يعلو علي تعارض المادية من تفكك المجتمع لا من بناء مجتمع جديد." كما قال "إن الثوري يتخطي الحاضر ويتجاوزه بالقاء نفسه إلي الأمام وبالاشتباك في المشروعات. " وذكر أيضاً حول تحليله لشخص الثوري أن "الثوري يحتل مكاناً مميزاً باختياره نفسه للثورة إذ أنه لا يناضل من أجل الاحتفاظ بالطبقة مثل المناصرين للأحزاب البرجوازية ولكن من أجل محو الطبقات. وهو لا يقسم المجتمع إلي رجال ذوي حقوق مقدسة وآخرين طبيعيين أو من يسمونهم بالألمانية تحت الآدميين بل يطالب بتوحيد الفئات البشرية والطبقات أو في اختصار بوحدة كل البشر."
كما يري سارتر أن "الرجل الثوري رجل متموضع ومن الواضح أننا لا نعثر عليه إلا بين المضطهدين لكن لا يكفي أن يكون المرء مضطهداً كي يكون ثورياً، فأغلب المضطهدين يقعون في صميم الطبقة البرجوازية وبما أنهم يتقاسمون الطبقة التي تضطهدهم الامتيازات فهم لا يستطيعون التمهيد لهدم هذه الامتيازات دون تناقض." نستخلص من ذلك أن سارتر يري أنه من الخطأ الاعتقاد كما يفعل الماديون بأن الثائر يقوم بثورته من أجل أن يحِل محل الطبقة ذات الامتيازات بحكم الواقع البحت البسيط. فكما يقول سارتر "الثوري يتخطي الحاضر ويتجاوزه بإلقاء نفسه إلي الأمام. وهنا يكون ضحية اضطهاد حقيقي يتخلص منه بأفعال حقيقية مثل الدم والعرق والألم والموت."
وهناك رؤيتان أخريان متعارضتان تناولتا موضوع الثورة، إحداهما تتبع المنهج الفردي بينما تتبع الأخري المنهج الجماعي. فقد انتقل التحليل العلمي للثورة من اعتبار التغير في البنية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية هو سبب نشوء الثورة كما هو الحال في تحليل الثورات الأوروبية الكبري إلي إعتبار الفرد - الإنسان هو العنصر المؤثر في صنع الثورة وهو ما تجلي بوضوح في ثورة 25 يناير المصرية.
فالدراسات السابقة للثورات كانت تركزعلي الإقترابات البنائية والتفسيرات الماركسية للثورة حين أكدت علي دور الصراع الطبقي في اندلاع الثورات مثلما تبدي في تحليل الثورة الإنجليزية عام 1640 والثورة الفرنسية عام 1789 والثورة الروسية عام 1917. لكن هذا التحليل كان قاصراً عن تفسير اندلاع ثورات أخري لم يكن محركها الأساسي هو الصراع الطبقي مثل الثورة الإيرانية 1979 والفلبينية عام 1986 وغيرها من الثورات، فظهرت أجيال جديدة في الدراسات المفسرة للثورات تركز علي عوامل آخري مثل الأيديولوجيا والثقافة ودور الحركات الإجتماعية.
تحليل الثورة الفرنسية من منظور الجسد
نشأ في فرنسا وضع جديد غير مسبوق في تاريخها مع الحكم علي لويس السادس عشر بالإعدام في السابع من يناير سنة 1793 م وفصل جسده عن رأسه بعد صدور الحكم بإسبوعين، فنصل المقصلة الذي فصل رأس الملك عن جسده فصل في نفس اللحظة رأس الدولة عن باقي الجسد السياسي وصار الشعار المقدس في فرنسا وقتها هو تحقيق وحدة الوطن وتكامل الجمهورية في كلٍ لا يتجزأ وهو شعار لم يقدم إجابة بقدر ما كان يطرح سؤالاً عن "كيف يمكن لدولة عظمي، غير خاضعة لحكم فرد واحد أن تحقق وحدتها وتكامل جسدها السياسي؟"
ومن أبرز المؤرخين والكتاب الفرنسيين الذين قاموا بتفسير وتحليل الثورة الفرنسية كان جولز ميشيليه الذي صاغ رؤية متأثرة بالفكر الدارويني تتلخص في أن الجسد السياسي لا يمكنه أن يحيا دون تحقيقه لوحدة العناصر المكونة له، فقد عقد ميشيليه مناظرة وظيفية بين الجسد السياسي والجسد البيولوجي بعد أن فاضل بين الإنسان - وهو الكائن الأرقي - الذي إذا انقسم جسده مات، وبين الكائنات الأقل رقياً وتطوراً التي يمكنها أن تبقي حية إذا ما قُطِع جسدها. وهذا التناظر الوظيفي - بغض النظر عن دقة الجانب البيولوجي فيه - جعل ميشيليه يقيم عليه مقياساً يقيس به ارتقاء الجسد السياسي وانحطاطه، وصوّره بطريقة مماثلة لارتقاء الكائنات الحية وانحطاطها، فكلما ارتقي الجسد - وفقاً لرؤية ميشيليه - كلما ارتبطت حياته بتحقق عناصر الوحدة فيه، وكلما كان الجسد قادراً علي مواصلة الحياة دون هذا العنصر كلما كان جسداً منحطاً علي سُلُّم تطور الكائنات، وهي نفس الرؤية التي طبقها ميشيليه علي قياسه لتطور وإرتقاء الجسد السياسي. وقد وظّف ميشيليه النظرية الداروينية توظيفاً بارعا في تفسير المناخ الذي ساد الأوساط الثورية الفرنسية خلال الفترة التي أعقبت إعدام لويس السادس عشر سنة 1793 م، اذ كانت ترفض هذه الأوساط كليةً فكرتي الوحدة الملكية والوحدة الفيدرالية، ففكر الوحدة الملكية - كما رأت بعض التيارات الثورية - تعتبر غطاءً لتفكك حقيقي، بينما لم تكن الثانية - من وجهة نظرهم - إلا صيغة لتفرقة متفق عليها. هذه الصيغة أو تلك كانت تعني لهم أما موت الجسد السياسي أو إنحداره لمرتبة الكائنات التي لا تحتاج الوحدة كعنصر لا تقوم حياتها إلا به.
ففي الفترة السابقة للثورة كانت الوحدة ظاهرية وهي الوحدة التي كان تمنحها الملكية للجسد السياسي، إلا أنه في باطنه يماثل نموذج الوحدة الفيدرالية في ضعفه وفي تنافر مكوناته، فهو يظل في حقيقته دائماً - من وجهة نظر ميشليه - فيدرالية فجة، فالجسد السياسي كان مريضاً ومضطرباً بسبب تدهور الأحوال الإقتصادية والإجتماعية والسياسية.
ومع استمرار رفض الثورة للنموذج الملكي وللنموذج الفيدرالي كنموذجين يستهدفان وحدة الجسد السياسي فإن قادة الثورة لم يقدموا نماذج بديلة لتحقيق وحدة هذا الجسد، واكتفي روبسبيير بترديد الدعوة لضرورة أن تكون هناك إرادة واحدة لهذا الكائن السياسي الذي فشل دائماً في العثور عليها علي مستوي التنظير.
إن الكلمة الفرنسية "Révolution" التي نترجمها الي "ثورة" بالعربية تحمل في جذورها الإشتقاقية معني الدائرية إذ تطلق علي دورة الكواكب حول الشمس فأي بناء حضاري يعقبه فترة إنحلال وفوضي تمهيداً لقيام حضارة جديدة وهو ما يمكن التعبير عنه في كلمة الثورة. فالجسد السياسي الذي تحلل لابد أن يحل محله جسد آخر. وقد كان بناء نظام سياسي جديد هو التحدي أمام منظري الثورة الفرنسية الذين توصلوا إلي حلٍ في النهاية وهو الوصول إلي الفلسفة الإنتقائية التي تفترض بأن الإرادة الجمعية لا تتكون حقيقتها إلا بتلاشي الإرادات الفردية، فتأتي هذه الإرادة الجمعية تعبيراً عن سيطرة مبدأ عقلي واحد يوجه سلوك المفردات نحو القيمة الإنسانية المثلي التي تملك كل مفردة من مفردات المجتمع جزءاً من أجزائها، ولا يكون لهذا الجزء قيمة بذاته وإنما باجتماعه مع باقي الأجزاء التي يملك كل فرد في المجتمع جزءاً منها، فكأن هذا الكل هو حل لغز الطبيعة الإنسانية التي لا يملك الفرد الواحد بمفرده حل لغزها. فتكون الإرادة الجمعية هنا أمر لابد منه.
لقد نشأ خطأ الثورة إذن - من وجهة المدرسة الفلسفية الانتقائية -عن تجاهل هذه الانتقائية، واللجوء إلي هدم الآخر للانتصار لحقيقة إنسانية ناقصة، لا إلي التكامل معه لتأسيس حقيقة إنسانية يرسم كل أفراد المجتمع ملامحها، وهو خطأ كان يري "فيكتور كوزان" ضرورة أن تتصدي له فلسفة القرن التاسع عشر بالتركيز علي قيمة "التكامل الإنتقائي" بعد أن كان التركيز في فلسفة القرن الثامن عشر علي قيمة "الهدم الراديكالي".
وقد كانت قوة الملك "لوي فيليب" الحقيقية تكمن في أنه لم يكن يمثل في الحقيقة أياً من الطوائف المتنافرة التي شكلت الجسد السياسي الفرنسي في ذلك الوقت. لكن هذا النوع من القوة يتحول سريعاً إلي ضعف إن لم يجد أساساً فلسفياً ونظرياً يبرر شرعية الحكم. فبدأ لويس فيليب في ترويج الفلسفة الانتقائية ولكن بعد أن صاغها في فكرة الوسط العادل التي تقول بأن التعايش بين القوي السياسية الفاعلة في المجتمع إنما يقتضي الاعتدال وقبول الأطراف المتناحرة لمبدأ الالتقاء عند نقطة محايدة لا تنحاز لأي من هذه القوي، وتمثل في نفس الوقت نقطة التوازن التي تنشأ عندها إرادة جمعية يقبلها الجميع للتعبير عن إرادتهم حتي وإن كانت هذه الإرادة المحايدة لا تطابق أيا من الإرادات المنفردة.
وقد حدث هذا في الثورة المصرية وهو ما يتجلي فيما شهدناه من انشقاقات وتفكك للجسد الثوري في الفترة التالية للثورة الذي كان أمراً طبيعياً إذا ما نظرنا علي سبيل المثال إلي ما حدث في الثورة الفرنسية. فمن الخطأ تصور أن جسد "حسني مبارك" كان هو الذي يحافظ علي الوحدة والاستقرار وإن بدا لنا ذلك، فهذا الجسد الفردي ممثلاً للجسد السياسي أو الدولة كان يحمل كل الأمراض المجتمعية والسياسية والاقتصادية. ولكن هذا لا ينفي بالقطع ضرورة أن يكون لدينا قيادة قادرة علي تجاوز تفكك الجسد الذي تعيشه الأمة المصرية طوال عام ونصف من بداية الثورة ولابد أن يتخذ ذلك شكل فلسفة إنتقائية كما قام لويس فيليب قبل قرون كثيرة مضت.
الجسد موضوعاً للسلطة: التعذيب والسجن والموت
" يمكنك أن تقيدني، يمكنك أن تعذبني، يمكنك حتي أن تقوم بتدمير هذا الجسد، ولكنك لن تنجح أبدا في احتجاز ذهني "غاندي
كثيرٌ من الناس يفضلون التضحية بذواتهم بالموت أو السجن أو التعذيب من أجل المباديء والقيم والمثل العليا ويرون أن السجن وتقييد الحرية في هذه الحالة وسام شرف للرجال. وها هي السلطة في كل زمان ومكان تعمل علي تعذيب الجسد وسجنه وتهديده بالموت أو حتي إفنائه ولكن الثوار يستمرون في نضالهم ضد السلطة فعند وجود غاندي في السجن كان سحر رسالته يسري في قلوب ملايين الهنود الرجال والنساء.
ولطالما تَرَفّع الرسل والأولياء الصالحين عن الجسد وملذاته وتحملوا أقصي أنواع العذاب الجسدي والسجن مثل سيدنا عيسي وسيدنا يوسف، عليهما السلام.وقد أشار إلي ذلك القرآن الكريم في قوله تعالي علي لسان سيدنا يوسف. }قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) {سورة يوسف: الآية 32).
وعلي النقيض من التصور الديني الذي كان يفرض قيوداً علي الجسد بدافع حماية الجسد والحفاظ عليه من أجل السعادة الدنيوية والثواب الأخروي، نجد أن السلطة داومت علي وضع القيود علي الجسد الإنساني بدافع الحفاظ علي الجسد السياسي للدولة. وقد اتخذ تحكم السلطة في أجساد المواطنين أشكالاً شتي بدءاً من تنظيم النسل إلي التعذيب إلي اتخاذ قرار بضرورة إفناء جسد مواطن بعينه بدافع كونه تهديداً لكيان الدولة.
والجسد يكون موضوعاً للسلطة بصور عديدة إبتداءً من التأديب والتحكم، كما ارتأ ميشيل فوكو في كتابه "ميلاد السياسة الحيوية" حين ركز حول كيفية تحكم السلطة في تنظيم النسل والتحكم في الحياة والموت وفي هذا تطرق الكاتب إلي كيفية تحكم السلطة في السكان والمواليد وصحة السكان والنسل. وهنا نري التداخل بين الحياة الخاصة والحياة السياسية والإجتماعية العامة فتتحكم الدولة في الحياة الخاصة للمواطنين. وهنا نري التداخل بين العام والخاص الذي يشكّل محور الدراسات النسوية.
وقد عملت السلطة السياسية في كل زمان ومكان علي التحكم في الجسد الإنساني وزرع الخوف وفي الدولة التي يمكن أن تسمي بجمهورية الخوف تغيب حرمة الجسد فتقوم الدولة علي إستعراض شجاعتها بإيذاء الجسم.
وفي أحيان كثيرة استهدفت السلطة الجسد بتعذيبه وليس إفنائه نهائياً، فالموت حالة من التحرر من أسر الجسد بينما التعذيب يكون أقصي حالات انتهاك الجسد والرغبة في عدم وجوده، حينذاك يكون الجسد عائقاً أمام الإنسان في سبيل تطبيق فكرته من خلال أسر جسده. فالسلطة عندما تريد قمع فكر مغاير تسجن صاحب هذا الجسد الذي يطرح الفكر وتعذبه لإشعاره بمزيد من الألم في عدم قدرته علي البوح بأفكاره.
ولعل آثار انتهاكات الجسد شتي في العالم أجمع من سجن أبو غريب إلي جوانتنامو وغيره من سجون المعتقلين السياسيين حول العالم.
وفي العصر الحديث قامت السلطة بممارسة كافة أشكال التعذيب الجسدي علي المواطنين علي الرغم من تصور الإنسان الحداثي بأنه سيتحرر من كافة قيوده، فبعد أن تصور تحرره من أسر الدين والمجتمع إذا به يواجه أسر أكبر وهو أسر الدولة القومية.
وتتنوع الرؤي حول ما إذا كانت الحداثة قد زادت من وطأة التعذيب، فعلي العكس من الرؤية التي تقول بأن الحداثة زادت من التعذيب - من حيث درجته ووطأته - نجد رؤية أخري تذهب إلي أنه مع الحداثة تم التقليل من العقاب البدني، ففي روسيا يري كثير من المحللين أن الدافع وراء إلغاء عقوبة التعذيب كان تطور أفكار العدالة والمساواة والنزعة الإنسانية الليبرالية كما عرضها مفكرون من أمثال سيزار بيكاريا ولوك ومونتسكيو فأعتبر العقاب الجسدي بربرياً ومخالفاً للعصر. ويري "طلال أسد" أن مشكلة مفكري التنوير في تناول التعذيب لم يكن قسوة أو لا إنسانية العقاب الجسدي بل مسألة قياس مدي الألم. فقد اعتبر مفكرو التنوير أن الألم غير إنساني بسبب عدم قابليته للقياس نظراً لأنه من الصعوبة مقارنته أو إعتبار أنه يؤثر علي الناس بالتساوي وبالتالي اعتبر التعذيب غير مناسب لتطبيق مباديء العدالة. وعلي النقيض من ذلك إعتبر "طلال أسد" - متأثرا بفوكو - أن السجن أكثر مساواة لأنه يقوم علي مبدأ فلسفي يعتبر الحرية حالة طبيعية.
وفي دراستها المهمة حول التعذيب والحرب "الجسد المتألم: تشكل وكشف العالم" تشير ألين سكاري إلي أن حلم الدولة القومية هو السيطرة علي المواطنين من خلال الاعتداء علي جسدهم. وتري أنه في فترات ضعف النظام السياسي وعدم استقراره يتم اللجوء إلي التعذيب. ورغم أن الألم يكون داخل جسد الانسان إلا أن السلطة تُظهِر ذلك أمام الجماهير - من هم خارج جسد هذا الشخص - ليكون رادعاً لهم وهو ما يسمي الألم المجسد الذي يُصبِح فيما بعد مصدراً من مصادر قوة الدولة. وتقول سكاري أن التعذيب مشهد من مشاهد القوة التي تدمر العالم فالعالم والذات والصوت يتم فقدهم أو يوشكوا علي الفقدان من جراء ألم التعذيب.
وتوضح "سكاري" شكل نظام التعذيب الذي يتضمن إلحاق الألم بالجسد بممارسة العذاب العقلي أو الذهني والإستجواب مشيرةً إلي أن قلة الشرعية السياسية للنظام السياسي وفي غياب ميكانيزمات وآليات التحكم الداخلية للنظام، يلجأ النظام بصورة أوسع إلي الإرهاب والتعذيب الجسدي والتهديد بالتعذيب للحفاظ علي التحكم والقوة. فلا تهتم الأنظمة التي تمارس التعذيب بمفهوم الكرامة الإنسانية. هنا يُعرّف النظام بعض الجماعات بأنها لا تستحق تلك الكرامة، وهذه السلطة تتبع نظاماً نفعياً يبرر لها التضحية ببعض الأشخاص من أجل الصالح العام.
و يمكن أن نري أن زيادة معدلات الخوف في الجسد الاجتماعي يكون في إطار محاولة إكراه الناس علي الصمت والطاعة والخوف من مواجهة الوضع الحالي للنظام الرأسالمي المهيمن العنصري الذي يفضل جنس علي جنس. والخوف هو الخطاب الفوقي الذي يحكم الجهاز الضبطي للدولة القومية (الشرطة، مؤسسة الهجرة، الجيش، المدارس).
فيقول ميشيل دو سرتو (Michel De Certeau) ):أنه لا يوجد قانون لا يطبق علي الأجساد فكل قانون لابد أن يطبق علي الجسد، ولابد من آلية لفرض السلطة علي الجسد تقوم عليها قوات الشرطة علي سبيل المثال.
إن المعاملة البربرية الإستثنائية للبشر ليست جديدة علي البشرية، فالتاريخ الإنساني مفعم بالمحاولات المبتكرة لإلحاق الألم بأجساد البشر. وعلي الرغم من الادعاءات العامة للحكومات العالمية بتقديس الجسد والحفاظ علي حقوق الإنسان بما يعني أن تعذيب الجسد محرم ومحظور (Taboo) لكن الواقع يشير إلي أن الحكومات تنتهك البشر وتعامل أجسادهم كسلعة. وهذا الاهتمام بحقوق الإنسان وتقديس جسد الإنسان نجده في البيانات العالمية وتقارير عدد كبير من جمعيات حقوق الانسان العابرة للقومية خاصة في السنوات الماضية.
لكن ما هو التعذيب؟ إن التعذيب يهدف إلي إلحاق ألم شديد كأسلوب للعقاب والإكراه. لكن التعذيب في النهاية يدمر الإنسان وأحياناً ما يبتعد عن الهدف الأساسي من العقاب علي سبيل المثال وهو تهذيب الإنسان.
إن كتابات الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو تشير إلي محاولة فهم التهذيب والمراقبة والعقاب والتعذيب، فقد أوضح فوكو كيف يُعامَل الأفراد كأشياء وكيفية إخضاعهم من خلال أساليب للمراقبة والعقاب وكيف تعمل السلطة علي قولبة الأفراد (Uniformity) في المجتمعات الحديثة من خلال عدد من المؤسسات.
ويُعد فوكو من أكثر المنظرين السياسيين الذين أفردوا للجسد مساحة في أعماله ويتضح في أعماله التمييز الواضح بين ممارسة السلطة علي الجسد في النموذج السيادي - من خلال القمع- وبين ممارسة السلطة في إطار النموذج الحداثي / الإنضباطي - الذي يقوم علي التوظيف / التمكين - فيقول إن "الجسد هو أيضا غاطس ضمن حقل سياسي، فعلاقات السلطة تعمل فيه عملاً مباشراً، فهي توظفه، وتُطبعه، وتقومه، وتعذبه، وتجبره علي أعمال، وتضطره إلي احتفالات، وتطالبه بدلالات. هذا التوظيف (الإستثمار) السياسي للجسد مرتبط، وفقاً لعلاقات معقدة ومتبادلة، باستخدامه اقتصادياً، وإلي حد بعيد، كقوة إنتاج، يزود بعلاقات سلطوية وبسيطرة، ولكن بالمقابل فإن تكوينه كقوة عمل لا يكون ممكناً إلا إذا اعُتبر ضمن نظام إستبدادي (تكون فيه الحاجة أيضاً أداة سياسية حسنة التنظيم، محسوبة بعناية ومستخدمة بعناية)، ولا يصبح الجسد قوة نافعة إلا إذا كان جسداً منتجاً وجسداً مسترقاً في آنٍ واحد.
ولكن هذا الاسترقاق لم يحدث فقط باستخدام وسائل كالعنف والأيديولوجيا. فالإسترقاق يمكن أن يكون مباشراً تماماً، جسديا ً، يستخدم القوة ضد القوة، ويتناول عناصر مادية، ومع ذلك لا يكون عنيفاً، قد يكون محسوباً، منظماً، مدروساً من الناحية التقنية، وقد يكون لطيفاً مرهفاً، لا يستخدم لا الأسلحة ولا الإرهاب، ومع ذلك يبقي ضمن الإطار الجسدي. أي أنه قد تكون هناك (معرفة) بالجسد ليست هي بالضبط علماً وظيفياً لكيفية عمله، وتحكماً بقواه هو أكثر من القدرة علي التحكم بها: هذه المعرفة وهذا التحكم يشكلان ما يمكن تسميته التكنولوجيا السياسية للجسد."
ويشير فوكو أيضاً إلي تاريخ التعذيب في الدول الأوروبية في القرن الثامن عشر ويوضح دلالته السياسية فيقول "يجب تصور التعذيب كما هو مرسوم في القرن الثامن عشر كعامل سياسي. فهو يدخل منطقياً ضمن نظام جزائي يطلب فيه العاهل، مباشرة أو غير مباشرة، ويقرر، ويأمر بتنفيذ العقوبات، بمقدار ما أصيب هو بذاته، عبر القانون، بالجريمة. في كل مخالفة، توجد جريمة ضد الملك، ويوجد في أقل المجرمين شأنا قاتل للملك بالقوة. وقاتل الملك، بدوره، لا يقل شأنا عن المجرم الكامل والمطلق. إذ بدلاً من أن يهاجم - كأي جانح - قراراً أو إرادةً خاصة بالسلطة العليا، فهو يهاجم المبدأ في الشخص الجسدي للأمير والعقوبة المثالية لقاتل الملك، يجب أن تجمع كل العذابات الممكنة."
وقد بيّن فوكو تغير نهج العقوبة في العالم الأوروبي، فقد تحولت العقوبة من المشهد العلني حيث يكون الجسد هو موضوع التعذيب بالفعل إلي فكرة العقوبة التي تُنشِئها الذات وتُصبِح في حد ذاتها رادعة.
وعن نشأة السجن يقول فوكو بأنه تم إنشاء السجن والإعتقال كآليات رقابية جديدة بديلة للتعذيب أو مكملة له من أجل التخفيف من حدة التعذيب وذلك بعد انتقادات معظم الفلاسفة والمؤرخين والقانونيين الحقوقيين لذلك مما أحدث تحولاً من التعذيب إلي المراقبة. فالعقابية الجديدة تقوم علي الانضباط اللا محدود والاستجواب الذي ليس له نهاية، فالسجن الانفرادي علي سبيل المثال فيه تعاقبات للوقت دقيقة مقطعة وفيه عمل اجباري ومراكز مراقبة وتسجيل درجات من قبل مشرفين. فيُصبِح الإنضباط هنا هو الوسيلة التقنية التي بها تتقلص قوة الجسم، وبتكاليف أقل - كقوة سياسية. وقد أشار فوكو أيضا إلي أن نمو الإقتصاد الرأسمالي اقتضي وجود نمطية نوعية مخصوصة للسلطة الإنضباطية والتشريح السياسي الذي يتم بإختصار عبر نظم سياسية وعبر أجهزة أو مؤسسات متنوعة جداً.
وقد وصف فوكو غضب السجناء تجاه جسد السجن عندما تحدث عن ثورة السجناء علي السجن فقد اندلعت ثورة لأجساد السجناء ضد جسد السجن في القرن العشرين من جراء ممارسات التعذيب في مطلع القرن التاسع عشر، وتمثلت الثورة في حركات العصيان ضد البرد وضد الإختناق والتكديس وضد الجدران البالية وضد الجوع وضد الضرب وضد أيضا السجون النموذجية وما يتم داخلها من ممارسات فكانت الثورة ضد المهدئات وضد العزلة وضد الخدمة الطبية. و قد اختلفت السجون وتقنيات وميكانزمات التعذيب بإختلاف المكان، فمفاهيم المؤسسة القمعية والرمي والإبعاد والتهميش ليست ملائمة في وسط المدينة الإعتقالية بالذات، ومن أجل ذلك تم طرح ممارسات مختلفة تعمل علي ضبط الجسد.
الحق في سلامة الجسد (في مصر)
إن الحق في سلامة الجسد هو واحد من أهم حقوق الفرد فهو يتضمن الحق في الحياة والعمل وحرية الحركة. فالحق في سلامة الجسم من الحقوق اللصيقة بشخص الإنسان اذ يتعلق بالكيان المادي للإنسان، فالجسد هو مهبط الروح ومصدر جميع أنشطة ومظاهر حياة الانسان وحتي يضطلع الإنسان بدوره في الحياة فلابد أن يُصان حقه في عصمة جسده. وسلامة الجسد بلا شك ترتبط بسلامة العقل فلا يمكن أن يعمل الإنسان بدنياً دون ذهن صافي فوظيفة التفكير مرتبطة بسلامة الجسم.
وقد نص "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية" في مادته السابعة علي أنه "لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهدرة للكرامة، وعلي وجه الخصوص، لا يجوز إجراء أية تجربة علمية أو مادية علي أحد دون رضاه الحر."
كما أنه هناك خصوصية للجسد، فالجسد هو أحد مكونات الذات، والإنسان يعبر عن غضبه عن طريق الجسد بالصوت والحركة وتعبيرات الوجه. ولا يمكن للخاضعين للسيطرة الجسدية من قِبل الدولة أن يحتفظوا بذاتيتهم بينما الجسد يتم إخضاعه وتعذيبه.
أما انتهاك الجسد فإنه يأخذ أشكالاً متعددة وقد يمتد ذلك إلي الحياة الخاصة أو العامة وقد يصدر الانتهاك عن أشخاص منوط بهم توفير الحماية والأمان للإنسان. والأخطر من ذلك هو اعتداء السلطات العامة فذلك الاعتداء يعتبر خارج كل منظومة القيم الفكرية والفلسفية والدينية والمجتمعية التي تحث علي تكريم الإنسان والإعلاء من الكرامة الإنسانية.
ويُعد فصل الاعتداء الجسدي عن أثره النفسي أمراً صعباً، فعملية الإعتداء ذاتها وإن اتخذت شكل العدوان المباشر علي الجسم، إلا أنها في الوقت ذاته تولد الإحساس المرير بالإهانة والعجز، والعجز عن حماية النفس أمام ممثل لسلطة أقوي من قدرة الإنسان علي ردعها.
ومن الآثار التي تنجم عن التعذيب: إضطرابات بالقلب والدورة الدموية، التغير في بعض سمات الشخصية حيث يفقد غالبية الضحايا ثقتهم بأنفسهم وبالآخرين ويميلون للعزلة والوسوسة وضعف القدرة علي المبادرة، أما أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً فهو إكتئاب ما بعد الصدمة والذي يتمثل في فقدان القدرة علي الإستمتاع بأي من ملذات الحياة والشعور بالذنب والإحساس بالعجز وفقدان الأمل في المستقبل.
وعلي الرغم من احتواء دستور 1971 علي بنود عديدة تفرض احترام الجسد ومنها المادة (42) التي نصت علي أن "كل مواطن يُقبض عليه أو تقيد حريته بأي قيد تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز إيذائه بدنياً أو معنوياً". أما المادة (57) فقد شدّدت علي تجريم التعذيب بوصفه جريمة لا تسقط بالتقادم حيث جاء نص المادة كالتالي: "الدعوي الجنائية أو المدنية الناشئة عن التعذيب لا تسقط بالتقادم."
إلا أنه بالرغم من هذا فقد اُرتكب عدد كبير من جرائم التعذيب نتيجة لبعض العوار في المواد الدستورية مثل المادة (126) التي تهتم بجرائم التعذيب التي تحمل المتهمين علي الاعتراف وتجرمها ولكنها لا تهتم بالتعذيب في غير حالة الحمل علي الإعتراف.
وعن العنف الذي استشري في المجتمع المصري نطرح تساؤل: "هل هو ثقافة لا نستطيع التخلص منها أو أن الطرف الأقوي في المعادلة يحرص علي الإستمرار فيها؟ أم أن المواطنين المقهورين بسيف الجلاد ينتقمون بعنف لما آل بهم ويوجهون العنف لأطراف أضعف منهم؟ أم أن غياب التحقق يجعل الذات للمقهورة تنسي قيمة الإنسانية وتتعامل مع بعضها البعض بمنطق الغاب؟
وبعيداً عن عمليات التعذيب، فإنه يمكننا أن نلمس في الواقع المصري - قبل الثورة - آثاراً لآليات وعمليات الضبط Discipline) التي تتبعها السلطة والتي تظهر علي جسد المواطن الفرد، فدوماً ما اهتمت السلطة بالمظاهر والرموز التي تعبر عن السلطة وهنا يتم تشكيل الأجساد حاملة السلطة، فعندما يتشبع الشخص البسيط والطبيعي والمتواضع بالسلطة يبدو جسده وكأنه يأبي التواضع ويتباعد عن كل ما هو طبيعي فيُسرِع الخطا مشياً لكي يتقدم كافة الأجساد ويسبقها ويحتفظ بمسافة بينه وبين الأجساد الأخري ويسعي دائماً نحو لمع البريق.
الجسد في الأدب السياسي
كان دوستويفسكي أبرع من عبرعن التجربة الجسدية التي يمر بها السجين وقد عاش الأديب العظيم هو نفسه تجربة السجن القاسية. وقد سجّل هذا في مذكرات ظلت حبيسة لمدة طويلة لدي أحد موظفي مستشفي السجن. كتب دوستويفسكي "ذكريات من منزل الأموات" ما بين عامي 1860و1861 وفيها يتحدث عما عاناه في السجن وإن نسب هذه المذكرات إلي رجل سماه "ألكسندر جوريانتشكوف" إلا أن هذا التمويه لم ينطل علي أحد. وقد حرص دوستويفسكي علي تأمل نفسية الجلاد وانتهي إلي تلك النتيجة وهي أن أفضل الناس يمكن أن يقسو قلبه بتأثير العادة فيصبح حيواناً كاسراً، فالدم والسطو يُذهبان العقل فيوّلدان التوحش والشذوذ والفساد، كما يؤكد ديستويفسكي علي أن بذور الغرائز البهيمية موجودة قريباً في جميع معاصريه من الناس.
كما تحتل مشكلة الذنب والجريمة والعقاب مكاناً كبيراً في أعمال دوستويفسكي الذي عاني من هذه المشكلة أكثر مما عاناها أي كاتب آخر، حتي لنراه يقول بعد خروجه من السجن بزمن طويل: "لطالما باركت القدر الذي وهب لي معاناة هذه التجربة. لقد كان لهذه السنين الأربع التي قضيتها في السجن فضل كبير عليًَ. وعلي نفسي وإيماني وفكري، إن ذلك كله تبدل تبدلاً عظيماً بفضل هذه التجربة". لقد جعله السجن مؤمناً. لقد رد إليه السجن إيمانه بالله وإيمانه بالشعب الروسي، حتي لقد كتب يقول:" إن الإنسان - أثناء الحسرات التي يحسها في سجن الأشغال الشاقة - يرتوي بالإيمان كما يرتوي العشب اليابس بماء المطر. إنه يجد الإيمان أخيرا: لأن الايمان يظهر في ساعات الشقاء أقوي وضوحاً وأشد سطوعاً". وكتب يقول أيضا: "لعل الإله العلي القدير قد شاء أن يُرسلني إلي هناك حتي أتعلم جوهر الأشياء فأنقل علمي إلي غيري وأبلغه للناس. إن إيمانه قد صفاه العذاب ونقاه." فهكذا إذن قاد العذاب هذا الرجل إلي الإيمان وهو الإيمان النقي الصافي.
ومن أبرز كلماته عن الإنسانية والتعذيب قال: "الإنسان مهما يصغر شأنه ومهما يهبط قدره ومهما تهن قيمته يحب بغريزته أن تُصان كرامته كإنسان. إن كل سجين يعرف حق المعرفة أنه سجين ويعرف حق المعرفة أنه منبوذ ممقوت مكروه، ويعرف المسافة التي تفصل بينه وبين رؤسائه. ولكن لا القضبان ولا الأغلال تُنسيه أنه إنسان فلابد أن يُعامل إذا معاملة إنسانية. "
ويري دوستويفسكي أن اعتياد تحمّل الجَلْد وتَلَقّي العقوبة يساهم في خلق ما نراه لدي بعض السجناء من شجاعة وثبات، فيقول بأن الذين جُلِدوا مرات كثيرة تقسو ظهورهم ونفوسهم، فإذا هم آخر الأمر ينظرون إلي العقوبة علي أنها إزعاج عابر، وإذا هم لا يخشون بعد ذلك شيئا.
و كان لهذا الكتاب (ذكريات من منزل الأموات) أثر سياسي أيضاً، ففي شهر يونيو من عام 1862 بعد نشره للعقوبات الرهيبة التي يمر بها المعتقلون، كتب الجنرال الأمير "نيكولا أورلوف" رسالةً إلي إمبراطور روسيا يرجوه فيها إلغاء العقاب الجسدي الذي وصفه دوستويفسكي في كتابه وصفاً حياً قوياً. فشُكِلّت لجنة خاصة لحل هذه المسألة، وقد كان هناك تياران متعارضان أحدهما ينادي بإبقاء هذه العقوبات والثاني يطالب بإلغائها، إلا أن الأخير تغلّب فصدر قانون 14 ابريل 1863 الذي يلغي هذه العقوبة الرهيبة إلغاءً تاماً.
فصول من كتاب "الجسد والسياسة" يصدر قريبا عن دار العين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.