يسيطر علي هذه المجموعة القصصية المكونة من أحد عشر قصة هاجس عام، قلما يتناوله أحد، لاقترابه من منطقة شائكة أدبيا، وهي منطقة الدين، بما يحفها من مخاطر، وما تتطلبه من شجاعة ومخاطرة، هاجس عام، يتم تناوله بأوجه مختلفة في معظم القصص، هو العلاقة بين البشر والخالق، وفيما تؤكد غالبية القصص علي طهارة الجوهر والقلب قبل الحرص علي الطهارة الخارجية (الوضوء والاغتسال) وتؤكد علي أن الله موجود في كل مكان وفي كل شيء، ومناجاته ورؤيته في الكون وفي خلقه قد تكون أجدي من الاحتشاد في أماكن مخصصة قد يغلب عليها المظهرية، وهي رؤية صوفية في المقام الأول، تتماشي مع طبيعة الإنسان المصري، خاصة في القري والنجوع والأماكن المفتوحة والخلاء، حيث الفطرة السليمة. وفي مقابل هذا الطرح فإن غالبية القصص تفضح وتدين في نفس الوقت كل أشكال الانحراف بالدين بهدف الاتجار أو السمسرة والتكسب، أو البحث عن سلطة يتم الاختباء خلفها، لتنغيص حياة البشر والبسطاء والمتاجرة بآلامهم، وتخويفهم من عذاب القبر، أو حتي وعدهم بالجنة والنعيم المقيم بهدف إخضاعهم في الوقت الحالي، أو منعهم من الاعتراض، أو الثورة علي الأوضاع، ومن ثم يأتي الإهداء موفقا" إلي الفلاحين في بلادي، الذين علمونا حب الخير والإيمان" لأن هؤلاء الفلاحين والبسطاء قد يكونوا الهدف الذي يسعي إليه سماسرة الدين وتجاره، فالكاتب يخشي أن يفقدوا براءتهم وتلقائيتهم بتحولهم إلي التطرف والالتزام بالشكل دون الجوهر، وكما تبدأ المجموعة بالدعاء والابتهال إلي الله بالمساعدة في تثبيت هؤلاء البسطاء، والوقوف بجانبهم، فإنها تنتهي في القصة الأخيرة التي عنوانها" أين الله" بدعاء داخل القصة وابتهال إلي الله أن يعود البراح والحب، ويختفي المتاجرون بالدين والسماسرة، ويعود الصفاء، ويختتم هذا الدعاء "يا رب لا تخذل دعاء عبد آمن بك" ففي قصة بعنوان "الشيخ طه" تذكر القارئ علي الفور بقصة طبلية من السماء ليوسف إدريس، يقتحم الشيخ طه المسجد، ويسطو علي الميكروفون، وينادي في الناس بالذهاب إلي حافة المصرف لاستلام الحبوب والهدايا التي ستوزع عليهم، وحين يجتمع الناس، يجدون الشيخ طه وقد وقف عاريا علي شاطئ المصرف، ويقول لهم قبل أن يقفز فيه"حد عايز حاجة من ربنا" ليخرجوه ميتا بعد ساعات من الماء العطن، لنعرف أن الشيخ طه العابد والملتزم بالفروض والصلوات لا يستطيع الوفاء بعلاج أمه ولا أخيه، في الوقت الذي فتح الله علي حسنين العاق والفاسد وغير الملتزم بالمال فاشتري نصف البلدة، وترشح لانتخابات الدائرة، وباركه شيخ الجامع ودعا له علي أنه رجل البر والإحسان. وفي قصة بعنوان(الفقري) يتعلم البطل مبروك من أخطائه، كي لا يصل إلي ما وصل إليه الشيخ طه في القصة السابقة، فيصحح تلقائيا معتقداته، ويعيد النظر شيئا فشيئا في المقولات التي يؤمن بها، فحين ماتت جاموسته قال:"صاحب العوض موجود" وحين سرقت منه مئتا جنيه ثمن جهاز ابنه، صرخ معترضا علي الله، فلم يدخل البيت ونام في شوارع الحارة حتي ينزل الله إليه مائتي جنيه خلاف التي سرقها منه الشياطين، وحين تم النصب عليه، فاشتري بقرة مسروقة بألف جنيه ميراثه في بيت أبيه، وأعاد الناس البقرة إلي أصحابها، ولم يعثر علي اللصوص، عند ذلك قرر أن يعيد التفكير في الأمر، ويصحح ما كان يعتقد، وعندما ضبط ولدا يسرق كوز ذرة من حقله، قبض علي رقبته ولم يتركه حتي يدفع أبوه ثمن ما سلبه، ولما قال له أحد الفلاحين "عشان خاطر ربنا يا عم مبروك سيبه" اندفع مبروك الذي علمته الأيام والظروف وقال صارخا"" ربنا إيه يا خويا.. هو ربنا كان بيزرع..من يعرف قيمة الإنتاج إلا الزارع.. ربنا يعرف إحنا عزقنا أد إيه علشان نحرث ونبذر ونسقي.. يا ناس يا كفرة.. ربنا ماله ومال الحرامية والأرض والزرع؟" ص58 وفي قصة بعنوان(الحب الإلهي) حيث تركز علي الجوهر لا المظهر، وعلي الروح لا الشكل، وهي نظرة صوفية صرف، نري أبناء الشيخ عبد التواب يقيمون الذكر كل أسبوع، ويحتفلون في نهاية كل شهر بصور الله الجميلة التي يخبئها في قلوبنا، وبالنور الذي يملأ أرواحنا ولا نراه، رغم أنهم لا يصلون مثلهم الصلوات الخمس، ويدخنون الحشيش، ويفطرون في نهار رمضان، حيث يعتقد هؤلاء أن بيوت الله داخلنا، والمواظبين علي الصلوات الخمس جهلة، فلا يحتاج المؤمن إلي الاغتسال أو القيام والركوع لأن القلب الطاهر نظيف دائما، ومازال هؤلاء يعيشون فيما ملأ التجار الحواري بزوايا ومساجد، وامتطوا عمم الإمامة، ومازال أبناء الشيخ عبد التواب يعيشون سعداء آمنين محبين ومحبوبين، يدفئهم الحب الروحي دون أن يقيموا فروض الله، وما زال التجار ينعمون بالصلاة في المساجد والحج ويستمتعون بالغل ومخالفة الشريعة والإنسانية باسم الدين. وتتسق تماما مع قصة الحب الإلهي قصة بعنوان"معروف" حيث نجد أنفسنا أمام فلاح تلقائي، شبه مجذوب، يعرف طريقه إلي الله بالفطرة، يصرخ في الناس قائلا: "الله في كل مكان، لا يهم أن تجتمعوا بالجوامع لتصرخوا، فمقابلته لا تحتاج لكل هذا الاحتفال يا كفرة" ص23 ، ومعروف كأبناء عبد التواب في القصة السابقة، جريء، يري أنه مرفوع عنه التكليف(الشكلي) فنجده لا يصلي في الجوامع، لكنه في المقابل يناجي ربه وهو واقف في الحقل، ويفطر في نهار رمضان ما دام في العمل، علي اعتبار أنه علي سفر. كما تأتي قصة (النوم في الصلاة) لتؤكد علي عدم جدوي الالتزام بالشكل ما دام الجوهر فارغا، فالولد ينام في صلاة الفجر، وأبوه الملتزم يضربه، والناس يخرجون من الصلاة ليحولوا بينهما، والأم تخرج من صلاتها بشكل دائم وتتكلم أثناءها ربما عن جهل لا عن قصد، فهي لا تعرف مفسدات الصلاة، لكنها طيبة الجوهر. البناء القصصي يبدو البناء القصصي لكل قصص المجموعة تقليديا، فلا أساليب سردية ولا تقنيات فنية، تجعل منها قصصا محكمة، فلا فلاش باك، ولا تقديم ولا تأخير، ولا اهتمام بالزمن في القصص، وكل ما يحرك القصة إلي الأمام هو الرغبة في الحكي والتركيز علي الرسالة التي تحملها دون اهتمام بالشكل القصصي الذي ستخرج عليه، كما خلت النهايات من المفارقات رغم ما تحمله القصص من عالم قصصي غني، وهو ما ينم عن قلة خبرة بالكتابة القصصية وقصور فادح في الأدوات، فقد ترهلت القصص بلا استثناء، بسبب المقدمات الطويلة والتكرار والمباشرة والإسهاب، والنهايات المبتسرة أو المتأخرة جدا للقصص، رغم وجود المفارقة في عوالم وشخصيات غريبة وأفكار أغرب، كما في قصة الطفل يتساءل وأين الله والحب الإلهي والنوم في الصلاة والميراث، فضلا عن عيوب الصياغة الأسلوبية، والأخطاء اللغوية والنحوية، كما ساد الارتباك وغاب المنطق الفني عن معظم القصص، فنحن لا نعرف علي وجه التحديد في قصة (الميراث) إذا ما كانت عواطف معترضة علي ظلم إخوتها، أم لأن الشرع جعل نصيب البنت نصف نصيب الولد(حسب الكلام الذي تقوله عواطف علي لسانها" إن الله يحقد علي النساء لأنهن جميلات، ولهن صدور نافرات، وتمتلئ أردافهن حبا وعشقا للحياة، بينما الرب يحب القسوة وشنبات الرجال وقلوبهم الميتة" ص21 مع أنها لو طالبت بنصيبها الشرعي مع أختها لحصلتا علي الدور الأرضي الذي كانت تعيش فيه الأسرة، ولحصلت مع أختها علي ثلاثة قراريط من إجمالي نصف فدان تركه الأب، كما أن عواطف ظل زوجها يعمل في السعودية حتي مات، ولا يستقيم أن يموت من يعمل في دولة خليجية ألا تستطيع أرملته أن تدفع إيجار الشقة، وأن يطردها إخوتها الذين خدمتهم طوال حياتها وخدمت من قبل أبيهم وأمهم، ليتبرع لها أهل الحارة بتأجير حجرة. كما كشفت المجموعة عن قصور فادح بعالم القرية المصرية ومفرداته، رغم أن القصص تدور غالبا في عالم ريفي، وأبطالها ريفيون، فعلي سبيل المثال، "شجرة الجميز التي تتوسط جرن القرية تدهشنا بزهورها الناعمة الحمراء والبيضاء، تلقي بروائحها المنعشة ليل نهار علي شوارع ومنازل القرية" ص30 والمعروف أن شجرة الجميز لا تزهر، ولا لزهورها رائحة، ومعروف فلاح فقير، يمتلك عدة قراريط، ويملك خمس جواميس وعجل بقر وحمارتين وجملا، ومعروف بهذا الوصف لا يكون فقيرا، كما أن هذا العدد من البهائم لا يتلاءم مع فلاح يمتلك عدة قراريط. إن مجموعة "أين الله" لكرم صابر تكشف عن رغبة دفينة طوال القصص في صدم المتلقي، إن لم يكن بالسرد والحكي فبالشخوص الغريبة، وغير المقنعة فنيا، وإن لم يكن بهذا ولا ذاك، فبالكلمات الفجة، الصادمة للقارئ المحافظ، والتي تتعامل مع شأن من شئونه الدينية، حتي وإن أتت هذه الكلمات علي لسان شخصيات تهذي أو مجنونة، فلدي الفنان الحقيقي عشرات الوسائل الفنية لعرض ما يريد بشكل لا يؤاخذ عليه، أقول ذلك في نفس الوقت الذي ينبغي فيه الإقرار بحرية المبدع في تناول كافة الموضوعات، والاتفاق علي أن هذه الحرية لا تحدها حدود، ولا سلطان عليها سوي شروط الفن، فما يكتبه أي كاتب ليس مقدسا، لكنه يحتمل المناقشة والاختلاف، والنقد الأدبي هو الطريق الأوحد للتعامل مع العمل الأدبي.