"كونوا واقعيين.. أطلبوا المستحيل" كان أحد الشعارات العديدة التي زينت جدران الحي اللاتيني و جامعتي النونتير و السوربون، في باريس إبان ثورة مايو 1968 الطلابية. لا أعرف لماذا أجدني أريد الصراخ بهذا الشعار لكل من أراد أن يغير شيئا في هذا العالم، لكل من حلم بثورة جارفة، أو بمجرد تغيير بسيط. أن تحلم بصنع ثورة، أو الخوض في كيف يكون التغيير، هذا يلزمك أن تصنع عالما جديدا، عالما لا يشبه ما مضي، أو بالأحري ما تريده أنت أن يمضي، عليك أن تقطع مع معارك المُغّير، لغته، منطقه، أبطاله، وتواريخه.. المصقول منها و الخبيئ. لكم هي حزينة بعض معارك تمني التغيير اليوم، وحزنها يتجلي في كونها معارك تمني في الغالب، فأن تسجن جلادا أو تطرد ديكتاتورا، ثم تصنع أغنية لتحتفل بذلك لا يعني أنك صنعت عالما جديدا، أن تجيش حشدا ليحتج علي الطاغية هذا لا يعني أنك نزعت دروس الديكتاتورية التي تشبعت بها أذهانهم، أن تقتحم القول في السياسة هذا لا يعني أنك صنعت أخري بديلة. ينصحنا سارتر كما فعل ذات مايو مع طلاب النانتير و السوربون، بتوسيع أفق الممكنات، توسيع كل الأفق، لكل الممكنات، هذه الممكنات التي إذا ما قارنا السياسة معها ستظهر ضئيلة جدا مع شساعة هذه الممكنات، فصراخنا ضد سياسة بعينها، وسلطة بعينها، هو خيانة لباقي المعارك، لذا لابد للرفض أن يكون جذريا، بل أهم من هذا عليه أن يكون عادلا .. بهذا سيتساوي رفض بؤس الاستبداد، مع رفض بؤس السوق، مع رفض بؤس البلاهة، مع رفض بؤس الكبت الجماعي، ليصل لرفض بؤس كل المفاهيم القديمة. من البلاهة أن نطرد عالما -أو نحاول- ونحن في نفس الوقت نلوك مفاهيمه، مسمياته، ومرادفاته. فالبؤس كل البؤس هو أن نعجز عن صنع عالم في مقابل ذاك الذي هدمناه، فكل عجز عن البناء تجعل من القديم ينبعث من رماده، ليُلزمنا، ويبدع سلط جديدة تكبلنا، ما دمنا عاجزين علي صنع عوالمنا. من هنا سنكتشف أنه يلزم لكل ثورة قاموس، ولكل عالم جديد معجم، وبالمعاجم تحيي العوالم، كل العوالم، وما تاريخ البشرية سوي ذاكرة قواميس ومعاجم، يصحح بعضها بعضا، ويشطب بعضها علي البعض الآخر. فلا معني مثلا لأن يبقي الوطن مرادفا للقدرة علي الموت داخل الحشد باعتزاز! أن الموت فداه هو أسمي تجل للحياة، لا معني لأن يبقي الوطن هو الانعكاس الساذج للفداء، الموت البئيس داخل ذاكرته الناسية دوما، لا معني لأن يبقي الإنسان مستفردا بالانتماء، فتصير الحياة، كل الحياة خارج مدارات ما سمي تواطؤا ب .. «الوطن». نريد وطنا يرادف الحياة والأمل، وطن يهب حق الوجود ويضمنه للبشر كما للعصافير و الأشجار و الشواطئ، وطن يهب بطاقات الانتماء لما تبقي لنا من أطلال الأجداد، قصص الجدات، سكان الغابات، وللمنقرضين من هؤلاء نُصبا ترفعهم لمقام الشهداء. لا معني لأن تبقي السياسة هي إلزامية تصفيق الجهة اليسري من المشهد ما دامت الجهة اليمني فعلت ذلك، لا معني لأن تبقي السياسة هي القدرة علي تهديد الأمل الجماعي، القدرة علي التهديد بالبلادة و السخف كل الرافضين و المنتمين لحزب «لا». وما السياسة سوي تصريف لكل أنواع الممكن من الحياة، أن تصير السلطة هي القدرة القصوي علي عكس الحياة في العالم، أن يصير الدفاع عن حق شجرة في الوجود أسمي معاني النضال، وحتي الاستبداد يصير له معني ممكن، فالانحياز للألوان، والتعصب في الانحياز للون الأخضر علي الخصوص، سيعد أرقي أنواع التطرف. أزمتنا هي أزمة فُُهوم بائسة، بارديغمات تتصلب و تتعنت في إضفاء الحزن علي وجودنا المنسحبة إنسانيته ببطء، مؤسسات البلاهة و الحمق التي توهمنا بنبوءات الخلاص، بشعارات قرب النهايات السعيدة، و اقتراب وصول البطل المخلص، بطلنا المفدي، قائد معركتنا الأخيرة نحو الخلود. أكذوبات كثيرة تتلاقفنا و تمكر بنا علي أساس أنها ركائز بنيان منطقنا السليم، وما هي إلا خدع صنعناها، خدع نربي أذهاننا، وأذهان نسلنا علي أن فيها الخلاص، و بها يكون سواء السبيل، فيصير اللاعدل، واللاسلم، و اللاحرية هو ما يهددنا في غياب المؤسسات، و لا إنسان في الأفق ما دامت ليست هناك جدران تحتويه. المؤسسات هي محض جدران نضفي عليها قداسة السلطة و رهبة الاحتكار و النفوذ، لتصير معابدنا الجديدة، امتداد لرُهاب التيه عن مسار الحقيقة و السواء، وجودها، بل أقصي ممكنات وجودها هي في الرهبة التي نصنع نحن حولها. لا نحتاج لبنيان وجدران لنكون عادلين، أو مسالمين، لا نحتاج لقصر مُلك، أو مبني رئاسة لنُتلقّن تمارين التسامح، وحدها الحياة بشراستها، بفرحها، بسلميتها، بعدوانيتها بكل أضدادها تعلمنا أن الإنسان هو محض - تلميذ ساذج في الغالب - إلا أنه أقصي ممكنات الوجود الذي صنعت الطبيعة، الذي لديه قدرة ما، علي الاستيعاب و التعلم. لطالما آمن أفلاطون أن الشعراء سيخذلونه في صرحه الذي دشنه احتفاءً بالحكمة، فصرخ صرخته الشهيرة اكلّلوهم بالغار..و اطردوهم»، لا أدري ربما هوس الحشود رآه أفلاطون في ما يكتبه الشعراء. لو رأينا عالمنا اليوم بمنظار أفلاطون لكلل بالغار غيرهم، و ما اكثر من سيطردون، سنطرد كل من تغني بالحرب و الموت بكل ألوانه، لكل من يريد أن يقحمنا في خلاصه البليد، حجّرا علي حقنا في الحياة، و يقينا منه أن يد الله الذي لا يعرفه، تبارك حربه المقدسة، لكل من يلزمنا برؤية الكون بمنظاره المهترء و المتآكل بفعل العتمة وسوء التصنيع.. سنطردهم، ونحتفي بالحياة، ولن نجدد ذكراهم بنسج شقوق أخري. سنطردهم..تأو من يدري، قد لا نستطيع! إلا أنه لابد لنا يا أصدقائي أن نكون واقعيين.. و نطلب المستحيل.