يلهث وراء تفاصيل إحساس الشخوص ورؤاهم، ولكنه يراعي بنفس القدر الإطار الكلي شكلا ومضمونا. بدأ وجدي الكومي برواية "شديد البرودة ليلا" عام 2008 وتبعها عام 2010 برواية "الموت يشربها سادة". واتضح بعد ظهور عمله الأخير- الذي اصطلح علي تسميته "مجموعة قصصية" أنه كان يكتب القصة القصيرة علي مدار الفترة السابقة. السيناريو الأسهل هو أن يقال أن الكاتب قد جمع هذه القصص في مجموعة "سبع محاولات للقفز فوق السور" (الشروق 2013)، ولكن التمعن في "المجموعة" يكشف عن إعادة وضع هذه المجموعة داخل متتالية محاولات قفز من فوق السور. في بداية كل محاولة يلتقط الكومي خيط الوعي، أو بالأحري يلتقط محطة هامة في خط الوعي ويكتبها في شكل مشهد قصير مكثف، ويتبع ذلك ببعض القصص التي تلعب علي تنويعات تيمة المشهد. بهذا يتشكل الإطار الكلي والأسلوب البنائي الذي اختاره الكاتب ليُضمن القصص التي ربما كُتبت علي فترات مختلفة، ولكن الإطار لا يُضيف إلي الشكل فقط بل يجعل المضمون مغايرا أيضا. بمعني آخر، إذا كانت بعض هذه القصص قد نُشرت منفردة من قبل فإنها تكتسب الآن- داخل إطار المحاولات السبع- بعدا إضافيا في المعني والوظيفة. يبدو الشكل النهائي وكأن هناك متتالية داخل مجموعة قصصية. وهو ما يدفع الكاتب إلي محاولة شرح هذا الإطار في البداية، فيقول: "هذه محاولات طفل... للقفز من فوق السور، شب وكبر، وظن أن قامته صارت أطول منه، وتصور أنه لم يعد بحاجة لبذل الجهد الذي كان يبذله في السابق...."، لكننا نكبر وتكبر الأشياء معنا، وتزداد صعوبتها، "وتبقي في النهاية قامتها وطولها في مواجهة السور وارتفاعه". بهذا يقدم الكاتب تبريرا مبطنا للشكل الذي يقدمه، وهو ما يجعل الاقتباس الاستهلالي من قصيدة العشاء الأخير لأمل دنقل غير مبرر، فالمحاولات لم يكن بها خيانة، إلا إذا اعتبرنا أن عثرات الحياة النابعة من مسار الذات ومن علاقات قوي لا نمتلك سلطة عليها هي خيانة في حد ذاتها. وإذا كانت المحاولات السبع تتبع بعض المحطات منذ الطفولة حتي المراهقة المزعجة، فإن القصص الملحقة بكل محاولة تستعرض طريقا أطول، يبدأ بمشاهدات طفل وينتهي بتفوق الابن علي أبيه. في المحاولة الأولي يتعرض الطفل الذي التحق حديثا بالمدرسة إلي صدمات متتالية، ثم يكتشف في محاولته الثانية معني الفساد وإبقاء الباب مواربا، أما المحاولة الثالثة فتعني باكتشاف عوالم مغايرة قد -عن طريق الأصدقاء- تكسر ملل المألوف والمعروف لكنها غالبا ما تنتهي نهايات مأساوية تشكل "بقع كحلية في الشاي"، يستمر الاكتشاف في المحاولة الرابعة مع التغير الذي يضفيه ظهور مترو الأنفاق- وكأن هناك نقطة تحول- وهو ما يظهر في القصة التالية للمحاولة "نوافذ لا تلاصقها نوافذ". في المحاولة الخامسة يقع القفز من فوق السور فعليا فيتحول الفعل إلي دلالة علي مخالفة القوانين الصارمة المكبلة للروح كما يظهر في القصتين التاليتين عن مخالفة الأوامر العسكرية (مع استلهام سريع لقصة الشهيد سليمان خاطر). في المحاولة السادسة تبدأ محاولة مجاراة "القطيع" لينتهي الأمر بشعور عام بالإحباط والفراغ، ويتبعها عدة قصص تدور حول استنزاف متعة أو إحساس، وكأن هذا الاستنزاف لا يتيح للمحاولة السابعة أن تستعرض نفسها أكثر في قصص، فيأتي الختام بمحاولة مجهضة في الانتظار. إلا أن هناك بعض القصص التي حاول فيها الكاتب أن يوظف الرمزية بشكل عال فتغلبت الحرفة علي السرد والكتابة، مثل قصة "الحافلة" التي تموج بإسقاط سياسي حول فكرة القيادة، وقصة "بقع كحلية في الشاي" وأيضا "في منافسة الشمس والقمر" حيث يؤدي الجشع الشديد إلي عمي البصيرة وتفقد الحياة معناها. ربما يجب أن يُغمض الكاتب عينيه عن الحرفة أحيانا، ويترك مجالا أكبر من الحرية لمسار السرد؟ علي الجانب الآخر، تبدو قصص أخري عالية الذكاء في رهافة التقاط الجوهر وخاصة الثلاث قصص التي تتبع المحاولة الأولي. بشكل عام، إذا كانت هذه القصص تلعب علي تنويعات تيمات المحاولات السبع، فبتأكيد أدرك الطفل الذي أصبح شابا أن القفز من فوق السور ليس بالأمر الهين، ربما لم يكن مقدرا له أن ينجح في أي محاولة. وكما انتهت المحاولات بالانتظار فقد اصطدمت رغبات الشخوص وتوقهم إلي التحقق الإنساني بعثرة ليست سهلة، لأنها ليست سوي واقع صعب يصل أحيانا إلي درجة الاستحالة.