تكشف مجموعة "حارس ليلي للسماء " للقاص والشاعر مصطفي السيد سمير عن موهبة حقيقية ومجتهدة لاتتواني عن كشف نفسها من قصة إلي أخري، لتضعنا باستمرار في عالم فاتن ومدهش. والمغزي الأساسي الذي تقوم عليه المجموعة يرتبط بالسماء بوصفها رمزا يجسد حالة إنسانية تقوم علي كسر النمط المعتاد لحياتنا، والسمو قليلا فوق الواقع من خلال مجالات مختلفة مثل التأمل، والكتابة، واللعب، والحب وغيرها من الأمور التي لاتتناغم مع العيش في الحياة باشتراطاتها المادية فقط. 1 يلعب المكان دورا كبيرا في تجسيد مغزي المجموعة، فنري الحبكة تركز علي اختيار أماكن معينة لتصبح خلفية لأحداث الحكاية، وتلك الخلفية لا تأتي كحلية خارجية، بل تلتحم بالمغزي وتساهم في تجسيده، أو تأكيده، علي النحو الذي يعبر عن تصميم معين يتبناه الكاتب وهو يبني عالمه. ليس من قبيل الصدفة أن تجري معظم الأحداث في أماكن مفتوحة، وعندما نجد أنفسنا في مكان مغلق كالبيت، إما أن يظهر مرتبطا بحالة سلبية، أو في وضع استثنائي يلحقه برمزية السماء، ففي قصة "ورقة مقطوعة بحب" ، نجد البطل يدخل البيت في وقت متأخر حيث يقول: " كان البيت صامتا والجميع غارقين في النوم .. أراحني هذا السكون". البيت هنا يرتبط بالنوم فقط، ليصبح حالة تنفتح علي السماء من خلال الأحلام، والأهم من ذلك هو طبيعة البيت وتفاصيله الداخلية، فالأب يعمل في تعبئة العطور، ويمتلئ البيت بالزجاجات، والبطل يتحرك في البيت حركة مختلفة يقول البطل : "تتحول حركتي بين الزجاجات إلي ما يشبه الرقص أغني فتمتلئ سماء الغرفة بسحب من روائح العطر .... تتراجع سحابات العطر وتتمدد هذه الرائحة وتعلو لتزيح السقف والجدران والنوافذ والشوارع بالخارج بعيدا، لا مثيل لاتساع الصالة "( ص99، 101) وتأتي النافذة المفتوحة لتلعب نفس الدور الذي يلعبه المطر، أو الرائحة، أو شجرة الابتسامات العجيبة، وهي ترتبط غالبا بتيمة الحب، وهكذا نري النافذة في إحدي القصص في وضع ثابت لا يتغير فهي "مفتوحة دوما ولاتستطيع البطلة إغلاقها صيفا أو شتاء " (ص60)، وفي قصة أخري ترتبط النافذة بوقوف الحبيبة لتلوح للحبيب عندما يمر القطار، وتظهر نفس العلاقة في القصة التي تدور حول سقوط قميص الحبيبة السماوي من النافذة، وهكذا ترتبط النافذة برمزية السماء بحكم طبيعتها ، وبحكم ارتباطها بعلاقة الحب التي يؤكد الكاتب علي ارتباطها برمزية السماء صراحة من خلال اختيار اسم المحبوبة "سما" في قصته الأخيرة . هكذا يلعب تصميم المكان دورا كبيرا في كشف وترسيخ رمزية السماء ، باعتبارها تشكل جوهر المغزي في المجموعة. 2 علي مستوي البناء نجد الكاتب يحرص علي كسر السرد الممتد من بداية معينة إلي نهاية معينة، فالقصص لا تأتي في كتلة واحدة أبدا، بل يلجأ القاص إلي تقسيمها إلي وحدات صغيرة ، غالبا ما تحمل أرقاما تبرز استقلال كل وحدة سردية عن الأخري، وأحيانا يكتفي الكاتب بوضع فاصل في هيئة خط من النقاط ، وكأن شكل الخط يوازي النص الذي يفتت أجزاءه إلي وحدات مستقلة، وحين تختفي تلك الفواصل ، ينكسر السرد الممتد من خلال نقلات واضحة تظهر من خلال عناوين مكتوبة ببنط عريض ، أو من خلال فاصل طباعي، وقد يلجأ الكاتب أحيانا إلي وضع حكايتين متوازيتين مثل حكاية الشجرة، وحكاية البطل، والحكايتان مختلفتان، الأولي عبارة عن قصة يحكيها والد البطل وتتخللها حكايات أخري تحدث للبطل. وفي قصته (الذي يحدث) تتوازي القصة مع مقتطفات من يوميات سابقة تمتد من عام 1998 إلي عام 2006، ولا تأتي وفق ترتيبها الممتد فتبدأ مثلا بشذرة مؤرخة 5/12/2001 ، والشذرة التي تليها مؤرخة في 3/6/1998، في محاولة أخري لكسر التسلسل المنطقي للزمن، وهكذا ينتقل الكاتب من الحكاية إلي الشذرة، إلي الحكاية، كل ذلك يضعنا باستمرار أمام مقاطع سردية صغيرة جدا تضفي علي المجموعة قدرا من الرشاقة ، فيظهر نوع من التآزر بين الشكل والمغزي الذي يهدف دائما إلي كسر المسار النفعي الأحادي لحياتنا. وكأن السرد الممتد أو المصبوب في كتلة واحدة يوازي الحياة النمطية التي تمضي في اتجاه واحد ، وهكذا يصبح الكاتب وهو يبني عالمه، أشبه بطائر يتنقل بين شجرة وأخري، وهو ما ينعكس علي القارئ بالضرورة . 3 علي مستوي الضمير المتكلم نجد القاص يتحرك برشاقة من ضمير إلي آخر فيبدأ مثلا متحدثا بضمير أنا المتكلم، ثم ينتقل إلي ضمير الغائب هو ، ثم ينوع في أصوات المتكلمين ، فتتحول الشخصيات الثانوية إلي رواة، ويصل الأمر في إحدي القصص إلي تحول الجمادات إلي رواة ، كما في قصته ( ماروته الكائنات عن عاشقيْن)، والتي تتكون من مقاطع صغيرة تدور كلها حول حدث صغير للغاية ، وهو سقوط قميص من شرفة ، وتأتي تلك المقاطع ، علي لسان البطل في البداية ، ثم يتحول السرد ليأتي علي ألسنة كائنات مختلفة : جرح إبهامه الصغير، القميص السماوي، الهاتف، بائع الورد، الشرفة، سلم البناية ، البنفسج، الحبيبة ، كل هؤلاء يتناوبون السرد ، ويشاركون في تحويل حدث صغير جدا ، إلي لوحة فنية تاسرنا برشاقتها. وهكذا تتعدد المواقع والمناظير، وتنكسر الرتابة وتكتسب النصوص قدرا واضحا من الرشاقة. 4 وعلي مستوي الزمن نجد القصص رغم قصرها إلا أنها تحمل مسافة زمنية طويلة ، قد تصل إلي سنوات أو عقود ، فالأحداث دائما ترتبط بأحداث سابقة ، وقد يكون الحدث الأساسي رد فعل لحدث قديم ،وكثيرا ما يتداخل في القصة الواحدة زمن الطفولة مع الشباب، أو زمن الشباب مع الكهولة ، وعندما نجد قصة نادرة تدور حول حدث يقع في زمن قصير ، نجد الكاتب يوزع سرد الحدث الصغير علي شخصيات كثيرة جدا ليصبح أكثر عمقا. وهذا البعد الزمني الواسع نسبيا يتناغم أيضا مع المغزي، فهو يمنح المَشاهد جذورا عميقة، وينتج علاقات تثريها. 5 أما الملمح البارز فيتجسد في اللغة التي تجيد صنع الدهشة وهي تقتحمنا بسلاستها، ورشاقتها، فلا زوائد لغوية مزعجة، ولا إسهاب يصيبنا بالملل. ولغة الكاتب تلعب دورا كبيرا في تناغم الشكل والمحتوي، فإذا كانت رمزية السماء تتصدي للثرثرة ، فلغة الكاتب تتصدي للثرثرة، بعدم التورط فيها، والحفاوة بالتكثيف. وإذا كانت رمزية السماء تتصدي للأماكن الضيقة ،والنظرة الضيقة بالضرورة، فإن لغة الكاتب تحمل قدرا واضحا من الاتساع يجعلها تقترب من لغة الشعر، ونحن في الحقيقة نشعر كثيرا بأننا نقرأ شعرا لا قصة، وإذا كانت رمزية السماء تركز علي الأرض ، فإن اللغة هنا تفعل نفس الأمر، فلا تهوم ، ولا تلجأ إلي التركيبات المهيبة أو المعقدة ، لتوهمنا بأنها لغة سماوية متعالية، كما يحدث من قبل كتاب آخرين ، وكل ذلك يشير إلي تناغم جميل بين الشكل والمحتوي.