لا أطمئنُ لِتَسْمِيَة » الربيع العربي»« كما لم أطمئن لعبارة »التَّمرُّد« التي كان اسْتَعْمَلها، بشكل خاص الصديق الشاعر، أدونيس، في وصف ما يجري من »ثورات« ومن »انقلاب« الشُّعوب العربية، ضد أنظمتها. فالتَّسْمِيَة الأولي، ذات مرجعية ثورية، هي ما كانَ سُمِّيَ ب » ربيع براغ « ما يعني أن وصف ما يجري، في الشارع العربي، هو صورة لِما جري، في براغ، أي نقلاً عنه، وهذا غير ممكن، بتاتاً، كون ما جري عندنا، ثورات، خرجت من السَّاحات العامَّة، وكانت خارجَ كل الحسابات، بما فيها ما كان يتوقعه الغرب نفسه، رغم ما كان للغربيين من قدرة علي اسْتِشْعار ما يعتمل من غضب في نفوس الناس، وما كان يظهر من احْتِقانات، في بعض البلدان العربية، بين الفينة والأخري. فالخصوصية المحلية، في »الثورات العربية« ، تبقي فريدةً، ولا تخضع لمقاييس، ولا لأسباب ما جري في براغ، ولا في غيرها، من ثوراتٍ، أو احْتِقاناتٍ سابقة. ينطبق هذا علي مفهوم التَّمَرُّد، نفسِه، الذي هو تعبير، كما كتبتُ من قبل، يوحي بعلاقة طاعةٍ، وانضباط، بين الحاكم والمحكوم، أو بوجود نوع من التعاقُد الصريح، أو الضِّمْنِيّ، بين الطرفين، وهو ما لا يمكن ادِّعاؤه في الحالتين، كون العلاقة بين الحاكم والمحكوم، في المجتمعات العربية، هي علاقة قَهْر، واسْتِفْرادٍ بالسلطة. الديمقراطيةُ، أو الانتخاب، هي بين المفاهيم، النظرية، التي كان يستعملها الطرف الأول، لتبرير شرعيته، رغم ما كان يشهد به الجميع من تزوير، وقَلْبٍ لإرادة الناخبين، أي الطرف الثاني. المُتَمَرِّدُ، هو الخارج عن الإجماع، أو عن الشَّرْعِيَة، سواء أكانت بمعناها الديني، أو بمعناها السياسي، الدُّنْيَوِيّ. وهذا ما كانت النظرية السياسية، في ما يُعْرَف عندنا، بالآداب السُّلْطانِيَة، تسعي لتوكيده، بوضع الحاكم، ولو كان فاسداً، في نطاق الشرعية الدينية، دَرْءاً للفتنة، وحفاظاً علي وحدة الأمة. التمرد، بهذا المعني، هو تعاقد، وهذا ما لم يكن حادثاً في حالة مجتمعاتنا الحديثة، التي كانت فيها السلطة دائماً، مُسْتَلَبَة بالقهر، وبالقوة. في مفهوم »الثورة«، الذي استعملتُه، وكنتُ أستعمل في سياقه مفهوم الانقلاب، حاولتُ أن أُثيرَ النظرإلي أمرين اثنين، في ما يخص هذه الثورات. الأمر الأول، هو أن الثورة، هنا، هي ثورة، بمعنًي غير مسبوقٍ، ما يعني، أنها سابقة علي النظرية نفسها، وليست ثورة بنظرية، أو ثورة بالمعني الماركسي، أو الماركسي اللينيني، أو حتي في أفق ما كان ذهب إليه جرامشي، رغم ما في فكره من وضوح، في ما يخص دور الطبقات الاجتماعية بمختلف مشاربها، بما فيها »المثقف العضوي«، ودور كل طرف، في الموضوع. ولعل في إسقاط النظرية علي ما جري، وما يجري، إلي اليوم، من انقلاب علي الأنظمة، هو ما أفضي إلي اجتراح مثل هذه المفاهيم، التي انتقدتُها، وما زاد من تعتيم مفهوم الثورة نفسه، الذي جاء هذه المرة، من غير المكان الذي توقَّعَتْه النظرية السابقة، التي كانت وليدة سياقات، هي غير السياق الذي أفضي لحدوث هذه الثورات، في الشوارع العربية، وانقلاب الشعوب، ضد الأنظمة. أما الأمر الثاني، فهو أن أغلب هذه الأنظمة، التي »سقطت«، أو تمَّت إزاحتُها، هي أنظمة »عسكرية«، جاءت من ثكنات الجيش، ولم تأت من أحزاب، ولا من تنظيمات سياسية، ورغم ذلك، كان »المثقف«، يتبناها، ويعتبرها »ثورات«، لا لشيء، إلا لكونها، تبنَّت، هي بدورها، النظام الاشتراكي، وانحازت للاتحاد السوفياتي، في مواجهة أمريكا. فالشعارات التي حملتها هذه الانقلابات العسكرية، استقطبت المثقفين، واستدرجتهم، بتبنيها لفكرهم اليساري، فرغم ما بين العسكر، والمثقفين، من مسافة، فالمثقف تغاضي عن سياقات المفهوم، وعن التكوين العقائدي، والأيديولوجي لهؤلاء »القادة!«، وقَبِل بمفهوم »الثورة«، دون أن يُسائل هذا المفهوم، في أصله، وفي دلالاته.صحيح أن بدايات هذه »الأنظمة الجديدة«، كانت واعِدةً، وشرعت في امتصاص الجماهير، كما شرعت في توزيع الثروات، وتأميم المصانع، والأراضي الزراعية، وغيرها مما قامت به من مبادرات، لكن هذا كان الوجه الظاهر لهذه الأنظمة، خصوصاً، في ما يتعلق بالناصرية، في مصر، لكن الوجه الخفي، كان يفضح طبيعة هذه الأنظمة، التي لم تكن تمتلك ما يكفي من سعة الصدر، والفكر، لقبول النقد، وفكر الاختلاف. هذا ما أدَّي إلي انتهاء زواج المُتْعَة بين المثقف والعسكر، وشرع الجيش في وضع اليد علي الحُرِّيَات، بدعوي الحفاظ علي »الثورة«، وصيانتها من »المتآمرين«. لا داعي لسرد المعطيات، أو استعادة الوقائع والأحداث، فهي مُتاحَة، ومعروفة، فما يهمني، هنا، هو هذا الحرص علي تثبيت المفهوم نظرياً، من قِبَل المثقفين، في ما يخص هذه الثورات التي تخرج من الشارع العربي، وتغاضيهم، بالأمس القريب، عن إجرائية المفهوم نفسه، في ما هو قائم اليوم، وهذا، في حَدِّ ذاته، من المشاكل التي تجعل المعرفة قابلة للمزايدة، في مقابل المصالح الأيديولوجية، وهو ما لا أقبله هنا، بتاتاً، خصوصاً حين يصدر عن مثقفين، يدركون الفرق بين ما يعنيه كل مفهوم علي حِدَة[1]. حين أتبني مفهوم الثورة، وأستعمله، فأنا أذهب به إلي المعني الذي اتَّخَذَه علي الأرض، أي بانقلاب الشُّعوب علي الأنظمة، واحتكام الشعب للشارع، وللتظاهر، كوسيلة لفرض رأيه، وتحقيق مطالبه. ما تزال بقايا الأنظمة السابقة قائمةً، وما جري من هيمنةِ الإسلامويين علي الحكم، وعلي السلطة، من خلال الاقتراع العام، بما أفضي إليه من سَعْيٍ للهيمنة، واستعمال الشرعية السياسية، لفرض شرعية من نوع آخر، هي »لشرعية الدينية!«، هو بين ما يمكن توقُّعُه، كون كل الثورات، بما تُحْدِثُه من فراغ، تفرز مثل هذه الظواهر، أو مثل هؤلاء الذين يكونون، دائماً، علي استعداد لوضع الغنيمة في جيوبهم. حَدَث هذا في فرنسا، واقتضي الأمر، تضحيات، وربما، تسويات، للحفاظ علي دم هذه الثورة، رغم ما اسْتَغْرَقَتْهُ من وقت، ومن تضحيات كبيرة، وحَدَثَ هذا في روسيا، ولم تأخذِ الثورة طريقَها إلا بعد أن تحولت إلي فكر، سواء كان فكراً بالأيمان، أو فكراً بقوة الواقع، وهو ما نقرأه في التاريخ السياسي العربي، كما نقرأه في التاريخ السياسي لغير العرب. لكن، لا بد، هنا، من الإشارة إلي أمور، بدونها لا يمكن فهم ما يجري عندنا، من ثورات، وفق ما اقْتَرَحْتُه لهذه التَّسْمِيَة من معنًي: أولاً: ما يجري لم يخرج من فراغ، ولم يكن وليد الصدفة، بل إنه وليد احتقانات، كان معروفاً أنها، حَتْماً ستُفضي لحدوث شيء ما، رغم التباس ملامحه، أو شكله وصورته، بالأحري. وهذا ماكانت تهجس به التقارير الدولية التي كانت تُحَذِّر من وقوع المحظور. ثانياً: الذين قادوا هذه المظاهرات، أو كانوا يدعون لها علي شبكات التواصل الاجتماعية «التويتر» و »لفايسبوك«، لم يكونوا أشخاصاً بدون معرفة، أو جاهلين بواقعهم، ولا علاقة لهم بالسياسة، ولا بالثقافة، بل إنهم كانوا تلاميذ، وطلبة، ومهندسين، وخبراء، في مجالات عديدة، وأطباء، وإعلاميين، وصحافيين... بما يعنيه هذا من أهمية هؤلاء، وما يمثلونه من قيمة معرفية، وثقافية في مجتمعاتهم. وهؤلاء، هم من الأجيال الجديدة، في أغلبهم، مِمَّنْ وُلِدُوا في زمن التَّسْوياتِ السياسية مع إسرائيل، ومع الغرب، وما أفضي إليه ذلك من تواطؤ بين الغرب، أمريكا بشكل خاص، وهذه الأنظمة التي خرجت من جلدها »الاشتراكي«، لتلبس الزي العسكريَّ، بأقنعته المدنية المُضَلِّلَة. ثالثاً: إن هؤلاء هُم خِرِّيجو المدارس. والجامعات العربية، وحتي الغربية، التي كان فيها للأجيال العربية من الكُتَّاب والمفكرين، والمبدعين، وحتي السياسيين، دور كبير، في التأطير، والتكوين، وفي تعبئة فكر وخيال هؤلاء الطلبة، وهو ما ينعكس علي قراءة هؤلاء الطلبة، لكتاباتِ هؤلاء الكُتاب، ولنظرياتهم، في الفكر والإبداع، وفي السياسة والاقتصاد، بما في ذلك ما كان كَتَبَه الرَّعِيل الأول من مثقفي النهضة، وما اقترحه من أفكار للِنُّهوض. رابعاً: لم يكن هذا الجيل من المثقفين، والمبدعين، والمفكرين، الذي سانَد انقلابات الجيوش علي المَلَكِيات، في خمسينيات القرن الماضي، خارج ما جري، تماماً، فهو موجود فيه، كون المعرفة التي بَنَي عليها هؤلاء الذين انقلبوا ضد الأنظمة المُتلاشِيَة، سَمَحَتْ لهم بوعي المعني الجماهيري للثورة، رغم انقلابهم حتي علي الأحزاب، والمنظمات السياسية، من خلال استعمال التواصل، عبر هذه الوسائط الحديثة، التي لم تكن في متناول أغلب فئات الأجيال التقليدية من المثقفين، وخروجهم للساحات العامة دون تأطير نظري مسبق. إذن، حين نتساءل عن دور الكتابة، والفن، في مسايرة ما يجري، فنحن نتجاهل الدور الذي كان للكتابة والإبداع في ما جري. من يقرأ الكثير من الأعمال الروائية، والشِّعرية، والكثير من النصوص المسرحية، والأعمال السينمائية، وحتي الرسومات، والمنحوتات، ثمة ما يهجس في هذه الأعمال بالتغيير، وبضرورة وضع الأنظمة الراهنة، ما سقط منها، وما هو باقٍ، في سياق الثورة والتغيير، فقط أن وتيرة التغيير، في الفكر والخيال، هي غير وتيرة التغيير في الواقع، الذي يَحْدُث باستبدال مُحَرِّكات الأنظمة. في الإبداع، وفي الفكر، والخيال، نحن نبني فِكْرَ، وخيالَ الإنسان، أي نبني الأُسُس، وليس ما هو ظاهر من طوابق، وأبواب، ونوافذ. وهذا ما كان الإغريق يفعلونه، لضمان متانة بنائهم. فحين يَشُكُّونَ في الأساسات، فهم يهدمون البناية كاملة، لِلتَّأكُّد من سلامة، وصِحَّة هذه الأساسات، ففي تَمْتِين الأساسات، تَمْتِين البناء، وهذا ما يقوم به الإبداع، وما يقوم به الفكر، خصوصاً حين يكون هذا الإبداع، وهذا الفكر، يقومان علي الوعي النقدي، ويُؤَسِّسَان لفكر التحرُّر، والتَّنَوُّع والاختلاف، لا فكر الاستقطاب، والتبعية، والاستفراد. ما صدر من أعمال فكرية وإبداعية، ومن كتابات، موازية لهذه الثورات، تبقي، في جوهرها، نوعاً من الكتابة المُساوِقَة، التي تحاول أن تكون طرفاً في ما يجري، وهي، في أغلبها لا تكون مُحايِدَةً، بل شريكةً في الحَدَث، وطرفاً فيه، خصوصاً أن الذين كتبوا، وصدرت أعمالُهُم، كانوا بين مَنْ أقاموا في الميادين، وكتاباتهم، كانت أقرب إلي الكتابة الصحافية الإعلامية، منها إلي الكتابة الإبداعية، التي تسعي لخلق، وإبداع قيم ثقافية وتخييلية جديدة. فالكتابة الإبداعية، لا تخضع لِشَرْط الحَدَث، فهي في ذاتها تكون حَدَثاً، أو تعمل علي اسْتِشْرافِه لا علي مُحايثَتِه، أو السير في طريقه. أغلب هذه الكتابات، وفي حدود ما اطَّلَعْتُ عليه، هي وثائق، رغم ما فيها من تخييل، مُساوِق للواقع، ومُسايِر له. في تَصَوُّري الشَّخصي، الكاتب العربي، بعكس الإعلامي، يحتاج لمزيد من الوقت لاستيعاب ما يجري، خصوصاً أنَّ هذه الثورات، ما تزال لم تستقر علي وَضْع مُعيَّن، ويبدو أنه في قلب هذه الثورة ستحدث ثورات أخري، قبل استقرار الوضع علي صورة ما. فالثورة، أو هذا الغَلَيان الذي يجري في نفوس الناس، نتيجة تراكم الخَيْبات، وفشل مشاريع الوحدة، وما كشف عنه تهافُت شعارات »القومية« و »الوحدة العربية«، هي تعبير عن رغبةٍ في الانتقال من حياةٍ إلي أخري، ومن نظامٍ إلي آخر، كما أنها، في جوهرها، تعبير عن الحاجة الماسَّة للتغيير »الجذري«، في كل شيء. هذا ما تتميز به الكتابة عن الواقع، كون الكتابة هي تحريض دائم علي التغيير، وهي سابقة نظرياً علي الواقع نفسه، كما أنها، في الغالب، تكون ثورة علي القيم، وعلي الماضي، وعلي كل ما يُعَرْقِل صيرورة المفاهيم، وقابليتها للتجديد، والابتكار. بهذا المعني، انشغال المبدع، والكاتب، هو انشغال بثورة القيم، والرموز، والدلالات، خصوصاً في ضوء ما تريد السلفيات الماضوية، فرضه من عودة لقُرونٍ خَلَت، ومن تعطيل لكل ما جري من تراكُمات، في مجاليْ الفكر، والقيم. [1] في حوار سابق لأدونيس، يعود للعام 1977، يبدو هذا الارتباك في تحديد مفهوم «الثورة»، وما يعنيه به أدونيس اليوم، خصوصاً في ما يتعلق بتأكيده علي مفهوم «التمرد»، الذي ننتقده هنا. يقول أدونيس: » يست الثورة شكلاً محدداً ولا مكاناً مُحدَّداً ولا تعبيراً مُحدَّداً، وليست كذلك وقتاً مُحَدَّداً، وأكثر من ذلك ليست شعاراً مُحدَّداً. الثورة حركة كاملة وجذرية، وما لا تقدر أن تمارسه هنا، تمارسه هناك«