هل جلست يوما في مقهي "متاتيا" أو مقهي "استرا"! هل طلبت يوما زجاجة بيرة في "جروبي"! إذا كنت من الأجيال التي لم تلحق ببعض هذه الأماكن أو لحقت ببعضها بعد أن عصفت بها رياح المحافظة والتعلق المظهري بالدين، فإن رواية "هنا القاهرة" للكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد ستحملك في رحلة عبر الزمان إلي مدينة أخري غير القاهرة التي نعرفها حاليا إنها قاهرة السبعينات. إنها رحلة في دروب مدينة عجوز تشهد استمرارا بالقصور الذاتية لملامح القاهرة الملكية وسط زحف بطيء لا يكل لمدينة أخري قادمة من الريف، مدينة لا تحب شرب البيرة ولا أغاني أم كلثوم وتفضل عليهما الشيخ كشك. المدينة الجديدة تأكل الأخضر وتحيله إلي يابس، تأكله حرفيا لا مجازيا عبر تحويل الأراضي الزراعية إلي مبان، وهو مارصده عبد المجيد في الربع الأخير للرواية عندما انتقل البطلان للسكن في أحد البيوت التي نمت في ضواحي الجيزة وسط الغيطان وفوقها والتي سرعان ما التهمت الأراضي الزراعية حولها. رواية إبراهيم عبد المجيد تقتصد في أسماء الشخصيات لتفسح المجال للمدينة لتملأ فضاء العمل، فالشخصيتان الرئيسيتان في العمل هما "سعيد صابر" و"صابر سعيد"، وقائدهما في دروب التحشيش بالمدينة هو "عمر إبراهيم" وعندما ينتهي دوره في العمل يسلمه إلي "إبراهيم عمر"، وكذلك هناك صفاء الأولي وصفاء الثانية. شخصيات العمل علي أهميتها تمثل مفاتيح للمدينة أكثر مما تمثل قيما خاصة، فكرية أو روحية، فتفاعلاتهم مع محيطهم يظل ذا قيمة أهم في العمل من "صفاتهم الأصلية". يجمع إبراهيم عبد المجيد في الرواية التي صدرت عن الدار المصرية اللبنانية في 500 صفحة بين عدة أساليب سردية، فبينما يبدأ العمل بتداعي الذكريات فإنه يميل إلي البنية الحكائية المحفوظية، حيث تتطور القصة ببطء وتتجمع الخيوط لتصل إلي لحظة ذروة، لكنها في "هنا القاهرة" ليست لحظة ذروة واحدة بل عدة لحظات تجعل العمل أقرب إلي مدينة ضخمة بعدة ميادين كبري. ويستخدم العمل أسلوب الوصف السينمائي مرارا، فيميل الكاتب إلي وصف المباني والأماكن بصورة مفصلة دون أن يغفل الأصوات والظلال التي تضفي جوا خاصا عليها.. فعل ذلك مع ميدان التحرير وسلمه الحديدي القديم الذي لم يعد موجودا ومع شارع كلوت بك ومع حقول الجيزة التي توشك أن تتحول إلي مبان اسمنتية قبيحة. ولكن عبدالمجيد لا يستسلم لأسلوب واحد، فنجد بين فصل وآخر مشاهد وشخصيات اقرب إلي عالم الواقعية السحرية، فهناك النوبي الباكي الذي يرغب في أن يفسر له الله سبب مظالم العالم، وهناك الغرزة غير التقليدية، التي تغشاها النساء في رأس السنة والعيد والتي تبدو من مستوي ضيوفها وكأنها ناد للمثقفين والفنانين أكثر من غرزة حشيش، وهناك الفتاة لصة الكتب غير المحترفة التي ترافق البطلين إلي منزلها وتبدأ هناك في التخفف من ملابسها، وتبيت في المنزل ثم ترحل صباحا دون أن تسمح لهما أن يمساها أو يعرفا اسمها، وهناك الجدة العجوز في منزل فتاة الليل التي تنتظر أي عابر سبيل يخبرها أي شيء عن نجيب محفوظ. ويبدو محفوظ حاضرا بقوة في العمل، سواء من خلال تأثيره أو شخصه الذي يظهر عدة مرات، ومن خلال حديث الشخصيات عنه، ففي الفصل 12 يقول الراوي: بدأسعيد يحكي لي عن شارع خان الخليلي وشارع المعز قلتله ضاحكا "أعرف الكثير عن الشارعين ولاتنس أني أمضيت رمضان العام الماضي والذي قبله تقريبا هنا"؛ثم قلت له: إن نجيب محفوظ الذي لم أواظب علي لقائه بالأدباء هو السبب الحقيقي لمجيئي إلي القاهرة بما قرأ ته له من أعمال، الثلاثية وخان الخليلي وبداية ونهاية وزقاق المدق، ثم حدثته كيف أنني تجولت هنا كثيرابعد أن ينتهي عملنا كل رمضان في السرادق الذي تقيمه الثقافة الجماهيرية بحديقة الخالدين تقدم فيه فنونها وكنت أتذكرك لماكتبه نجيب محفوظ وأدقق في وجوه الناس علني أري السيد أحمد عبدالجواد أو كمال أو ياسين أو رشدي في خان الخليلي أو عباس الحلو أو حميدة في زقاق المدق. ليس نجيب محفوظ هو الوحيد من سبعينات القرن العشرين الذي يحضر بقوة في العمل، فالرواية تعرج كذلك كثيرا علي عالم اليسار السري، وتظهر عدة شخصيات باسماء أقرب إلي أسمائها الحقيقية، فملامح شخصية "الرفيق الأكبر: عامر فضل عامر" تحيل العارفين بتاريخ اليسار الشيوعي في مصر مباشرة علي شخصية المناضل اليساري النوبي "مبارك عبده فضل"، ولكن رغم هذا التواجد الكثيف لليسار في الرواية فإنها تظل بعيدة عن ذلك النوع من الروايات "النضالية" أو الكارهة لليسار والسياسة عموما، فاليسار في "هنا القاهرة" تائه؛ يحسب أنه يعرف ما يريد ولكنه يرسب في الامتحان عندما يواجه لحظة حاسمة. والبطل اليساري في الرواية- يظهر كذلك مثل حزبه الشيوعي، يظن من الصفحات الأولي للعمل أنه يعرف لماذا قدم إلي القاهرة (قدم لكي يناضل في حزب سري)، ولكن المدينة العجوز تعرف أكثر كيف تستدرجه إلي عالمها، وكيف تغويه بنسائها وكيف تربطه في ساقية أنشطتها، فحين يحسب أنه يملكها يكتشف أنها تمتلكه فلا يستطيع لها مغادرة. لا يعيب رواية "هنا القاهرة" سوي تباطؤ إيقاع بعض فصولها، فكان يمكن اختصار بعض المقاطع والفقرات دون إخلال بالعمل، ويدفعنا ذلك إلي الإشارة إلي أن غياب وظيفة محرر الأعمال الأدبية عن مجال النشر في مصر هو احدي مشكلات المجال الحادة، فكان يمكن للمحرر بسهولة أن يكتشف أن "سامي" في ص 470 هو "سعيد" ويصحح هذا الخطأ البسيط. لا تنتهي الرواية بنهاية سعيدة ولا حزينة، بل بنقاش مع ناقد مفترض للعمل، فالعمل الذي يعبر بك أحياء القاهرة ويمر علي سجونها، يرغب في أن يكون تجربة حية متفاعلة مع قارئها، تعطيه من خلاصة تجربة قاهرة السبعينات لتقوده إلي أسئلة الحب والوطن والمدينة.