مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    وكالة فيتش تغير نظرتها المستقبلية لمصر من مستقرة إلى إيجابية    حي شرق بمحافظة الإسكندرية يحث المواطنين على بدء إجراءات التصالح    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024 في المصانع والأسواق    بعد انخفاضها.. أسعار الدواجن والبيض اليوم السبت 4 مايو 2024 في البورصة والأسواق    3 شهداء جراء قصف طائرات الاحتلال منزل بحي الصفطاوي شمال غزة    حسين هريدى: الهدف الإسرائيلى من حرب غزة السيطرة على الحدود المصرية الفلسطينية    تعرف على حكم مباراة الأهلي والجونة فى الدوري الممتاز    "أفشة يقترب من الرحيل".. سيد عبد الحفيظ يكشف مفاجأة عن مصير نجم الأهلي    «توخوا الحذر».. بيان عاجل من الأرصاد بشأن حالة الطقس اليوم وموعد عودة الأمطار في مصر    التموين تتحفظ على 2 طن أسماك فاسدة    دفنوه بجوار المنزل .. زوجان ينهيان حياة ابنهما في البحيرة    شيرين عبد الوهاب تبكي أثناء غناء «كدة يا قلبي» بحفل الكويت    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. السبت 4 مايو 2024    هيثم نبيل يكشف علاقته بالمخرج محمد سامي: أصدقاء منذ الطفولة    المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: أفلام المسافة صفر مهمتها حفظ حكاية غزة    المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الإذاعى أحمد أبو السعود    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    مصرع 37 شخصاً جراء الفيضانات في البرازيل    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    "ارتفع 140جنيه".. سعر الذهب بختام تعاملات الأمس    «صلت الفجر وقطعتها».. اعترافات مثيرة لقاتلة عجوز الفيوم من أجل سرقتها    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    الخطيب يهنئ «سيدات سلة الأهلي» ببطولة الكأس    ملف يلا كورة.. اكتمال مجموعة مصر في باريس.. غيابات القطبين.. وتأزم موقف شيكابالا    سيدات سلة الأهلي| فريدة وائل: حققنا كأس مصر عن جدارة    تقرير: 26% زيادة في أسعار الطيران السياحي خلال الصيف    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر وتثبت تصنيفها عند -B    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    مصرع طفلين إثر حادث دهس في طريق أوتوستراد حلوان    احتراق فدان قمح.. ونفوق 6 رؤوس ماشية بأسيوط    أمن القليوبية يضبط «القط» قاتل فتاة شبرا الخيمة    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    كندا توقف 3 أشخاص تشتبه في ضلوعهم باغتيال ناشط انفصالي من السيخ    السودان وتشاد.. كيف عكرت الحرب صفو العلاقات بين الخرطوم ونجامينا؟ قراءة    تصريح دخول وأبشر .. تحذير من السعودية قبل موسم الحج 2024 | تفاصيل    سيول وفيضانات تغمر ولاية أمريكية، ومسؤولون: الوضع "مهدد للحياة" (فيديو)    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    شيرين عبد الوهاب : النهاردة أنا صوت الكويت    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    استقرار سعر السكر والأرز والسلع الأساسية بالأسواق في بداية الأسبوع السبت 4 مايو 2024    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    فريق طبي يستخرج مصباحا كهربائيا من رئة طفل    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نص نادر لتوفيق الحكيم
الطبيب الشرعي
نشر في أخبار الأدب يوم 24 - 08 - 2013

هذا نص نادر. كتبه توفيق الحكيم ك "بورتريه" عن شخصيات التقاها في الريف المصري اثناء عمله في النيابة. ملاحظات ذكية حول الطبيب الشرعي لإحدي المدن التي عمل بها الحكيم ..ليعكس ليس فقط جانبا مهما من حياة هذه الشخصية المجهولة وإنما جوانب اخري كثيرة حول الحياة في اقاليم مصر المختلفة في ثلاثينيات واربعينيات القرن الماضي. كيف كان الطبيب الشرعي؟ كيف كان يعمل في ظل ظروف سيئة؟ كيف تكونت ثقافته؟ وكيف كان يكتب تقاريره ومعايناته؟ اسئلة كثيرة يجيب عنها هذه البورتريه ...وقد تعيد أيضا طرح اسئلة حول هذه اللحظة التي نحياها. حيث الطبيب الشرعي قاسم مشترك في معظم القضايا التي تفجرت في المجتمع المصري في الثلاث سنوات الأخيرة ..تحديدا عن كتب أحد هؤلاء الأطباء عن " لفافة" خالد سعيد التي كانت أحد اسباب خروج المصريين ضد نظام يقتل المصريين في أقسام الشرطة بالتعذيب... ولم ينته الأمر إذا عرفنا أن كثيرين ممن ماتوا في الأحداث الأخيرة ... كتب في شهادات وفاتهم أن سبب الوفاة " انتحار" ...
اصلاح مؤسسة الطب الشرعي ، وتأهيل العاملين فيها وتدريبهم ... وتوفير الامكانات لهم ..مطلب أساسي من مطالب الثورة ...التي لا تتفجر ثورات أخري ..وربما لهذا نستعيد نصا قديما عن طبيب شرعي التقاه الحكيم منذ أكثر من 70 عاما ...ربما نقارن بين وضعين وزمنين ...وقد نتحسر علي ما فات!
».. لم يمض اليوم الأول حتي جاءه »التمرجي« يناوله عشرة جنيهات قائلاً: إنها الإيراد اليومي، فلما سأله عن مصدرها قال: »خير ربنا كثير«.. ومضي الشهر الأول فكان إيراده ثلاثمائة جنيه خلاف مرتبه..«
كنا نقطن ذلك المنزل الذي تديره سيدة يونانية في ذلك البندر الكبير من بنادر الأقاليم.. نزل نظيف يحوي عدة حجرات متسعة حسنة الفرش، أغنانا عن استئجار البيت المستقل.. كان خير مأوي للعذاب من الموظفين المقيمين أو المارين في مهام رسمية قصيرة الأجل.. كنت تجد فيه القاضي القادم لجلسة عابرة، أو المفتش في الداخلية أو المالية أو التعليم الآتي في مأمورية عاجلة.
أما المقيمون فكانوا ثلاثة.. أنا وكيل نيابة البندر.. ورجل أيرلندي هو مدرس اللغة الإنجليزية بالمدرسة الثانوية.. ثم طبيب شرعي المديرية.
كان من الطبيعي أن تقوم صلة بيني وبين الطبيب الشرعي بحكم العمل.. فإن أكثر الإصابات الناتجة عن الجرائم التي أتولي تحقيقها كان عليه هو أن يفحصها.. واقتضي الأمر مني أن أذهب إلي محل عمله.. فكنت أعجب لمنظر المكان.. أكوام من اللبد والطواقي المثقوبة بالعيارات النارية، وأنواع مختلفة الأحجام من النبابيت والفئوس والبنادق الطويلة والمقروطة، وألوان من الجلاليب والصداري والعباءات ملطخة بالدماء.. كان الطب الشرعي وقتئذ قد أدخل حديثاً في بعض المديريات الكبري، ولم تزل المديريات الأخري تلجأ في فحص جرائمها إلي مفتش الصحة، كما كنا نلجأ من قبل.. ولطالما لجأت إلي مفتش الصحة، وهو غير متخصص في هذا العمل الدقيق.. فلما شاهدت عمل الطبيب الشرعي المنقطع لفحص الجرائم أخذتني الدهشة.. لقد كان يكفيه أن ينظر في لبدة مثقوبة ليقول لي كل شيء عن الجريمة والمجني عليه والقاتل، كأن غجرية تنظر الطالع في كف أو فنجان! فإذا هو يتدفق قائلاً لي: إن القتيل ضرب علي مسافة كذا، ومات في الساعة كذا، وكان عندئذ في وضع كذا، جالساً أو نائماً أو راكباً حماراً أو فرساً أو جملاً.. وكان عمله كيت، وحالته المعيشية كيت، وعاداته كيت.
هذه الاستنتاجات التي ما كانت تخطئ في أغلب الأحيان جعلتني أهتم بهذا النوع العجيب من العمل.. وجمع بيننا الجوار في نفس النزل، والتلاقي علي مائدة الطعام، فلم يمض قليل وقت حتي نمت الصلة وأصبحت صداقة بيني وبين هذا الطبيب الشرعي تبيح لي الخوض معه في الشئون الخاصة والعامة.. قلت له ذات يوم:
- إن عملك هذا لذيذ، ولاشك أنك تمارسه بشغف.
فقال:
- أكثر من ذلك.. لقد ضحيت في سبيله بالثروة التي كانت في انتظاري.. لقد كنت في أول عهدي مفتش صحة.. وأنت تعرف بالطبع الثروة التي يجمعها مفتش الصحة.
ثم جعل يقص عليّ ما حدث له في بداية عمله بالوظيفة الأولي.. لقد عين في أقاصي الصعيد.. في منطقة رأي فيها الفلاحين يخرجون من شبه جحور ليست آدمية، وأطفالهم تحبو علي بطونها كالزواحف، والأمراض ترعي في أجسادهم النحيلة التي لا لون لها ولا دم فيها.. لا تظهر لهم ملامح من الذباب الذي يغطي وجوههم وأجسادهم، لقد شك في أن هذا المكان قطعة من بلادنا.. ومع ذلك لم يمض اليوم الأول حتي جاءه »التمرجي« يناوله عشرة جنيهات قائلاً: إنها الإيراد اليومي، فلما سأله عن مصدرها قال: »خير ربنا كتير«.. ومضي الشهر الأول فكان إيراده ثلاثمائة جنيه خلاف مرتبه.. وفهم كيف يجري العمل المعتاد.. فالعيادة المجانية لا يراها هو بل يتلقاها »التمرجي« ويفهم مرضاها الأوضاع: من أراد العلاج المخصوص فليعد نقوده ويقف علي جنب.. أما من ليس لديه نقود ويريد العلاج المجاني، فهاهو ذا العلاج المجاني: يفحصه التمرجي فحصاً صورياً ثم يسلمه زجاجة بها ماء مرشح من الزير، ويوصيه أن يشرب منها جرعة قبل الأكل ويصرفه ويحيل علي مفتش الصحة المرضي طلاب المخصوص ممن دفعوا.. وظن المفتش أول الأمر أنهم بالمجان، ولكن التمرجي قال له: »عيب يا سعادة الدكتور تضيع وقتك هدراً..« كل هذا خلاف الإتاوات.. فالمحال العمومية المطلوب منها اشتراطات صحية، كالمقاهي ومحال البوظة ودكاكين البقالة والجزارة وخلافه يستصدر لها التمرجي من مفتش الصحة الموافقة اللازمة بعد استلام المعلوم، وهو يقول له: »لا تنتقل ولا تتعب نفسك يا سعادة البك، كل شيء تمام..« بل إن تصاريح دفن الأموات تعطي، مادام المعلوم يدفع دون أن يكشف أحد علي جثة المتوفي.. فمن حرق دفن.. ومن دس له السم دفن.. ومن مات من عدوي أو وباء دفن.. والتمرجي يقول لمفتش الصحة وهو يعرض كل حالة ليحصل علي الإمضاء: »امضاءك الكريم يا سعادة الدكتور وأنت مطمئن.. الوفاة طبيعية أربعة وعشرين قيراط!« فيسأله الدكتور: »أنت متأكد؟« فيشير التمرجي إلي عنقه بحماسة: »عيب يا دكتور! برقبتي!« وأراد يوماً أن يثور علي هذا الحال، وأن يقوم بنفسه يشرف علي كل شيء فأفهمه التمرجي أن تغيير الأوضاع سيؤدي إلي ارتباك العمل، لأن العمل سائر علي هذا النحو منذ عشرات السنين.. مفتش صحة يأتي ومفتش صحة يذهب، والوضع هو الوضع.. لأن هذا شيء متعارف عليه، ومفهوم في المصلحة والحكومة من قديم.. ولسنا نحن المطالبين وحدنا من دون الجميع بإصلاح الكون يا سعادة الدكتور! ولم يدر الطبيب ماذا يصنع، وسكت علي مضض.. إن تغيير الوضع لابد له من تغيير الجهاز«، وأول ما يلزم في هذه الحال هو علي الأقل تغيير الممرض الذي يعمل معه.. وأين له بالممرض صاحب العقلية التي تفهمه.. إن أي ممرض جديد سيجيء بمثل هذ الفهم وهذا الأسلوب: جمع النقود وتسليمها إلي الطبيب بعد حجز ما يستطيع حجزه لنفسه.. وخالجت مفتش الصحة فكرة عندما استيقظ ضميره: أن يلقي بهذه النقود في وجه التمرجي ويأمره بأن يردها إلي أصحابها.. ولكن سرعان ما وجد الفكرة ساذجة، ذلك أن الذي سيحدث هو أن التمرجي سيضع النقود في جيبه بكل بساطة، ولن يرد مليماً واحداً إلي إنسان، ويستمر بعد ذلك يعمل في الخفاء لحسابه الخاص، بأي طريقة.. لا جدوي إذن..ليس أمامه إلا أن يترك هذا العمل إذا كان لا يروق له.. وقد فكر بالفعل في تركه.. ولكن أين يذهب؟ لابد من انتظار فرصة مواتية.. ولكن ضيقه وقرفه ازدادا علي أثر خيبة أمله في مأمور المركز أيضاً: فقد وصل إلي علمه أن وباء تفشي في قرية نائية من قري المركز، فأراد الانتقال، وإذا بالمأمور يثبط عزمه قائلاً له: لا تصدق.. الحالة بخير!« فأصر علي الانتقال والمرور بنفسه، واضطر المأمور إلي أن يرافقه، وهناك رأي الحالة علي أسوأ ما تكون.. ولكن المنطقة كان لها سيد هو أحد كبار الملاك، لم يكن من مصلحته طبعاً أن ينتهي الأمر إلي وضع »كردون« حول القرية، وحجز الفلاحين الذين يعملون في أطيانه.. فأوعز إلي المأمور أن يثني الدكتور عن عزمه.. وجعلوا يتحايلون ويماطلون ويراوغون، تضييعاً للوقت، وأعدوا له وليمة، فرفض الطعام، فجاءوا إليه بالشاي والسجاير من الدكان الوحيد في القرية، وهو أيضاً تحت إدارة المالك الكبير، افتتحه ليبيع لأهل الناحية ولخفراء نقطة البوليس، وكان وكيل الدايرة يتقاضي من الخفراء ما استجروه من الدكان في أول كل شهر.. كان يذهب ومعه قائمة بأسمائهم، يظل ينادي فيها علي اسم كل خفير والمستحق عليه، ويقبض من المرتب بعضه أو كله من الصراف مباشرة، كما لو كان مندوب الحكومة!.. رفض الطبيب كل ما قدم إليه، لأنه كان يعلم ما وراء ذلك.. وظل يعمل ويبحث والمأمور في أثره يقول له مردداً: »الحكاية لا تستحق.. والله الحكاية كلها ما تستحق اهتمامك!..« وجاء الطبيب بالعمدة وسأله عن الحالة الصحية فقال: »مفيش أحسن من كده!« فطلب إليه تقديم دفاتر المواليد والوفيات، فأحضرها له، فما كاد يفتحها وينظر في صفحاتها حتي صعق من الدهشة: لقد كانت الدفاتر كلها بيضاء من غير سوء، لم يدون فيها حرف واحد.. فصاح:
- أيه ده يا عمده؟ فين المواليد والوفيات؟!
فقال:
- المواليد في الغيط، والوفيات في القبر.
فصاح فيه:
- مفهوم.. لكن الدفاتر دي سلمت لك لأجل تقيد فيها المولود والمتوفي.
فقال محتجاً:
- أقيد المولود والمتوفي؟! سبحان الله! أنت عاوزني أعد علي ربنا؟ سبحانه وتعالي هو المتصرف في عباده! وهنا لم أتمالك نفسي من الضحك وقلت لصاحبي الطبيب الشرعي وقد توقف قليلاً عن السرد.
- مهمتك كانت صعبة حقاً.
فاستطرد يقول: إن الصعب في الأمر حقاً ليس هو جهل الناس بقدر ما هو فقدان الضمير والشعور بالواجب عند من ليسوا بجهلاء، هؤلاء الذين كان يعتقد أن واجبهم هو أن يعاونوه علي محاربة الجهل والمرض، كانوا هم الواقفين في وجهه، يضعون العقبات لمآربهم الشخصية.. ولم يستطع أن يكمل شهراً آخر في هذه الوظيفة.. عاد إلي القاهرة وقابل الرؤساء، وأفضي إليهم برغبته في الانتقال إلي عمل آخر.. وأخرج لهم محفظته وبها ثملاثمائة جنيه قائلاً: إنها جملة إيراده في ذلك الشهر خارج مرتبه المشروع.. إنه يرد هذا المبلغ الكبير إلي المسئولين، لأنه جاء من طريق لا يؤمن بشرعيته.
والتفت نحوي صاحبي الطبيب قائلاً:
- أتدري ماذا كان جواب الرؤساء؟! إنك ستعجب كما عجبت.. لقد اتهموني بالجنون.. وقالوا: إن تعييني مفتش صحة في الريف كان من علامات الرضا، لأعمل علي تكوين ثروة مثل غيري من الزملاء السابقين واللاحقين.
فسألته:
- وماذا فعلوا بالجنيهات الثلاثمائة؟
فقال:
- دسوها في جيبي ثانية، وهم يهددوني بقولهم: إن معني هذه الحركة هو الاتهام الصريح لكل الرؤساء والمسئولين الكبار، لأنهم كلهم قد مروا بهذه المرحلة في تفتيش الصحة بالأقاليم وكونوا ثرواتهم بنفس الطريقة، واقتنوا العقارات والضياع كما هي العادة!
- وأخيراً؟
- أخيراً أنقذني الله، أو أنقذوا هم أنفسهم من لساني بأن عرضوا عليّ السفر في بعثة إلي انجلترا للتخصص في الطب الشرعي.. قبلت طبعاً بسرور، وسافرت بالفعل ودرست هناك عامين وعدت لأعمل طبيباً شرعياً كما تري..
- ليس لك غير مرتبك.
- فقط ولله الحمد، وعملي هذا اللذيذ الذي أحبه، لأنه كما رأيت أنت هو شيء أشبه بالفن.
- حقاً!
قلتها وأنا شارد البال.. أفكر في شخصية هذا الطبيب الذي رفض حياة جمع المال، مفضلاً الحياة من أجل العمل الذي يحبه.. أهي شخصية مثالية شاذة أم أن هذه هي الشخصية الطبيعية التي يجب أن تكون لكل طبيب.. لكل طبيب حق؟ الشيء المخيف حقاً هو أنه قد اعتبر مجنوناً لأنه بهذه الأخلاق.. إذن هل نيئس من أن نري يوماً الفقير يعالج بالمجان؟ ربما وضعت النظم التي تكفل مثل هذا العلاج المجاني، ولكن من يضمن لنا أن الأمر لن يسير كما تسير العيادات المجانية التي ذكرها؟
يذهب الفقير إلي الطبيب فيعالجه العلاج الذي يستحقه الفقر والمجان، ويفهم من طرف خفي أن هناك علاجاً آخر مخصوصاً لمن يدفع الأجر؟ فيضطر الفقير إلي الحصول من أي طريق علي أجر العلاج الخفي المخصوص؟! وبهذا تمكن النظم للطبيب من أن يربح من الناحيتين: مرتب الانقطاع للعلاج المجاني، ثم أرباح العلاج في السوق السوداء! إنها ليست النظم إذن! إن النظم وحدها ليست هنا بكافية.. إن المطلوب أولاً الأخلاق.. المثل العليا.. أن تكون شخصية هذا الطبيب المثالي هي القاعدة العامة، وليست الشذوذ ولا الجنون!
ولكن.. كيف يحدث هذا في مجتمع أساسه كله قائم علي اعتبار جمع المال هو القيمة المثالية.. إن الأطباء اعتادوا أن يتنافسوا، لا في عدد من عالجوهم بالمجان من الفقراء، ولا في الكشف الفني عن علاج جديد، ولا في التفوق العلمي وحده، بل في مستويات الدخل والإيراد.. سمعت فعلاً في بعض المجالس عن طبيب يدخل علي زملائه بعد انتهاء عيادته آخر النهار ليعلن إليهم في صيحة الانتصار: »بعد إيراد هذا الشهر أكون قد وصلت إلي العشرين ألفاً!« من الجنيهات طبعاً.. فيرد عليه زميل »أنت متأخر جداً!.. من في مثل دفعتك له الآن مستشفاه الخاص، يدر عليه مثل هذا المبلغ سنوياً!« هذا علاوة علي التفاخر بالمقامات والمكانات تبعاً لرسم العيادة.. كشف الدكتور فلان خمسة جنيهات، وأنا لست أقل منه شأناً.. هذا هو مقياس المستوي الفني.. لا عند طائفة الأطباء وحدهم.. بل عند كل طوائف المجتمع.. مقياس الكفاءة عند المحامي والمهندس والممثل والمقاول، ومقياس الاحترام للشريف وغير الشريف واحد في هذا المجتمع: محفظة نقوده.. »معك قرش تساوي قرشاً.. معك جنيه تساوي جنيهاً« هذا هو شعار المجتمع كله.
وخرجت من شرودي وتأملي وقلت لصاحبي الطبيب:
- متي يكون كل الناس مثلك؟!
- في أي شيء تقصد؟
- أقصد.. في أن تكون قيمة المواطن فيما يحب ويحسن من عمل، لا فيما يباهي ويجمع من مال؟!
ففكر قليلاً ثم قال في شبه همس:
- لست أدري..
فقلت له:
- حقاً.. ليس الأمر سهلاً! لكي يحدث هذا يجب أن يغير المجتمع كله شعاره ونظرته.. ولكي يغير المجتمع مثله ونظرته وشعاره يجب أن يتغير هو نفسه من أساسه!

كان العمل مع هذا الطبيب متعة.. خرجنا ذات يوم إلي إحدي القري، علي أثر وصول بلاغ من مجهول يفيد بأن جثة أحد الأهالي مدفونة في قاعة الفرن بدار إحدي الريفيات.. وقد استخرجت الجثة فعلاً من تلك القاعة.. واتضح أنها لزوج هذه الريفية.. كان قد اختفي منذ مدة.. وزعمت الزوجة أنه ذهب إلي بلدة نائية تزوج فيها بامرأة أخري.. سرنا في التحقيق شوطاً.. ولم تجد الزوجة بداً من الاعتراف بأن زوجها قتل في هذه القاعة أمام عينيها.. فوجود الجثة مدفونة في دارها لا يدع مجالاً لإنكارها.. ولكنها أنكرت وأصرت علي الإنكار أن لها يداً في القتل، كيف حدث القتل إذن؟! ومن القاتل؟ جماعة لا تعرفهم.. كانوا ملثمين، دخلوا عليها هي وزوجها ليلاً، وطعنوه بسكين ودفنوا جثته في أرض القاعة، وهددها بالحرق إذا هي نطقت بحرف عما حدث.. لماذا فعلوا به ذلك؟ قالت إنها لا تدري.. ولعله ثأر قديم لا تعرف عنه شيئاً.. فزوجها كان يقول لها أحياناً أن له أعداء في بلدة أخري، ولكنه لم يصرح لها بشيء أكثر من هذا.. ولم يخطر لها هي أن تسأله، لأن الموضوع وقتئذ لم يظهر لها بالأهمية التي تسترعي الالتفات.. وكانت المرأة تتكلم بهدوء ووضوح وصراحة، وكل ما فيها يوحي بأنها جديرة بالثقة والتصديق.. لقد بدت الحادثة منطقية علي هذا الوضع.. وكل ثغرة فيها أصبحت مسدودة.. فلم يبق إلا أن نقيدها قضية قتل ضد مجهولين.. إذ لم نر هناك بصيصاً من أمل في معرفتهم، والمرأة لم تر وجوههم الملثمة، ولا تعرف أصواتهم، لأنهم من بلدة أخري بعيدة لا تعرفها كذلك.. ولكن لماذا كتمت الأمر وانتحلت سبباً لاختفاء زوجها؟ لماذا لم تبلغ البوليس؟ قالت إنها خافت من تهديدهم.. فقد كان منظرهم مرعباً وهم يقتلون زوجها! ثم ما هي الفائدة من إحضار البوليس؟ أهو سيعيد إليها زوجها حياً؟! لا بالطبع.. إذن كل ما ستجنيه من تبليغ البوليس هو تعريض نفسها لانتقام الجناة، ولو بعد حين.. وهاهو ذا زوجها قد ذهب ضحية ثأر أو انتقام.. أفلا يكفي هذا درساً لها.. لقد آثرت السكوت، ورأت فيه السلامة والعافية، وهي المرأة الضعيفة! ألم تحسن صنعاً؟ فهززت رأسي.. ولم أدر بماذا أجيبها! كلامها معقول! إنها وجهة نظر مقبولة علي كل حال.. وطويت أوراقي، وعدت أدراجي.
وانصرف صاحبي الطبيب الشرعي في صمت إلي بحثه، وانقطع له أسبوعاً، غاب فيه عن نظري.. ثم ظهر فجأة أمامي ومعه التقرير، وهو يقول باسماً:
- اسمع يا سيدي نتيجة الفحص!
قلت له بغير اهتمام كبير، كأني متوقع أنه لن يأتي في الأمن بجديد.
- تفضل!
فقال بهدوء متواضع:
- أولاً القتل لم يحدث في القاعة، بل حدث في الغيط.. ثانياً لم يحدث القتل بسكين، بل حدث بالخنق وبواسطة حبل من الليف، ثم وضعت الجثة في زكيبة من زكايب القطن حملت علي جمل إلي القاعة حيث دفنت.. ثالثاً المرأة اشتركت قطعاًفي القتل مع شخصين آخرين علي الأقل..
فصحت من الدهشة:
- أأنت أيضاً تؤلف روايات؟!
فقال ضاحكاً:
- ولمَ لا.. إنني أؤلف فعلاً.. ولكن فقط.. علي أساس من عناصر حقيقية ملموسة.
- قل لي بالله كيف عرفت أن القتل حدث في الغيط؟
فأجاب:
- لأني وجدت الكف اليسري لجثة القتيل قابضة علي أعواد دقيقة متكسرة من أعواد القطن.. لقد فوجئ وهو في الغيط وسط زراعة قطنه.. ولو كان في داره ليلاً لما كان هناك سبب لاستمرار قبضه علي هذه الأعواد.
- وكيف عرفت أنه خنق بحبل ليف؟
قال:
- معرفة الخنق بسيطة جداً.. وأنت لا تجهل ذلك.. ولعلك تقصد لماذا خنق بحبل ليف بالذات؟ هنا العقدة! والجواب أنني لاحظت حول عنقه بضعة خيوط دقيقة لا تكاد تُري، وبفحصها تحت الميكروسكوب تبين لي أنها خيوط ليف مما يستعمل في جدل حبال المواشي.
قلت له:
- وكيف عرفت أن الجثة نقلت في زكيبة علي جمل؟
قال:
- هذا مجرد استنتاج.. لأني أبصرت جملاً في زريبة الدار، كما أبصرت أكياس قطن مفروشة فوق الفرن.. وبما أن القتل حدث في الغيط، فما من وسيلة لنقل الجثة إلي القاعة لدفنها إلا بوضعها في الزكيبة وحملها علي الجمل، والزكيبة والجمل موجودان فعلاً في الدار.
قلت له:
- إلي هنا كل هذا جائز.. لكن ما دليلك علي اشتراك الزوجة في القتل؟
فأجاب علي الفور:
- أما هذا فمؤكد.. وإليك الدليل القاطع: وجود شعر لرأس امرأة في قبضة القتيل اليمني التي وجدتها.. قد تشنجت وماتت علي هذه الخصلات.. وبمضاهاتها بشعر الزوجة.. أثبت الفحص أنها لها.. والذي حدث هو أن القتيل قد قاوم بالطبع قاتليه، وأثناء المقاومة أراد أن يقبض علي رأس المرأة.. أما أنها كانت مع شخصين آخرين علي الأقل، فهذا واضح من أنه لا يمكن لامرأة بمفردها القيام بكل هذه العملية، واستبعد أن يكون معها شخص واحد آخر فقط، فالقتيل ضخم فارع قوي، وليس من السهل علي رجل وامرأة وحدهما التغلب عليه وخنقه بحبل!
قلت وأنا أتعجب:
- شيء عجيب! أعطني التقرير!
وقمت في الحال بفتح باب التحقيق من جديد، وأمرت بالقبض علي الزوجة، وواجهتها بالتهمة وصورت لها الجريمة كما حدثت طبقاً لما جاء في تقرير الطبيب الشرعي، وإذا بالمرأة تُذهل وتنهار، وتأخذ في الاعتراف، وتقص علينا تفاصيل الجريمة كما وقعت بالفعل.. فإذا أنا أُذهل بدوري.. فقد كان كل ما تصوره الطبيب الشرعي وخلته أنا تأليفاً روائياً إنما هو حقيقة واقعة.. فالقتلة كانوا رجلين معها.. هما شقيقاها.. وتم القتل فعلاً بالخنق بحبل الجمل الليف.. بعد غروب الشمس.. في غيط القتيل.. ذهبت المرأة مغ شقيقيها إلي الغيط ليساعدوا الزوج علي تحميل أكياس قطنه علي ظهر الجمل، وكانوا قد تآمروا علي انتهاز غفلة منه، وخلو الغيطان المجاورة من أصحابها، وعودة الفلاحين مساء مع مواشيهم إلي دورهم، للانقضاض عليه وخنقه وحمله في زكيبة قطن فارغة لدفنه في الدار.. لقد رفضوا فكرة ذبحه بشرشرة البرسيم، أو فلق رأسه بالفأس، خشية أن يسيل دمه في الغيط ويلوث ثيابهم، ويحتاج إخفاء الجريمة إلي مشاكل ومتاعب ووقت طويل.. فاستقر رأيهم علي هذه الطريقة، وكادت تنجح حقاً في إخفاء كل أثر للجثة والجريمة والقتلة، لو لم يطلع لهم من تحت الأرض صاحبنا الطبيب الشرعي، فيهتك سترهم بفنه العجيب.. ليس من المهم بعد ذلك أن نعرف سبب الجريمة.. إنه سبب فارع تافه من تلك الأسباب التي يضخمها الجهل في الريف فتودي إلي القتل.. إنه غيظ الزوجة من زوجها الذي كان ينوي التزوج عليها من امرأة في بلدة أخري، وفزعها من أن يذهب بالقيراطين المملوكين له إلي الضرة الجديدة، ويتركها بلا عائل.
وجلسنا بعد العشاء في شرفة المنزل، بعد أن فرغنا من هذه القضية، أنا وصاحبي الطبيب الشرعي، نتجاذب الحديث.
قلت له:
- أتعرف أن عملك فعلاً هو عمل فني؟
فقال باسماً كمن يري أني أقول شيئاً بديهياً لا جديد فيه ولا معني له:
- طبعاً.. أنا كادر فني يا أستاذ!
فقلت موضحاً:
- لا.. ليس هذا ما أقصد.. إنني أقصد أنه عمل مشابه من بعض النواحي لعمل الروائي والمسرحي والمصور والموسيقي والشاعر.
1 تقصد الخيال..
- الخيال في أعمق معانيه: وهو القدرة علي تشكيل الحقيقة من العناصر المتفرقة.. تصور الأشياء تصوراً يشكل منها حياة نابضة.. تركيب أجزاء صغيرة متناثرة غير ملاحظة تركيباً يبرز خلقاً كاملاً للحقيقة.. إنك من بضعة خيوط، وخصلة شعرات استطعت أن تعيد بناء الحقيقة! الفنان لا يفعل أكثر من ذلك، ببضعة ألفاظ أو ألوان أو أنغام يستطيع أن يعيد تركيب حقيقة هذا الوجود الإنساني!.. ولم يصغ هو إلي قولي، فقد أرهف أذنه إلي صوت موسيقي تتسرب إلينا من خلال باب نصف مغلق في الجانب الآخر من الشرفة.. فأرهفت أذني أنا وقلت:
- هذه افتتاحية الناي المسحور لموزار..
فالتفت الطبيب إلي الجهة الآتي منها الصوت وقال:
- إنها حجرة المدرس الأيرلندي!
- عن إذنك!
قلتها وأنا أنهض ميمماً شطر هذه الحجرة.. فإن سحر موزار علي روحي لا يقاوم.. لم تكن صلتي بهذا الأيرلندي وثيقة.. كل ما بيننا من علاقة لم يتجاوز تلك الأحاديث العادية التي يتبادلها النزلاء علي مائدة العشاء.. ولكني صممت في تلك اللحظة علي أن أوثق صلتي به من أجل موزار.. واقتربت من حجرته وأرسلت البصر من خلال الباب نصف المغلق، فشاهدته مستلقياً علي المقعد الكبير ماداً ساقيه فوق الكرسي الخيزران، وإلي جانبه فوق المنضدة فونوغراف علي شكل حقيبة، كان يعتبر طرازاً حديثاً نادراً في ذلك العهد.. طرقت الباب طرقاً خفيفاً، سمعه فانتفض ناهضاً علي قدميه.. فلما رآني بدت في عينيه نظرات العجب والتساؤل، ومد يده في الحال يسكت أسطوانة موزار.. وخفت أن تذهب به الظنون بعيداً.. ويخيل إليه أني جئت بصفتي الرسمية لأمر يتصل بالنيابة والقانون.. فأسرعت أقول له باسماً، وأنا أشير إلي الفونوغراف:
- أرجوك! فلتستمر الأسطوانة! إني ما جئت إلا من أجلها!
فعاد الهدوء والصفاء إلي وجهه، ودعاني إلي الجلوس وهو يقدم لي كرسياً، ويقول في ابتسامة ترحيب:
- أتحب هذه الموسيقي؟!
- جداً وخصوصاً موسيقي موزار.
- من حُسن الحظ أن عندي منها الكثير.
وأشار إلي مجموعات عديدة رص بعضها فوق بعض، ثم أخذ يتناول منها ويناولني لأشاهد، وإذا كل مجموعة داخل غلاف من الجلد تحوي سيمفونية كاملة.. ياللعجب! ما كل هذا العدد لسيمفونيات موزار! وما كل هذه العناية في جمعها! لقد بهرني ما رأيت.. إن أغلب هذه الأعمال لم أكن قد أطلعت عليها من قبل.. فما أتيح لي سماعة لموزار لم يجاوز بعض الافتتاحيات، وقليلاً من الأوبرات، وسيمفونية واحدة أو اثنتين علي الأكثر.. ولم أكن عل علم إطلاقاً بأن موزار كتب كونشرتو للفلوت والأوركسترا.. وهاهو ذا بين يدي هذا الكونشرتو في مجموعة كاملة داخل غلاف جلدي جميل! خيّل إليّ أنه مر وقت طويل وأنا لاه عن الرجل صاحب الحجرة، أقلب مجموعاته ذاهلاً لا أشعر بما حولي.. إلي أن وجدت يده تمتد في رفق إلي ما في يدي من أسطوانات، وهو يقول:
تحب أن تسمع شيئاً منها بالذات؟
فأفقت وفهمت أنه أراد أن يخرجني من هذا الموقف الذي طال، فقلت له وأنا خجل:
- نعم.. أكون شاكراً!
- هل وقع اختيارك علي شيء؟
فلم أعرف ماذا أختار؟ كل ما عنده يغري بالاستماع.. بل إنني في حاجة إلي سماعها كلها.. كلها.. ولكن بالطبع وقته لن يسمح لي بأكثر من اسطوانتين أو ثلاث.. ولا ينبغي أن أطيل جلوسي
في حجرته إلي حد يضايقه وحسبي أنني تطفلت واقتحمت عليه خلوته، وجعلته يترك جلسته المريحة المستلقية المتراخية، ليتكلف لي حسن الاستقبال والضيافة.. تركت له هو الاختيار.. فاختار السيمفونية القصيرة من المقام الصغير.. وما كادت تنتهي وأنا غارق غرقاً في المتعة، حتي أغلق الفونوغراف، كأنما أراد أن يسد عليّ الطريق.. وقال وهو يبتسم:
- بديعة.. أليس كذلك؟!
- جداً.
- إنه ليسرني أن تشاركني الاستماع كلما سمح بذلك وقتك.
- بكل سرور! بل إن هذا ليسرني أنا ويسعدني بنوع خاص!
قلتها بإخلاص وكأنها نابعة من أعماق قلبي، وصافحته شاكراً وانصرفت.. وصرت بعدئذ أحوم حول حجرته أملاً في أن يدعوني إلي الاستماع.. ولكن شاء سوء الحظ أن يشغل في تحضير امتحانات نصف العام، وفي تصحيح الأوراق وغير ذلك من المشاغل التي صرفته عن الموسيقي.. فلم أعد أسمع من خلال بأية صدي لصوت.. بل إن بابه نفسه أصبح مغلقاً عليه، فأغلق بذلك دوني باب الرحمة! وفي ذات صباح مررت ببابه فوجدته مفتوحاً.. ولم يكن هو بالحجرة، فقد علمت أنه انصرف مبكراً ليكون في المدرسة في تمام الثامنة، لحضور الحصة الأولي، أو لأعمال المراقبة في الامتحانات، لست أدري.. ولم يكن هذا بالمهم عندي.. المهم هو أن حجرته كانت خالية، وقد لمحت فيها الفونوغراف فوق المنضدة، ومجموعات الاسطوانات مرصوصة، وكأنها تناديني.. كان الإغراء شديداً.. لم أستطع المقاومة فدخلت حجرته، وأخرجت كونشرتو الفلوت لموزار، وجعلت استمع..
تكرر مني هذا الفعل.. حتي كدت انتهي من سماع كل ما في المجموعات بهذه الطريقة.. أترقب خروجه المبكر إلي عمله، فأدخل متلصصاً إلي حجرته، قبل أن يدخل إليها الخادم لتنظيفها وتنظيمها وترتيب فرشها.. فأسمع علي عجل سيمفونية أو اثنتين، ثم أخرج إلي عملي أو إلي جلستي التي تفتتح عادة في التاسعة.
ولكن ضميري أخذ يوبخني علي هذا الفعل الشائن.. رويت القصة لصاحبي الطبيب الشرعي.. قال يهون من شأن الموضوع:
- وماذا في ذلك؟ هل نقصت قطعة من أسطوانات الرجل؟
- تقريباً! لقد انتفعت بها واستهلكتها، بدون إذنه.. ودخلت حجرته بدون علمه! استهلكت متاعاً مملوكاً له.. إنه نوع من الاختلاس.. تصور.. وكيل النيابة هو الذي يقوم بهذا التلصص والاختلاس؟!
فأطرق الطبيب يفكر قليلاً، ثم قال:
- لم تتح لي الفرصة! لقد وجدت نفسي فجأة أمام الإغراء وجهاً لوجه!
- في الواقع أن التصرف من حيث الشكل منتقد.. لكن من حيث الجوهر فهو عمل مشروع.. إن كل ما أردت أنت هو الاستمتاع الفني.
- وأي استمتاع!
قلتها وأنا أتذكر تلك النشوة التي ما غمرني مثلها قط.. لماذا تضاعف حجم تلك المتعة، وأنا أختلسها اختلاساً من حجرة ليست لي، وباب نصف مغلق، أتطلع من خلاله تطلع الخائف القلق؟! أفضيت بهذا الشعور إلي صاحبي الطبيب، وسألته رأيه فقال:
- حقاً! ما أجمل اللحن الذي يأتينا عفواً من بعيد عبر نافذة الجيران! هناك دائماً علاقة بين البعد والحجم.. ففي الماديات يصغر الحجم مع البعد، ولكن العكس يحدث في المعنويات.. إن المعنويات والروحيات يكبر حجمها مع البعد!
- هل تري أن أصارح هذا الأيرلندي بما حدث.. وأشرح له قوة الإغراء التي أوقعتني، وأسأله الصفح!
- يكون أحسن! والأفضل من كل هذا أن تبادر فتشتري لنفسك فونوغرافيا وتقتني اسطوانات، حتي لا تعود مرة أخري.. وتصبح من أرباب السوابق!
- فكرة..
لفظتها باقتناع وقوة، وقد صممت علي تحقيقها.. وما وافي اليوم التالي حتي كانت خطة التنفيذ قد اكتملت..لن أنتظر حتي أذهب إلي القاهرة.. فلست أدري متي أذهب.. وليس من السهل طلب اجازة: لابد أن يكون في هذا البندر محل لبيع الفونوغرافات.. من الذي يدلني؟ لا أحد غير ذلك المخلوق العجيب! إنه فنان هو أيضاً.. فنان بالروح والسليقة والاستعداد، وإن كان فنه لا يتخذ شكلاً ولا إطاراً.. إنه »سيد دومة« ماسح أحذية النيابة والمحكمة! تلك الشخصية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الهيئة القضائية في هذا البندر.. إنه الدليل القضائي الحي المتحرك في هذه المدينة.. من أراد التحري عن أي معلومات خاصة بأحد القضاة أو أعضاء النيابة أو المكتبة والموظفين، فما عليه إلا أن يسأل »سيد دومة«، فيقول لك: فلان بك القاضي أو عضو النيابة أو فلان افندي كاتب الجلسة أو سكرتير التحقيق، كان هنا سنة كذا، وطباعه كيت، ومن عاداته أنه يجلس في المكان الفلاني في الساعة الفلانية، ويحب فلاناً ويكره فلاناً ويفضل هذا النوع من الطعام أو الشراب، ويدخن هذا الصنف أو ذاك من السجاير.. وهكذا، وهكذا.. ولكن القيمة الحقيقية لسيد دومة هي أنه قاضي الحاجات كلها لكل الموظفين وحلاّل المشكلات.. إذا أردت شيئاً مستعصياً أو نادراً فاطلب إلي سيد دومة يبحث لك عنه ويأت بالطلب في ساعتين.. وإذا كسر لك متاع أو آلة أو عدة ساعة أو وابور جاز أو طاحونة بن، وماكينة خياطة أو دراجة أو قلم حبر، فهو الذي يقوم بإصلاحها بنفسه.. عبقريته في إصلاح الآلات- خاصة الدقيقة- تكاد تكون قد ولدت معه، بدون دراسة ولا تعليم.. إن درجة تعليمه لا تتعدي فك الخط.. إنه يكتب ويقرأ ويفهم كل شيء.. ولا أحد يعرف أين تعلم هذا.. إن كل ما في الصحف من أخبار وحوادث يعرفها في المحطة بعد وصول قطار الجرائد.. وفي أقل من ساعة يكون قد مر علي مكاتب الموظفين يخبرهم بما يهمهم منها، وما يتعلق علي الخصوص بحركة الترقيات والتنقلات.. وهو يدخل كل صباح علي أكبر موظف وأصغر موظف علي السواء، بدون استئذان.. ما يشعر الواحد منا إلا وحذاؤه بين يدي سيد دومة، يمسحه في صمت بالورنيش المناسب، ولا يتكلم إلا إذا طلب منه الكلام، أو أنس فراغاً من الموظف.. ومحال أن تبدو منه حركة أو لفظ يعطل أو يضايق المشغول بالعمل.
جلست إلي مكتبي ذلك الصباح منتظراً مجيء سيد دومة، حلاّل المشكلات.. وما أن دقت ساعته المعينة حتي ظهر من الباب بعد طرقه طرقاً خفيفاً كعادته دون انتظار الإذن بالدخول.. ومشي مشيته الخفيفة كمشية القط الأليف، وقبع بجوار الحذاء وشمر كم سترته- إذا كانت تسمي سترة- فإن ملابسه الغريبة لا يمكن أن توصف.. فهي خليط عجيب من سروال أو بنطلون قديم لا يعرف مصدره مع سترة شبه عسكرية مما كان يتسلل من معسكرات جيوش الاحتلال، قد رقعت ترقيعاً أخرجها عن الصفات العسكرية والمدنية جميعاً، وأصبحت لها صفة خاصة بسيد دومة وحده، وفوق رأسه غطاء صوف أشبه بالطاقية، ولكنه ليس قطعاً بالطاقية.. إنه شيء سمعت بعضهم في البندر يسميه »كلبوش«.
وقد اتخذ هو أيضاً صفة الشخصية المستقلة عن أي رداء آخر للرأس، إنه رداء رأس سيد دومة وكفي!
جعل يمسح حذائي دون أن ينبس بحرف أو ينظر إليّ.. ولكنه فوجئ ولاشك بصوتي يقول له باهتمام:
- اسمع يا سيد يا دومة! تقدر تشتري لي فونوغراف؟
- فونوغراف بنفير؟
- نفير؟ لا.. لا.. فونوغراف حديث بشنطة!
- حاضر!
أجاب بهذه الكلمة الواحدة.. ثم مضي وعاد بعد قليل يعلن إليّ أن طلبي موجود.. ولكنه يستحسن أن أذهب لأختار بنفسي ما يعجبني.. ودلني علي الدكان، وقادني إليه.. فإذا أنا في دكان بقال.. فالتفت إليه منتهراً:
- بقال؟! دكان بقال؟! أنا قلت لك فونوغراف؟ أنت فاهم كلمة فونوغراف يعني إيه؟!
فنظر إليّ نظرة كلها عتاب، وقال:
- وانا جاهل للدرجة دي يا بيه؟
وأسرع إلي صاحب الدكان، وحادثه قليلاً.. فإذا به يكشف عن ستارة في ركن من أركان المحل ، ظهر خلفها صف به عديد من أجهزة الفونوغراف مختلفة الأنواع، من قديم ذي نفير إلي حديث بحقيبة.. فعجبت.. ثم علمت بعدئذ أن هذا المحل- هو أكبر محل بقالة في المدينة- لا يبيع البقالة وحدها، بل يعرض أصنافاً أخري مختلفة: من أقمشة جوخ، إلي أحذية، إلي جرادل، ومكانس، وفونوغرافات واسطوانات.. وأخذت الفونوغراف الذي أعجبني ولم يكن ثمنه يجاوز الجنيهين، لأن الطلب قليل في الريف لمثل هذا الطراز.. الكل هنا يفضل الطراز القديم ذا النفير الضخم الذي يملأ العين! وكان لابد لي معه من بضع اسطوانات، للتجربة علي الأقل.. فعرض عليّ البائع أن أتخير من بين كوم من الأسطوانات القديمة مختلفة الأحجام.. فجعلت أقلب فيها.. لم أتوقع بالطبع أن أعثر من بينها علي موزار أو بيتهوفن أو هايدن.. وجدت المرحومين الشيخ »يوسف المنيلاوي« والشيخ »سيد المصطفي« و»عبدالحي افندي حلمي«.. فانتقيت للأول: »فتكات لحظك أو سيوف أبيك« وللثاني »الحب صبحني عدم« وللثالث »حلالي بلالي وافاني الحبيب«.
عدت إلي النزل وخلفي سيد دومة يحمل ما اشتريت.. وما أن وصلت إلي حجرتي حتي بادرت إدارة الفونوغراف الجديد باسطوانات أولئك الأعلام في فن غنائنا العربي.. وعجبت أن أذني لم ترفضهم، بل استقبلتهم هم أيضاً بالترحاب.. ما أبعد الشقة حقاً بينهم وبين هايدن وموزار وبيتهوفن.. بل إن أي مقارنة بين هؤلاء وأولئك تعتبر ضرباً من المستحيل.. فهذان لونان لا يمكن أن يتقابلا.. لأن منطق كل منهما يقوم علي أساس مختلف.. ومع ذلك استطعت لدهشتي أن أحب هذا وذاك.. ثم زالت الدهشة الأولي وبدأت أفسر نفسي.. أفسر ظاهرة تقبلي للنقيضين.. ما من تفسير إلا أني تذوقت كلاً منهما بطعمه هو لا بطعم الآخر.. وقسته بمقياسه لا بمقياس الآخر ولا بمقياس واحد للاثنين.. إن اقتناص أنواع الجمال في الفن كاقتناص أنواع السمك في البحر! كل له شبكة خاصة.. فإذا استخدمت شبكة واحدة للجميع أفلتت منها أنواع أخري كثيرة.
ولم تتم فرحتي بالفونوغراف الجديد.. فلم أكد أديره في اليوم التالي بحضور صديقي الطبيب علي اسطوانة »فتكات لحظك..« ولم يكد يعلو صوت المطيب صائحاً: » الله الله يا شيخ يوسف يا منيلاوي« ولم يكد غناء المطرب الكبير يلعلع بمطلع القصيدة، حتي سمعنا حشرجة أخذت تمتد وتستطيل حتي أصبحت أنيناً خافتاً بوقوف الإبرة وقوفاً تاماً.. ماذا حدث؟ لقد انكسر »الزمبلك«!
ولعنت الفونوغراف وماركته وبائعه والذي كان السبب، وهو سيد دومة بجلالة قدره.. وأرسلت في طلبه في الحال فحضر.. فابتدرته صائحاً:
- الحق عليّ.. أنا الغلطان.. اشتري فونوغراف من محل بقالة؟!
فقال مأخوذاً:
- حصل خير؟!
فأشرت له إلي الفونوغراف:
- حصل يا سيدي أن »الزمبلك« مصنوع من المكرونة، لا من الحديد، انكسر بعد يوم وليلة.. تفضل عاين! فأخرج من جيبه مفكاً صغيراً يحمله في جيب سترته الواصع مع بعض آلات وأدوات دقيقة يحملها دائماً.. وجعل يفك غطاء الفونوغراف حتي كشفه ونظر داخله وأخرج الزمبلك المكسور.. ونظر إليّ وقال:
- حاجة بسيطة!
وغادرنا في سرعة البرق قبل أن نتمكن من استمهاله أو استيضاحه، وغاب مقدار نصف الساعة، ثم عاد إلينا ومعه شريط »خردة« طويل رفيع من المعدن أو النحاس، لا أحد يدري من أي شيء خلعه أو انتزعه، استطاع أن يلويه ويلفه علي بعضه لفاً وثيقاً.. سألناه:
- ما هذا؟
فقال:
- زمبلك عمولة!
وأخذ يضعه في جوف الفونوغراف، ويثبته بالمفك، ثم ركب الغطاء، وانتهي من المهمة، ونحن ننظر إليه دون اعتراض علي شيء مما يفعل.. فقد كنا يئسنا منه ومن فونوغرافه.. ولم نر جدوي في الكلام.. ونفض يديه ثم مسحهما في سترته واستأذن للانصراف قائلاً: »خلاص!« ونظرنا إلي الفونوغراف متشككين:
- أممكن لهذا الشيء أن يدور بعد الآن؟!
فرد في ثقة واطمئنان:
- جربوا!
وجربنا.. وإذا الفونوغراف يدور حقاً، وعلي أحسن ما يكون!.. بل حدث ما هو أعجب: لقد ظل هذا »الزمبلك الخردة« صناعة سيد دومة متيناً قوي النبض، قوة قلب فتي صلب لا يضعف ولا يشيخ مدي عشرين عاماً تنقل فيهما معي من بلد إلي بلد ومن مصير إلي مصير، وأسمعني خلالها من روائع السيمفونيات والمؤلفات الغربية، ولوامع البشارف والأغاني في الموسيقي الشرقية ما لا يقع تحت حصر.. إلي أن اقتنيت جهاز راديو شغلني وألهاني وأنساني وجود الأنيس القديم، فإذا هو يتنحي في تواضع، ويفسح الطريق للجهاز الجديد علي استحياء.. وإذا هو ذات يوم قد اختفي، لا أدري والله كيف! اختفي في صمت وهدوء، واختفت معه عِشرة دامت عشرين عاماً.
كلما ذكرته، ذكرت معه سيد دومة، وذكرت الطبيب الشرعي، وذكرت ذك النزل في ذلك البندر من بنادر الأقاليم، بل ذكرت فوق كل ذلك أن في الدنيا أشخاصاً تجري في دمائهم روح الفن وهم لا يشعرون!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.