بالأمس، طار عنّا الرجل الطيب الذي صنع لنا صندوق طفولتنا. لنخبئ فيه اللُّعبَ والذكريات والأحلام، وندسُّ فيه المغامرات الصغيرة والحيل الماكرة، التي كنّا نُحيكها بعيدًا عن عيون الأمهات التي لا تغفل. طار الأستاذ الذي كنّا نسهر علي بابه، المفتوح علي باب طفولتنا، أول كلّ شهر لكي نفوز بعدد جديد من ألغاز »المغامرون الخمسة« فيتخيّل كلُّ طفل منّا أنه »سادس« المغامرين: تختخ، عاطف، لوزة، محب، نوسة، وأنه، مثلهم، صديق الكلب الأسود الذكي »زنجر« وخصيم الشاويش العصبي »فرقع« الذي اكتسب هذا اللقب بسبب قولته الشهيرة: »فرقعوا من أمامي« التي كان ينهر بها المغامرين، كلما وصلوا بذكائهم الطفولي إلي حل »اللغز« المُحيّر، قبل أن يصل إليه هو، رجل الأمن، لأنه دائمًا يفكر بطرق تقليدية للإيقاع بالمجرم، في حين يصل الصغارُ النابهون إلي المجرم بأساليبهم الذكية والبريئة في آن. كلُّ من ينتمي إلي جيلي، أو الجيل السابق لجيلي، سيكون علي معرفة وثيقة بأولئك الصغار المغامرين. أما الجيل الذي يلي جيلي فربما لم يقرأوا تلك »الألغاز« أو شاهدوها حين حوّلتها الميديا إلي مسلسلات كارتون، لم ترق لي كثيرًا، ربما لأن في القراءة سحرًا خاصًا، لأنه يفتح مخروط الخيال علي شساعة المدي، فنُكمل نحن ما اختبأ بين السطور من ألوان وظلال وأشكال وألوان. عام 2003، دعاني الأستاذ رجاء النقاش لحفل علي شرف الطيب صالح. وبدأ الأستاذ يقدّم ضيوفه. وحين طرق مسمعي اسم: »محمود سالم« انتبهت حواسّي وتدفقت شلالاتُ الطفولة! سألتُ نفسي: أيكون هو؟ صانع طفولتنا؟ مبتكر »لوزة« الشقية ذات الضفيرتين الطائرتين، و»عاطف« خفيف الظل، و»محب« الهادئ الرصين، و»تختخ« الذكي، و»نوسة« المثقفة، والشاويش »فرقع« التقليديّ المغلوب علي أمره، والمفتش »سامي« الضابط المستنير الذي يعمل خارج الصندوق الضيق للتقاليد، وكوب الليمون المثلج علي مائدة حديقة فيلا الصغار بالمعادي؟! أيكون؟ مستحيل! أقول لنفسي. فالأدباء الذين نحبهم، ليسوا بشرًا مثلنا يحضرون الصالونات ويأكلون ويتزاورون. إنما هم كائناتٌ افتراضية مثل بروميثيوس وأخيل، وأوديسيوس، وأبولو، وهرقل، وربما حتي هوميروس، الذي لا نعرف إن كان حقيقةً أم ميثولوجيا مثل أبطال حكاياه. كان هذا لقائي الأول به وجهًا لوجه، ليتحوّل أمامي من كائن خرافيّ افتراضي، إلي رجل جليل مهيب، فرح كثيرًا حين عرف أن إحدي طفلاته قد غدت شاعرة. أما لقائي به قبل الأول، حينما كان بطلاً خرافيًّا من أبطال الأوليمب، فكان مع بداية تعلّمي القراءة، أجمل وأشهي ما منحنا الله من متعٍ ومباهج. بدأتْ صداقتي لأولئك الصغار الذين لم نعرف أبدًا عقائدهم الدينية، لكننا تيقّنا من مصريتهم ووطنيتهم وحسن تربيتهم. كانت مغامراتهم في ضاحية المعادي الساحرة. فكنتُ ألحّ علي أمي لكي نزور خالتي التي تقطن شارع 9 بالمعادي كي ألتقي بالمغامرين أصدقائي! كنت أصدق وجودهم، بقدر عدم تصديقي وجود صانعهم. أستقلُ دراجتي الصغيرة وأجوب الشارع جيئة ورواحًا عساي أبصر لوزة تركض من هنا، أو تصطدم دراجتي بدراجة تختخ، أو يصرخ فيّ الشاويش عليّ: فرقعي من أمامي! بعدما أكون قد شاركتهم إحدي مغامراتهم، وحللتُ معهم أحد الألغاز. شهورًا وأعوامًا أبحث عنهم، حتي نضج وعيي، للأسف، لأكبر وأكفّ عن مطاردتهم بدراجتي، وأكتفي بلقائهم علي الورق. كبرتُ، ولم يكبروا، لأنهم عابرون للزمن، مثل صانعهم الجميل قال لي العام الماضي، وأنا أتوسّل إليه لكي يوافق علي تركيب صمام الأورطي في قلبه الموجوع: »أنا عشت كتير يا حبيبتي، وشفت كل حاجة هنا، خليني أشوف فيه ايه هناك!« أستاذي العزيز، طِرْ ما شاء لك الطيران، فلن تحلّق بعيدًا عن قلوبنا.