قامت الحضارة المصرية القديمة علي محاولة قهر الموت بالإبقاء علي الإنسان حاضرا بعد رحيله بتدوين سيرة حياته علي جدران المعابد والمقابر في نقوش عبقرية في فنها الرفيع، وبتحنيط الجسد، والاهتمام بالمقبرة والاحتفاظ داخلها ليس فحسب بجثمان صاحبها بل وكل متعلقاته الشخصية في الحياة من مقاعد وأسرة ونياشين حتي إذا ما تم بعثه من جديد في العالم الآخر يبعث علي ماكان عليه في الحياة ملكا أو وزيرا أو قائد جيش أو ما إلي ذلك من علامات تثبت مدي أهميته، ولولا هذه النقوش والبرديات ما قدر لنا معرفة التاريخ الفرعوني، ثم إن التماثيل المنحوتة بأزميل عبقري كانت من أهم وسائل التخليد، وعلي هذا النحو بقي الملوك والقادة أحياء وإن صعدت أرواحهم إلي باريها. إذن فقد حققوا ما سعوا إليه من قهر للموت وتجسيد حي لتوق الإنسان المصري إلي الخلود واعتبر أن القبر هو بيته الأبدي، ومآبه وملاذه، فيه يتحقق الخلود فعني المصري من قديم الأزل وحتي اليوم بتأسيس مقبرة له يلحق بها كافة المرافق لاعتقاده أن روحه التي ستسكنها ستجذب أهله وعياله لزيارته في الأعياد وربما أيام الخميس والجمعة من كل أسبوع .لنتبين إن كثيراً من الطقوس التي ما تزال قائمة إلي اليوم هي إعادة إنتاج لطقوس قديمة بمضمونات جديدة. هذا الوهج والفاعلية المستمرَّين في جزء حيوي من مورثاتنا الشعبية إلي اليوم يعودان إلي أن هذه الموروثات تحمل بقايا عالم قديم رؤيوي قائم علي الاستعارة الشاملة، تتماهي فيه الأشياء في وحدة كلية تختزل العالم في زمن دائري. أسهم المقدس في الضمير الجمعي في منح الخلود والاستمرار لهذا العالم وبقاياه ورموزه في مكانه وزمانه الغامضين وأحداثه وشخصياته وأفكاره. وبالرغم من سيطرة العقل العلمي الحديث فإننا لم نتخلص تماماً في حياتنا وممارساتنا وطقوسنا وعاداتنا من استخدام هذه الموتيفات التي تحمل حطام رموز وأساطير موغلة في القدم؛ مثال ذلك الهلال والنسر، وهما الرمز القومي لعدد من الشعوب العربية والسامية، وتقابله نجمة داود ، وهي رمز القبائل العبرية، ونسرت هو المعبود القمري السبئي، ويشيرت إلي القدرية والدهرية، وهو رمز لخلود الأمة وقوتها، وقد ورد في نصوص المسند اسم بيت نسور. ويوردت عبيد بن شربة الجرهمي أسطورة الحكيم لقمان بن عاد ذي نسور ، الذي ارتبط موته بفناء نسوره السبعة لهذا سعي لقمان إلي الخلود عن طريق نسوره ، كما سعي إليه الخضر، وفاز بهت في الموروث الشعبي، حتي أصبح رمزاً لاستمرار الحياة. ونجدت بقايا ذلك في عادة جرت عليها بعض الأمهات، عند ما يشرق الطفل وتخاف علي حياته، تقول له »خضر« كأنها تطلب له حياة الخضر، فالخضر في الموروثات الشعبية الاعتقاديّة هو الذي قام بدفن آدم، وهو صاحب موسي ووزير ذي القرنين اليمني، وصاحب الظهورات التي تدل عليها المقامات. وذكره الرحالة التركي أولياجلبي بقوله : سيدنا الخضر النبي : رجلاً مسناً ذا تجارب وتدبيرات عظيمة في جيش الاسكندر، وكان معه في رحلاته في أنحاء العالم، ويقال أنه لا يزال حياً يرزق .!!. وإنه لمن المهم جدًا والبديع حقًا ، أن يقوم الدارس المصري النابه »محمد أبو الفضل بدران« بما له من خبرة بالفولكلور والميثولوجيا بدراسة فكرة الخلود في العالم متمثلة في عالمية شخصية »الخضر« في واحدة من أهم الدراسات الشاملة المستبصرة بعنوان :»الخضر في التراث العالمي« الصادرة مؤخرا عن المجلس الأعلي للثقافة بالقاهرة لتأتي فصول هذه الدراسة أشبه بجسور توصلنا إلي أبنية عتيقة ساحرة ، إلي آفاق يلعب فيها الخيال البدائي دورًا في غاية الجمال والفطنة الإنسانية المفطورة علي حب البقاء وكسر الحواجز بين الزمان والمكان وخلق لغة للتفاهم بها مع ظواهر الكون ومع نواميسه الغامضة. وتحدي الموت والفناء ومعها لا يمكن أن نخطئ الروابط بين هذا الحطام الرمزي الذي أحاط بشخصية الخضر في المعتقدات الشعبية وبين ما شاع بين الناس عن وجود نبات سحري مجدد للشباب وتجديد للحياة، والذي يساعد علي تأجيل وقوع الموت للإنسان، أو للبطل في الملاحم والحكايات والقصص الشعبي، وهو ما نلمح أثره في بعض نصوص التوراة وبعض الملاحم الشعبية التي تضمنت أفكاراً أقدم ترتبط بالعبادات الطوطمية. فالخضر هو الرجل الأخضر مخضر النبات، صاحب النهر المنساب للخلود، وهو صاحب النماء، وصاحب الرايات الخضر، منقذ المظلومين والضعفاء من يأس الطغاة والبغاة الجبارين، والمطارد لقطاع الطرق، وسيد الأولياء: ألأحياء منهم والأموات، الواقف درجات فوق درجات القطب في الديوان السماوي الصوفي، وهو نفسه القطب الأكبر، الحي الذي لا يموت إلا آخر الزمان، ومن صدق أنه ميت فهو يعترف بأن روحه تجوب الآفاق؛ لتصنع الخير والعدل. وقد يراه البعض منفردًا بشخصه وباسمه، وقد يراه آخرون مختلطًا مع سيدنا إلياس النبي، كما يقرنه آخرون بصاحب الحربة الشهيد البطل ماري جرجس الذي يسميه البعض »الخضر« والذي يراه بعض المسلمين من الرسل المذكرين في سورة »يس« وهذا يفسر احتفال المسلمين والمسيحيين بمولده في الأديرة المسماة باسمه في أرجاء مصر . إن الخضر عند البعض بصفته واسمه، وعند الآخرين هو كل هؤلاء، هو كل الموجدين في الهند وإيران والعالم العربي. الخضر عليه السلام الذي شغل كثيرا من الباحثين لمحاولة التعرف عليه وكشف مغاليق أسراره، منهم من بدأ وتوقف، ومنهم من قدم جانبا عنه وتوقف أيضًا حتي كتب أبو الفضل كتابه هذا عن الخضر فجمع شتات ما قيل عن علاقة الخضر بالأساطير القديمة والرؤية الإسلامية له وحضور الخضر في الشعر العربي والقصة والراوية، ثم انتهي إلي الخضر في السير الشعبية العربية وألف ليلة وليلة، وكانت له رؤية كاشفة عنه فملأ هذا الكتاب فراغًا في الدراسات الشعبية والدراسات في علم الأساطير للبحث عن شخصية أسطورية كاملة الرؤية في عالمنا الإسلامي، فهي الشخصية التي اختلف في رؤيتها ولكن أجمع علي قداستها. إنه أسطورة لا ينكرها عابد مسلم وإن أنكرها عالم عقلاني فهو لا يستطيع أن يقنع الناس بإنكاره، وكل ما يمكن أن يقال عنه إنه ميت، وليس حيًا، كلمات الخضر قليلة ولكن أفعاله كثيرة وهي نفسها كلمات فاعلة. فهو معلم موسي، ومعلم الأنبياء، كان الرسول صلي الله عليه وسلم يتمني لو أن موسي لم يجادل الخضر حتي لا تنقطع علاقته به لنعرف منه الكثير، فما صنعه الخضر مع موسي عليه السلام لا يصنعه إلا من كانت علاقته خاصة ووثيقة بالله فهو ممن أعطاهم الله المعرفة فهو العالم المتلقي علمه من الله والمنقذ للبطل في السير الشعبية العربية (كالزير سالم ، وسيرة بني هلال) والمساعد له في تنفيذ الإرادة الإلهية في تحقيق العدل والخير والنماء أملا في استمرار الحياة، ليس في شكلها الواقعي علي ظهر الأرض فحسب وإنما في ذلك الحطام الهائل والمتراكم من الرموز الأولي في موروثنا الشعبي ورغم ذلك جاء كتاب »الخضر في التراث العالمي« ليخاطب عقلك ووجدانك بلغة متحررة من عيبين متأصلين في الأكاديميين: الجفاف والإبهام.