الإحباط كلمة يسيرة النطق، سهلة التداول، أسبابه كثيرة متناثرة ومتداخلة، ظاهرة وخفية، عظيمة ومستدقة، مطروحة في الشوارع والميادين والرءوس والنفوس. يظهر أكثر ما يظهر في أعقاب الثورات الشعبية السياسية والاجتماعية، حيث التعجل لحصد النتائج في واقع لم يوفر أسباب تحققها؛ ونتيجة لعدم إشباع الحاجات، التي أوجبت قيام الثورة، يحدث الإحباط. هذا مبرر منطقي، لكن تناوله بهذه الكيفية هو السطحية بعينها، فالمسألة أعقد من هذا بكثير، إذ يتراكب فيها النفسي والاجتماعي والنفس اجتماعي، بالإضافة إلي العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية ومنها العقائدية والأمنية بغير شك، ولا أحسب نفسي من المحبطين، شأني في هذا شأن جموع غفيرة من الشباب الثوري. نعم.. نحن نألم لما يحدث الآن في مصرنا وفي الدول التي شهدت ما يُعرف بالربيع العربي: دماء وخرائب ومؤامرات خارجية وداخلية وحكومات عاجزة وأهداف لم تتحقق، لكننا لم نيأس.. نشعر بأننا أبعدنا بطريقة ظالمة، وأن المعركة بين الفلول والإخوان دهست الكثير منا، والسلطات الحالية إما تستبعدنا من الدنو منها، أو تستثمر دنونا لتحقيق مصالحها هي، ونعلم أن الفجوة بين توقعاتنا وتطلعاتنا في ضوء الوعد الثوري من جهة والتجربة الواقعية من جهة أخري لا تزال عميقة الغوْر، متسعة القطر، ومحتشدة بثقافة الجهل والتخلف والاتباع، وزاخرة بأمراض التطرف الفكري والعقائدي.. لكننا للآن لانزال متحمسين وملتزمين. إن مشاعرنا في حقيقتها ليست مشاعر المحبطين، وإنما هي مشاعر الخائفين علي الثورة، وهنا ينبغي التمييز بين مخاوف ثلاثة أصناف من المواطنين: مواطنون معادون للثورة، مواطنون التزموا الصمت تجاه الثورة، ومواطنون اشتركوا في الثورة. المعادون خائفون من أثر نجاح الثورة علي مكاسبهم التي نعموا بها في ظل النظام المباركي أو الإخواني، ورعبهم الأكبر هو الملاحقة القانونية والغضب الشعبي جراء ما اقترفوه من جرائم، وخوف الصامتين منصبٌ علي لقمة العيش والإحساس بالأمان، أما خوفنا نحن الذين اشتركنا في الثورة كل بحسب قدراته فمُرَكَّز علي نجاح الثورة، ومصير أهدافها، مثلما هو مركز علي المحاولات المبذولة لإجهاضها وتفريغها والالتفاف حولها. لقد أزحنا دكتاتورين أحدهما مُعَمِّر والآخر مُستحدث، ومعركة الثوار الآن هي مع فلول هؤلاء وأولئك، وهي أكثر ضراوة وإنهاكًا من أية معارك سابقة، وتضخم السلطة القائمة من أعباء هذه المعركة لأنها لا تواكب الإيقاع الثوري في سرعته، وممارساتها هي ممارسات ردود أفعال متسمة بالبطء، بل بالبطء الشديد؛ وعيونها مصوبة علي الخارج أكثر منها علي الداخل، مع أن سياساتها الخارجية غير حصيفة، فضلاً عن أنها تعتبر نفسها حكومة إجراءات وليست حكومة أفعال، كل هذا يضجر الثوار ويرهقهم ويبقي علي مخاوفهم. وللخروج من هذا الأتون لابد من: الضغط الدائم والاستنفارالمستمر من أجل تحقيق أهداف الثورة. عدم التهاون أو المهادنة أو الدخول في مساومات تستهدف الالتفاف حول هذه الأهداف. تغيير جذري يعمل علي تحقيق العاجل والآجل لمطالب الشعب والثوار، بدءًا من امتصاص البطالة والنظام العادل للأجور والمعاشات والتأمين الصحي علي كل أفراد الشعب وتفجير الطاقات الإنتاجية، وانتهاء بالقضاء علي الفقر والجهل، مرورًا بالاستثمار في التنمية البشرية جنبًا إلي جنب التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وفي كل هذا يجب أن توضع ثقافة الإبداع والتعدد وقبول الآخر والمواطنة في صدارة كل مجال. وعلي الجميع التيقن من أنه لا مندوحة من مدنية الدولة. الخلاصة أنني لستُ محبطًا ولا يائسًا، وإنما أنا خائفٌ الخوف الصحي "وصدقوني بكرة حايكون أحلي".