في مجموعته القصصية "أين الله" التي اتخذها البعض ذريعة للإرهاب الفكري والتنكيل به وحبسه يحاول كرم صابر أن ينقل لنا مشاعر أهل الريف وتساؤلاتهم. وريفيته تنضح من بين السطور حيث يتكلم عن البراح بحنين ناجم عن الفقد وعن الأرض وحاجتها للراحة مما يشي بمعرفته بالفلاحة وشئونها عن قرب. وحين تقرأ المجموعة لا يمكنك أن تغفل الروابط بين القصص وبعضها البعض، فتجد شخوصا وحيوانات وأحوالا مكررة هنا وهناك، وكأن كل قصة هي تتمة لأخري سبقتها. وقد تبدو المجموعة للوهلة الأولي معنية بالشأن الإلهي، ولكنها في حقيقة الأمر معنية بمسألة العدالة الاجتماعية والحرية والحب، وكلها في زعم أبطاله وجوه للإيمان الحق بالخالق. إذ يستهل المجموعة بمناجاة للرب وتلمس رحمته، فأين الإلحاد في ذلك وإن حملت المناجاة بعض العتاب!؟ ألا يكون العتاب من المحب للمحبوب!؟ ثم يستعرض لنا في القصة الأولي "النوم في الصلاة" ثلاثة نماذج من أسرة واحدة يتفاوت لدي كل منهم مفهومه عن الإيمان، فنري البساطة والتسليم بإيمان القلب أولا لدي أم عبد الله، وعلي النقيض منها نجد الالتزام الشكلي بالدين وطقوسه لدي أبي عبد الله، لينتهي الأمر بعبد الله ابنهما منافقا لا يتورع عن الصلاة بغير وضوء، لينتهي به الأمر مفضوحا بالنوم في المسجد أثناء الصلاة. وينتقل بنا في "لغة الأحاسيس" لقضية أخري وهي الرضا بالمقسوم كإجابة "حاسمة" علي تساؤلات الولد الأخرس الأصم، بيد أن الجدة لا تفتأ تذكره بأنه الأسعد حالا لعدم اضطراره لسماع الأكاذيب أو ترديدها مثل بقية الخلق، في إشارة خفية لعبارة طه حسين الشهيرة عن العمي. وتحرص الجدة علي تعليمه الرقص والتحليق بروحه فوق الخلق وهو الأصم الذي لا يعرف الموسيقي! ثم ينتقل بنا في "الميراث" إلي قضية المرأة التي يفاخر الإسلام بأنه أنصفها، فيضع علي لسان عواطف والتي صورها ينبوعا للعواطف تساؤلات حول العاطفة في مقابل المادة، لتأتيها الإجابة الجاهزة أن تلك هي حكمته وقولها كفر بمشيئته. أما "معروف"، ولاحظ هاهنا كيف حرص الكاتب علي اختيار الأسماء معبرة عن الشخصيات بالرمز المباشر الواضح، فنجده يصنع المعروف ويعرف الكثير، ونري حديثه عن فضل الماء مذكرا القارئ بحابي دونما تصريح. وفي ظني أن جريمة المؤلف الحقيقية هي التحريض علي التفكير ومحاولة فهم الإله دون وصاية المفسرين والمبشرين. بل إن معروف لا يتورع عن رمي الصارخين في الجوامع بالكفر والجهل، ورغم ذلك فهم يلجأون له لأنهم يحتاجون علمه لدرايته الواسعة بالفلاحة التي تمثل محورا رئيسيا في المجموعة. وفي هذه القصة نلمس ميل الكاتب للعدالة الاجتماعية في إشارة بارعة حين نفقت جاموسة معروف في الترعة، فصوب وجهه نحو الغرب ليسب الشيطان الذي طمع في جاموسته، ولكن أي شيطان يعني؟ فلو أنه يوجه كلامه لله لولي وجهه شطر المشرق حيث القبلتين، ولكنه ولاه شطر المغرب حيث تقع الشمس بين قرني الشيطان ليسبه ويتحداه، ولا يفوتنا استحضار عبارة "الشيطان الأكبر" الموصومة بها أمريكا معقل الرأسمالية المتوحشة. وتمضي رحلة الكاتب في البحث عن الله من خلال الحب في "ورقة المأذون البالية"، فنجد سعاد وفتحي ومعهما الجار وفوقية، ثم سعدية وفتحي وبالمثل معهما الجار وفوقية، وكيف أن المجتمع نفس علي سعاد وفتحي سعادتهما حين لجأ كل منهم للحرام لإنعاش الأرض العطشي للحب، ولينتهي الأمر بسعاد وهي وحيدة مضطرة للعمل في ملهي ليلي لإشباع حاجتها للحب خارج الإطار الشرعي بعد أن أحست بالغبن من فكرة المباح للرجل والمحرم علي المرأة. والملاحظ في هذه القصص أن الأسلوب أشبه ما يكون بكتب المطالعة إلا أن المواضيع المطروحة شائكة وتثير سلسلة من التساؤلات، وهو موفق في استخدام هذا الأسلوب إذ استحث روح التلميذ بداخلنا ليعلمنا التفكير في المسلمات وإعادة النظر فيها. وتبقي فكرة الفلاحة وارتباطها بالخلق والخالق واضحة في "الحب الإلهي" التي تتكلم عن حلقة الذكر، والعودة بنا لمقولة ربنا رب قلوب التي جاءت في القصة الأولي، ونجد تشابها بين حجاج ومعروف اللذين يمثلان الفلاح أي المصري، فنشعر أنها تتمة لما سبقها من قصص. وفي "الشيخ طه" لا نملك إلا أن نتساءل أين عدالة السماء وقد انتهي الأمر بالشيخ منتحرا في المصرف حين رأي اللصوص يسودون الأرض. ويعود الفلاح معروف ليطل برأسه في "الفقري" التي حملت قدرا من السخرية وخفة الظل، وذكرتنا بحالنا مع ناهبينا. أما "ست الحسن" والتي احتاط لها الكاتب وصورها في شكل حلم فهي في ظني الذي يقترب من اليقين رمز لمصر وأن الرب الغاضب المتجبر عليها وعلي حسن المقصود به أمريكا، فليست صدفة ولا حشوا أن تكون ست الحسن من المهجرين من السويس، أي أنه يذكرنا من طرف خفي بالعدوان الثلاثي والأطماع التي حاقت بست الحسان مصر. والرب في عرف الكثيرين تعني السيد، فنجد رب البيت ورب العمل الخ. مما يؤكد ألا عدوان علي الذات الإلهية كما حاول أن يصور البعض. وعلي مدي قصص المجموعة نجد التساؤلات المطروحة كلها تساؤلات مشروعة لا تخرج عن تساؤلات الأطفال، وهي في حقيقتها أقرب لحالة "الطفل يتساءل"، ولكن ثقافتنا ونشأتنا التي درجنا عليها تجعلنا مثل الجد وحفيده الذي يريده أن يصدق في وجود الإله عبر تصديقه بوجود الغولة، ثقافتنا التي تجعلنا ننهر الطفل حين يسأل عن الله وحكمته إذ لا إجابة حقيقية لدينا، وتبقي الجريمة هي السؤال، ليختم الكاتب مجموعته بقصة "أين الله" وهي أقرب للمناجاة والحنين للبراح ولرحمة الله التي سرقها البشر، ليتساءل في لوعة: "من حلل مكاسب التجار، وحرم عي الفلاحين الشقيانين العلاج؟"