بعدَ صدور مجموعتين قصصيتين للقاص السكندري محمّد عطية محمود ، تأتي مجموعته الجديدة " في انتظار القادم" أكثر نضجا ً وتطورا ً من حيث الموضوع واللغة والتقنية القصّصية الراقية .. فالمفردة في هذهِ المجموعة سحرية ، لمْ تتوضأ بماء القصيدة المُلحة فحسب ، بلْ بالحالة القصصية أيضا ً التي أرادَ لها القاص أنْ تقولَ كلّ شيء ، ليتحول الكاتب عبرها إلي فنان تشكيلي ، يرسمُ أدقّ التفاصيل ، ويُؤنسنها بمهارة عالية ، ف " شنطة حليمة" علي سبيل المثال تقولُ أشياء هيَ من مكونات الحياة ، ولكن بعدها الإنسانيّ المتوّج بطقس انفعالي ، جعل القاص يمسرحُ هذهِ الحالة ، في لحظة تماهٍ تام مع بطلة القصّة ، من دون أنْ تفارقَ مفردته ، وجملته القصّصية الحلم ، وهي تنسَج علي إيقاعات أوركسترا الحزن والحنين التي تضجّ بها المجموعة : ( لأنكِ توقنين تماما ً أن قلبك هناك) ص12. من أبرز ملامح هذا القاص المبدع في مجموعته هذهِ ، أنهُ بقدر مايجذبكَ ، ويُمتعكَ في أسلوبه وتقنيته ، وهو يرسمُ لكلّ بطلٍ من أبطال قصّصهِ ( بورتريه) مميزا ً ، هوَ يُحيركَ أيضا ً ، ولا تدري أتصغي لفعل اللغة المندلقة من قريحتهِ في سباق ٍ مدهش ٍ للكلمات .. وفي جمل ٍ جذابة ، فاتحة الشهية للمزيد من القراءة والمتابعة ، بهيئة غرام في اللغةِ ملحوظ وممتع في الآن .. أمْ تراقب بحسّ يقظ الحدث .. تفرّد موضوعه ، خلاصة واقع حياتي يومي ، تجاذب أشياء بتفاصيلها النزقة ، تدلك عليه مفردة بسيطة .. شعرية مُغرية ، وإيقاع إنساني ثمرة علاقة حميمة باللغة ، تبني عليه عناصر القصّة ، ومفضٍ للمزيد من المتعة والتأمُّل :( دائما ً تسبقني إلي السيارة ، بلْ هي التي تسبقني إليك ، فهي تنام في حضنك ، تحت بيتك ، كما أنك لاتنام قبلَ أن تمارس عليها طقوس فراغها من حمولتها اليومية)- ص14. " في انتظار القادم " .. يبرعُ القاص محمد عطية محمود في أن يوجدَ للقصّة حكمةً ، هذهِ التي تحدّث عنها الناقد والروائي ميلان كونديرا في كتابه " فنّ الرواية" ، فهذا الاتكاء الشفاف علي اللغة هوَ سرّ هذهِ الحكمةِ ، وهو يجعل القاريء أمام رؤية شعرية .. وكون شعري مُفض ٍ إلي أحلام راكضة بقدمين بلوريتين إلي ذهن القاريء ( أما القصص القصيرة ، فهي أقرب إلي الشعر وإلي الأحلام ) إيزابيل اللندي !! وقصص الكاتب محمد عطية محمود تبرهنُ ، وبيقين تام ، علي أنّ ما يجمع القصيدة والقصّة القصيرة النغمة song مع احتفاظ كلّ ٍ منهما بكيمياء لغته الخاصة ، وأهمّ شيء في القصّة أنْ يتحكمَ كاتبها في إيقاعات هذهِ النغمة ( فالنغمة هي التي تحدّد الشخصيات) حسب تعبير اللندي أيضاً . كما يقفُ القاريء علي ظاهرتين مهمتين في المجموعة ، وهما : الحزن والحنين ، من دون أن تفارقه دهشة الحدث ، وسحر اللغة والحكاية معا ً ، حزنٌ شفاف محفّز ، ونستولوجيا لا تؤدي إلي شفاء الجرح الغائر ، بلْ تجدده ، وهي تحكّ عليه ، وقدْ يصبحانِ تيمة أغلب قصص المجموعة ابتداءً من قصتي " اختراق" و" فواصل ضيقة" :(تغزوك أطياف يوم صحبك فيه صبيا ً كنت لا تدرك مني ارتياد البحر ليريك الوجه الآخر لعالمه الذي كنت تجهله ، ودنياه المختزلة في غرفة بجوف سفينة تطل علي الأمواج والأنواء ب ( قمرة) مستديرة يري منها الصفاء والأنواء في مكمنه)- ص34 ..!! من اهتمامات القاص محمّد عطية محمود المهمة أيضا ً في مجموعته " في انتظار القادم " المكان وتفاصيله .. فالمكان الذي قالَ عنه " باشلار" في كتابه " جماليات المكان" : أصل ولادة الأشياء ، يلعبُ دورا ً كبيرا ً في تحديد خلايا ذاكرة هذا القاص المتميز ، يسكنها بكلّ تفاصيله ، ويحركها ، ويلعبُ في رأسهِ ، ويتحكم حتّي في حركةِ أصابعه ، يجسّد القاص هذا الاهتمام بلغةٍ جذابة ، نابضة بسحر المكان ، وإيقاعه ، ورائحته ، وحتي ثرثرة أناسه ..!! " في انتظار القادم " .. يظهرُ القاص محمّد عطية براعة وتميزا ً ملحوظا ً في كتابة القصّة القصيرة ، وهو يجدُ ما يكفيه من الحرية للتشكيل في هذا الفنّ الراقي ، عبرَ لغةٍ شديدة الكثافة ، مقطوعات .. ولوحات مُدهشة ، تحدّد ملامحها حالة شعرية ، من دون أنْ تقرأ القصّة ، أوْ تفَسّر كجنين ٍ شعريّ ، بلْ هي قصّة قصيرة تحملُ كلّ شروط هذا الفنّ في التعبير والوصول إلي الهدف ، قصص : ( توحد ، هستيريا ، اشتهاء ، متهاة العارف ، خارج السرب ) .. مقطوعات ذات دلالة .. وهمس شعري ، لا تبتعدُ عن العزف علي وتري الحزن والحنين رؤيا المجموعة القصصية ( في انتظار القادم ) .