الكتاب: غرفة أبى المؤلف: عبده وزان الناشر: ضفاف الاختلاف كشف عبده وازن في عام 2009 عن تجربته الروحانية ورؤيته لموقع الذات في علاقتها بالله في كتابه "قلب مفتوح"، وقد تناولت تلك السيرة- التي ارتكزت علي عملية قلب مفتوح- الروح والقلب باعتبارهما بابين للذات، وتميزت أنها لم تُكتب بالشكل المعهود للسيرة، أي الشكل الذكوري التقليدي الذي يعتمد التطور الخطي منهاجا، لينتقل من حال إلي آخر، وكأن الذات تعيد ترتيب تشرذمها في الكتابة من ناحية، وتوهم القارئ بقدرتها علي الإمساك بمقدراتها من ناحية أخري. يُواصل عبده وازن في كتابه "غرفة أبي" سيرة أخري، سيرة الذات الحاضرة التي تتشكل في غياب الأب. في هذه السيرة يتحول الأب إلي رمز يموج بالمدلولات، فالأب غائب منذ زمن طويل، ما من ذكريات يسترجعها الكاتب وما من حوارات يعيد تأملها، لا شيء سوي غرفة الأب وبضع صور أبيض وأسود في صندوق "الكنز" في الغرفة. كان أبا حقيقيا ثم أمسي أبا متخيلا، كالمجتمع المتخيل تماما. تعتمد هذه السيرة كاملة علي سؤال يتردد كثيرا في النص،إذ يتساءل الكاتب عن ماهية ما يكتبه، هل هو رسالة، أم نص، أم بورتريه، أم هو مونولوج؟ انشغل الكاتب/الابن بهذا السؤال وكأنه يسعي لتبرير اتخاذه من الأب تكئة لإكمال نقصان الذات، فهو "ابن ناقص" لكنه "أب كامل، أب كلي الأبوة". لم يظهر التبرير بشكل مباشر، وإنما ظهر في المراوغة. فهو في البداية يحاول أن يقنعك أن فكرة التماهي مع الأب قد تكون كائنة في النص، من قبيل التماهي بين الرقصة والراقص (الصورة التي عول عليها الشاعر الايرلندي ويليام بتلر ييتس)، وتارة يقول لك إنها ليست رسالة لأنه لا يحب فن الرسائل ويصيبه بالملل، وتارة يؤكد أنه يبحث عن الأب الغائب. لكن بيت القصيد هو أن رمز الأب- المتخيل الغائب- بالإضافة إلي الشكل الذي ارتكز عليه النص- رحلة البحث والاستقصاء- يفضيان إلي اكتشاف كافة الدلالات المرتبطة بالأبوة من ناحية، وتقويض العديد من الصور النمطية للأب من ناحية أخري. وتبقي في المركز جدلية من هو الأكبر: الابن أم الأب؟ (في هذه الجدلية لابد أن يكون وليام وردزورث قد خطر علي باله حين قال "الأب هو الابن") وهي جدلية تحمل في ثناياها المبرر الذي يدفع الابن/الكاتب إلي استرجاع طفولته في زمن الأبيض والأسود، محاولا فهم الدرب الذي مر به، واضعا أمامه طفولة وقعت بالفعل وأخري متخيلة مع أب غائب، مقتربا بذلك من نهج المساءلة الرومانسية (في القرن التاسع عشر) للذات ومجريا معها حوار يبدو وكأنه حوار مع الأب. لا يمكنك الإمساك بلب النص، وبالتالي فهو لا يبني لنفسه بداية أو وسط أو نهاية، النص موجود في كل سطر وكل فقرة وكل مشهد، يلتف علي نفسه ليكمل نقصان الذات، يخرج من حكاية لأخري فلا يمكن تحديد الأصل من الفرع، ذاكرة النص تشبه ذاكرة الشبكة العنكبوتية التي تنضح بنصوص مرتبطة ببعضها البعض مما يبقيها دائما نصوص مفتوحة. بل إن النص ذاته يتنصل من انتمائه لأي جنس أدبي، ويؤكد في النهاية- بعد أن يكون قد سحب القارئ علي أرضية وهم السيرة- أنه لا يكتب سيرة، فالابن/الكاتب الذي اقتلع جذوره وتخلص منها (بنفس قدر تمسكه بها) قد خرج من فخ الهويات القاتلة (بتعبير أمين معلوف) وأعلن عدم اهتمامه بتتبع شجرة العائلة، ومن ثم فإن النص أيضا بلا هوية مسبقة، بل هو يشكل نفسه في لحظة الكتابة/القراءة. وكما أكد وازن في "قلب مفتوح" أنه "كائنا مقتلعا لا ينكر ماضيه ولا يعترف به"، فإن النص الحالي أيضا لا ينكر الماضي الأدبي لكنه لا يحاول أن يوجد لنفسه مكانا في تاريخ أدبي. يكتفي بذاته فيفسح مكانا رحبا لأكثر الأسئلة الوجودية حساسية: الله، الوطن، المرأة. وهو ينجز هذه المهمة الصعبة عبر الانطلاق من تفصيلة متخيلة تتعلق بالأب ويبني عليها افتراض تلو الآخر عن طريق استعادة ذكري من هنا وأخري من هناك. ومن اللافت للنظر أن الذكريات التي تحفز الابن/الكاتب علي طرح الأسئلة لا تنتمي كلها إلي مجريات الحياة، بل إن الذاكرة الأدبية تشكل عصبا رئيسا في النص. ومن الأب ورمزيته ينتهي الابن إلي أبوة الله، الذي لم يرد عبيدا، فالأب رب والرب أب، وهو ما يدفعه إلي إعادة التأكيد علي موضعة المسيح في العالم، بذلك يُكمل الكاتب ما بدأه في "قلب مفتوح" ويُعيد التأكيد علي النزعتين اللتين تتملكا روحه، وبالتالي نظرته للعالم، واحدة صوفية وأخري جسدية. وهو ما يعينه علي تحمل فكرة الوطن، لبنان الممزق دائما، الموزعة أشلائه بين أحزاب وأطراف ومصالح، لبنان الذي كان فكرة وبقيت فكرة. وكون الوطن كان فكرة لم تتحقق يبدو سببا كافيا للغضب الهادئ الذي يجعل الوطن غرفة، وروائح، وأصدقاء، غرفة الأب، غرفة تخص المرء وحده مما يدعوني إلي التساؤل عن سبب عدم استدعاء الذاكرة الأدبية لنص فيرجينيا وولف، ذاك النص الذي أعلنت فيه عن تشكل الذات النسوية المتمردة. وعلي ذكر وولف، لا يتواني الابن عن مدح رقة أبيه، وهي الصفة التي يجدها أنثوية خالصة، فكل ما هو ليس مؤنثا لا يُعول عليه. بل إن النص نفسه في بنيته وفي التفاصيل التي يسردها- أو بالأحري يعترف بها- ينتمي إلي جنس أدبي انتهجته النساء ليحفرن صوتهن الخاص في منطقة جديدة. يكتسب النص مزيدا من الدلالات عندما يصارح القارئ الافتراضي أنه ليس واثقا من صحة ذكرياته، فالذاكرة تخون، وهي سمة حقيقية للذاكرة، فما نستعيده ليس ما حدث، بل هو طبعة ثانية من الحدث تتلون طبقا للعمر والثقافة والمزاج العام. بهذه المكاشفة يؤكد الابن/الكاتب أنه يكتب عن أب متخيل وعن ذات شبه متخيلة في ماضيها، كأنه ينظر في "مرآة مكسورة أجمع نثراتها لأصنع منها ما يشبه صورة لي، في طفولة كانت يوما، في فتوة، في أعوام أمسيت فيها أبا لنفسي" (222). نص "غرفة أبي" هو بحث عن الذات في غرفة الأب، بحث عن الداخل، ليس عن الأنا الموجودة في العالم، بحث يسعي إلي تأسيس بداية أولي، بداية للحياة وبداية لموقع النص. لكل شيء مرة أولي، ومن بياض الصفحة تتخلق البداية. لكن الأكيد هو أن الأب في النص قد غير موقعه ليصبح الابن.