حريق يلتهم 4 أفدنة قمح في قرية بأسيوط    متحدث الصحة عن تسبب لقاح أسترازينيكا بتجلط الدم: الفائدة تفوق بكثير جدًا الأعراض    بمشاركة 28 شركة.. أول ملتقى توظيفي لخريجي جامعات جنوب الصعيد - صور    برلماني: مطالبة وزير خارجية سريلانكا بدعم مصر لاستقدام الأئمة لبلاده نجاح كبير    التحول الرقمي ب «النقابات المهنية».. خطوات جادة نحو مستقبل أفضل    ضياء رشوان: وكالة بلومبرج أقرّت بوجود خطأ بشأن تقرير عن مصر    سعر الذهب اليوم بالمملكة العربية السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الأربعاء 1 مايو 2024    600 جنيه تراجعًا في سعر طن حديد عز والاستثماري.. سعر المعدن الثقيل والأسمنت اليوم    تراجع أسعار الدواجن 25% والبيض 20%.. اتحاد المنتجين يكشف التفاصيل (فيديو)    خريطة المشروعات والاستثمارات بين مصر وبيلاروسيا (فيديو)    بعد افتتاح الرئيس.. كيف سيحقق مركز البيانات والحوسبة طفرة في مجال التكنولوجيا؟    أسعار النفط تتراجع عند التسوية بعد بيانات التضخم والتصنيع المخيبة للآمال    رئيس خطة النواب: نصف حصيلة الإيرادات السنوية من برنامج الطروحات سيتم توجيهها لخفض الدين    اتصال هام.. الخارجية الأمريكية تكشف هدف زيارة بليكن للمنطقة    عمرو خليل: فلسطين في كل مكان وإسرائيل في قفص الاتهام بالعدل الدولية    لاتفيا تخطط لتزويد أوكرانيا بمدافع مضادة للطائرات والمسيّرات    خبير استراتيجي: نتنياهو مستعد لخسارة أمريكا بشرط ألا تقام دولة فلسطينية    نميرة نجم: أي أمر سيخرج من المحكمة الجنائية الدولية سيشوه صورة إسرائيل    جونسون: الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين داخل الجامعات الأمريكية نتاج للفراغ    قوات الاحتلال تعتقل شابًا فلسطينيًا من مخيم الفارعة جنوب طوباس    استطلاع للرأي: 58% من الإسرائيليين يرغبون في استقالة نتنياهو فورًا.. وتقديم موعد الانتخابات    ريال مدريد وبايرن ميونخ.. صراع مثير ينتهي بالتعادل في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    معاقبة أتليتيكو مدريد بعد هتافات عنصرية ضد وليامز    موعد مباراة الأهلي والإسماعيلي اليوم في الدوري والقنوات الناقلة    عمرو أنور: الأهلي محظوظ بوجود الشناوي وشوبير.. ومبارياته المقبلة «صعبة»    موعد مباريات اليوم الأربعاء 1 مايو 2024| إنفوجراف    ملف رياضة مصراوي.. قائمة الأهلي.. نقل مباراة الزمالك.. تفاصيل إصابة الشناوي    كولر ينشر 7 صور له في ملعب الأهلي ويعلق: "التتش الاسطوري"    نقطة واحدة على الصعود.. إيبسويتش تاون يتغلب على كوفنتري سيتي في «تشامبيونشيب»    «ليس فقط شم النسيم».. 13 يوم إجازة رسمية مدفوعة الأجر للموظفين في شهر مايو (تفاصيل)    بيان مهم بشأن الطقس اليوم والأرصاد تُحذر : انخفاض درجات الحرارة ليلا    وصول عدد الباعة على تطبيق التيك توك إلى 15 مليون    إزالة 45 حالة إشغال طريق ب«شبين الكوم» في حملة ليلية مكبرة    كانوا جاهزين للحصاد.. حريق يلتهم 4 أفدنة من القمح أسيوط    دينا الشربيني تكشف عن ارتباطها بشخص خارج الوسط الفني    استعد لإجازة شم النسيم 2024: اكتشف أطباقنا المميزة واستمتع بأجواء الاحتفال    لماذا لا يوجد ذكر لأي نبي في مقابر ومعابد الفراعنة؟ زاهي حواس يكشف السر (فيديو)    «قطعت النفس خالص».. نجوى فؤاد تكشف تفاصيل أزمتها الصحية الأخيرة (فيديو)    الجزائر والعراق يحصدان جوائز المسابقة العربية بالإسكندرية للفيلم القصير    حدث بالفن| انفصال ندى الكامل عن زوجها ورانيا فريد شوقي تحيي ذكرى وفاة والدتها وعزاء عصام الشماع    مترو بومين يعرب عن سعادته بالتواجد في مصر: "لا أصدق أن هذا يحدث الآن"    حظك اليوم برج القوس الأربعاء 1-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. تخلص من الملل    هل حرّم النبي لعب الطاولة؟ أزهري يفسر حديث «النرد» الشهير (فيديو)    هل المشي على قشر الثوم يجلب الفقر؟ أمين الفتوى: «هذا الأمر يجب الابتعاد عنه» (فيديو)    ما حكم الكسب من بيع وسائل التدخين؟.. أستاذ أزهرى يجيب    هل يوجد نص قرآني يحرم التدخين؟.. أستاذ بجامعة الأزهر يجيب    «الأعلى للطرق الصوفية»: نحتفظ بحقنا في الرد على كل من أساء إلى السيد البدوي بالقانون    إصابات بالعمى والشلل.. استشاري مناعة يطالب بوقف لقاح أسترازينيكا المضاد ل«كورونا» (فيديو)    طرق للتخلص من الوزن الزائد بدون ممارسة الرياضة.. ابعد عن التوتر    البنك المركزي: تحسن العجز في الأصول الأجنبية بمعدل 17.8 مليار دولار    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    "تحيا مصر" يكشف تفاصيل إطلاق القافلة الإغاثية الخامسة لدعم قطاع غزة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط.. صور    أفضل أماكن للخروج فى شم النسيم 2024 في الجيزة    اجتماعات مكثفة لوفد شركات السياحة بالسعودية استعدادًا لموسم الحج (تفاصيل)    مصدر أمني ينفي ما تداوله الإخوان حول انتهاكات بسجن القناطر    رئيس تجارية الإسماعيلية يستعرض خدمات التأمين الصحي الشامل لاستفادة التجار    الأمين العام المساعد ب"المهندسين": مزاولة المهنة بنقابات "الإسكندرية" و"البحيرة" و"مطروح" لها دور فعّال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القضية
نشر في أخبار الأدب يوم 04 - 06 - 2010

الجميع في القاعة الكبيرة عيونهم معلقة بالمحامي الشهير الأستاذ »منصور عوني« وهو يلقي مرافعته النهائية في القضية التي شغلت الرأي العام طوال الشهور الماضية واعتبرتها الصحافة قضية الموسم بلا منازع، إذ توفر لها من عوامل الاثارة والطرافة ما جعلها حديث الجماهير التي ملأت اليوم قاعة »الجلسة« وردهات المحكمة الخارجية.
ومما زاد في اهتمام الناس بهذه القضية بالذات أنها تقريباً آخر قضية يترافع فيها الاستاذ »منصور عوني« بعد أن بات معروفاً للجميع أنه مرشح لمنصب كبير في وزارة العدل... منصب سيمنعه في المستقبل من الترافع في ساحة القضاء.
والأستاذ منصور يؤكد اليوم فيما يبدو هذه الحقيقة.. بالحماس الذي يبديه وهو يصول ويجول مشيرً الي موكلته حينا.. وإلي المدعي عليه حيناً آخر..
والرجل قدير حقاً: والعيون تلاحقه في انبهار.. وكلما وصل إلي نقطة مثيرة تعالت الهمسات فيضطر القاضي إلي التنبيه علي الجميع بالتزام الصمت.. ولكن الرجل الكبير نفسه.. القاضي تبدو عليه التماعات تخفق مع ذبذبات الصوت الجهير.
والمرأة تنظر إلي محاميها وتضم طفلها في أمل كبير لا تؤثر عليه النظرات الحانقة التي يلقيها من الطرف الآخر.. زوجها السابق.
وإلي جوارها يجلس السيد »حسين عبدالمعين«.. وكيل المحامي.. وكيل الأستاذ منصور عوني.. رغم استمتاعه الواضح بالمرافعة ومتابعته لمحاميه بكل ما يطلبه من مستندات أو وثائق.. إلا أن هناك شيئًا غريباً يتملكه بين الحين والحين فينتفض وينتابه قلق يبعث بالتوتر إلي قسماته المسنة لفترة عابرة.. والمرأة رغم شاغلها الأكبر تلاحظه أحيانا وترمقه بتساؤل عميق.
آخر »جلسة« في القضية يا سيد حسين.. جلسة الحكم والقضية انتهت.. ضمنتها المرأة.. وضمن وليدها حق الوجود ودان المجد للأستاذ.. وانتهيت أنت.. وليس وراءك جمهور يضيء لك شموع النهاية.
الأستاذ.. سيخرج من المحكمة إلي مكتب فخم، ومنصب أفخم.. تشيعه أصداء النجاح.. النجاح الذي ملأ السمع والبصر طوال ثلاثين عاما وتوجته هذه القضية.. فلاشك في الحكم.. الاستاذ يحس بذلك جيدا فيمتليء ثقة وينتفخ حماساً، والناس أكثر منه حماساً وانفعالا، ومحامي الخصم يجفف عرقه ويبتعد بعينيه دائما عن موكله، والقاضي.. في غاية الاندماج، وربما يحس بأن ضميره لم يكن أكثر راحة في يوم منه الآن، وهو يستعد للمشهد الختامي.. حين يقرر صحة انتساب الطفل إلي أبيه.. وتنطلق الزغاريد.. وتجمع الأوراق.. ثم تنتظر حتي يخف زحام »التهاني« لتوجه بدورك كلمة تهنئة للأستاذ.. وسيستقبلها كعادته كل مرة.. ابتسامة شكر يمزقها الفخر فتتحول إلي تمتمات لا تسمع منها شيئا.. وكأنك لم تسهر الليالي لتهييء له حفلا مثل هذا:
العدالة يا سيادة القاضي.. أنت لا تنظر لي.. حسنا فالأستاذ يترافع ولكنك تجلس تحت لافتة كبيرة.. واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل.. وأنت رجل عادل.. لاشك في ذلك: ولكنك لا تراني.. والقضية قضيتي«.
هذا الأستاذ.. منصور عوني.. تلميذي.. والله لن تصدق ولو سمعت قولي لضحكت.. ولكنها الحقيقة: تلميذي.. بل لساني.. شهادتي .. نعم هو ليسانس الحقوق بالنسبة لي.. الأمر غامض؟.. وغير مفهوم؟.. أعرف.. فأنا بدوري أعجز عن فهمه أحياناً.
أنا لم أدخل كلية الحقوق في شبابي.. طبعا.. وإلا لهان الامر ولكني صاحب هذا المجد العريض الذي يمرح في أرجائه الاستاذ منصور عوني، فقد عرفت القانون قبل أن أراه.. وربما قبل أن يعرف هو معني كلمة قانون، وحين جاء الي المكتب.. كان شابا صغيرا.. جاء يتدرب لدي الاستاذ عبدالوهاب صاحب المكتب الراحل، وكان رجلا مسنا ضيق الصدر قال لي يوم جاء الشاب الصغير:
- يا حسين.. خللي الجدع عليك.. اسقيه الصنعة..
وسقيته يا حضرة القاضي.. وظللت أسقيه وهو شامخ الأنف.. عاقد الحاجبين.. كنت في نظره مجرد وكيل محامي يرمقه باستعلاء ويأمره بالرد علي التليفون.. حتي بعد أن تزوج ابنة الاستاذ عبدالوهاب ورث مكتبه المكتب بدوسيهاته، وكتبه، وأثاثه، ووكيله، وزبائنه.
هذا الصوت كان في البداية يرتعش وهو يطلب التأجيل.. والآن.. يبدو وكأنه إله القانون.. القانون.. القانون... سبحان الله.. ماذا صنعت منك الكلمة يا سيد حسين؟ وأنت سيدها.. بلاشك سيدها والقضايا تشهد كلها.. جنايات، وجنح، وأحوال شخصية.. تزوير، وقتل، وسرقة واثبات نسب.. ميدانك، وأنت فارسه.. أعقد القضايا لم تحتمل في يديك ليلة بطولها، وفي الصباح يجد الأستاذ كل شيء.. المواد، والقوانين، والحجج مرافعة جاهزة يشطب فيها كلمات لا تضر، ويضيف كلمات لا تنفع في الاستهلاك ليقنع نفسه أن عملك بحاجة دائمة إلي علمه وخبرته.
ومع كل قضية كنت تحس بالفخر.. رغم الوضع والحيثية.. فهو يقف دائما يملأ بكلماتك فضاء القاعة ويهز المنصة.. وانت تجلس دائما.. تستمع وتناوله.. ورقة.. صورة.. شهادة كما تجلس الآن.. لم يتغير فيك شيء.
ونظرت المرأة الي الوجه الذي يبتسم في سخرية بجوارها، واتاح لها اطمئنانها شيئا من الدهشة الصامتة توجهت به عيناها إلي حسين أفندي.
كان لا ينظر إلي محاميه فعيناه معلقتان بالقاضي رغم اشارات الاستاذ منصور المتوالية.. ربما ليناوله شيئا.
ولكزته المرأة خوفاً علي طمأنينتها.. وأفاق لينظر.. فتموت بسمته.. ويهرع بورقة أعدها من قبل ليناولها للاستاذ.
إنها الحجة الدامغة.. الدليل الذي لا تقف أمامه حيلة، البرهان القاطع علي أن طفل السيدة طفل شرعي يستحق الانتساب إلي أبيه.. ذلك الرجل الحانق الجالس هناك بوجه محتقن.
ونظر السيد حسين إلي المرأة.
اطمئني.. سيحمل طفلك اسم أبيه.. فمن الواضح أن القاضي قد اقتنع تماما وزوجك السابق فقد المعركة للنهاية.. العدل دائما يسود في النهاية.. هذا ما تعلمته.. ولكن.. القانون شيء آخر.. العدل غير القانون.. هذه هي الحقيقة«.
أنا أعرف القانون جيداً فهو مهنتي.. المحامي ليس هو الوحيد الذي يعرفه... لولاي مثلا لما استطاع الاستاذ منصور أن يقف وقفته هذه.. هيه يبدو أنني أبالغ قليلا فهو يحمل ما هو أهم.. يحمل شهادة يا ست.. شهادة.. وأنا رغم خبرتي، رغم جميع المواد التي أحفظها في قانون العقوبات وباقي القوانين لست شيئا.. أجل.. فمن يعترف بأن حسين عبدالمعين رجل ضليع في القانون؟ أنا؟.. أنت؟.. الأستاذ؟ ربما.. ولكن؟.. القانون؟ حضرة القاضي مثلا: هل يسمح لي بأن أترافع أمامه؟.. مستحيل.
حتي ابني.. مجدي، وزوجتي.. أقرب الناس إلي ضحكوا مني طويلا حين قلت لهم: إن القوانين يجب أن تتغير فتسمح لي بفتح مكتب والترافع أمام المحاكم.. ولمحت في أعينهم شيئاً من الاشفاق المقترن بخوف دفين حين رأوا اصراري علي الفكرة واقتناعي بما أقول.. يخافون أن أجن؟.. هل أنا مجنون يا عالم؟.. يا حضرة القاضي هل أنا مجنون؟.. أنا أطلب حقي.. أطلب العدالة.. أنا ايضا.. أبحث عن اسمي، اسمي؟.. أجل اعرف أن اسمي حسين عبدالمعين.. ولكن من هو حسين عبدالمعين؟.. وكيل محام.. وكيل الاستاذ منصور عوني.. مجرد ظل.. ينحسر حين يبتعد الأصل.. وهذا ما سيحدث.. الاستاذ خلاص.. من الغد سيغلق المكتب فأين أذهب أنا؟.. وماذا اكون حينئذ؟.. أذهب الي محام آخر؟ أليس كذلك؟ واذا انتهي هذا الآخر.. مات أو اغلق المكتب؟ حلقة.. دائرة لا نهاية لها.
زمن غادر.. وأقدار عمياء.. وأنا أضيع.. أتلاشي.
وانتهي الاستاذ منصور عوني من مرافعته وتقدم محامي الخصم ليقول كلمات متهافتة كأنه يشيع بها موكله.. ولم يجد أمامه غير الطعن في تقرير الطبيب الشرعي.
والناس تنظر إليه في استنكار.. لقد تشبعوا جميعا، واصدروا الحكم، وراحت عيونهم وهمهماتهم تحاصر القاضي.. حتي انتهي المحامي.
وجمع القاضي أوراقاً أمامه ثم أعلن.. »الحكم بعد المداولة«.. ونهض يحيط به رفيقاه.. واقترب الاستاذ منصور عوني من موكلته..
- اطمئني يا هانم.. »خلاص.. أقدر أقولك مبروك مقدما..
ثم تركها وخرج لينعم باستراحة يتهيأ فيها للحظات انتصاره.
وبقي السيد حسين إلي جوارها.. وكان شارداً..
- مالك يا حسين افندي؟..
والتفت إليها وفي عينيه تعبيرات غريقة..
- مالي؟.. ولا حاجة يا ست..
لا شيء؟.. غير صحيح هناك شيء.. بل أشياء، ولكن ما صلة هذه السيدة بها؟ ولم تسألك؟ أيبدو علي وجهك تعبير ما؟.. جائز.. وقد سألتك فلم لا تخبرها؟.. هناك علي الأقل من يهتم.
- القضية انتهت يا ست.. مبروك..
وبتنهيدة ارتياح.. التقطت الخيط؟
- يسمع منك ربنا.. أنا خلاص.. فاض بيه.. أصلنا يا حسين افندي مش وش محاكم.. ولكن اعمل ايه؟ منه لله اللي كان السبب.
- معلهش يا ست.. ربنا ما بيضيعش حد..
- ونعم بالله يا حسين افندي.. لكن بذمتك.. عمرك شفت راجل يرمي لحمه بالشكل ده؟
- العند يا ستي يعمل أكثر من كده..
- يقوم يتهمني التهمة السودة دي؟.. يقول علي الولد مش ابنه طيب عملها فيه وطلقني.. رماني في الشارع.. موش كفاية؟ يبهدلني وراه في المحاكم؟..
- علي كل حال خلاص.. ربنا ظهر الحق.. بس انتي تأخدي بالك من الولد وتربيه كويس وتعلميه.. عشان ياخد شهادة.
وباستطراد ألهبه اهتمام عنيف.. عاد يردد:
- أيوه.. أهم حاجة الشهادة: ما تعمليش زي أمي الله يرحمها.. ماداتنيش غير شهادة الميلاد.. وضحك في انفعال متأزم ولم يسمع رد السيدة..
لو كانت هناك شهادة لما وجدت نفسك اليوم تنتظر استراحة المداولة.. ولكان اليوم يومك.. ولما اضطر مجدي لأن يكذب.
- بالأمس فقط اكتشفت الأمر حين كان يحدث زميله في الشرفة، كان يقول له ببساطة من لا يعرف الكذب: أنا قلت لبابا يريح نفسه ويقفل المكتب.. الشغل كثير وصحته ما بقتش تستحمل خصوصاً ان الراجل الوكيل بتاعه راجل كسلان كده ومش بتاع شغل.
هذا ما حدث.. سمعته بأذني يا هانم.. مجدي ابني يقول للناس:
اني محام.. هو أيضا لم يقتنع بان مهنتي لها معني أو اسم.. الراجل الوكيل بتاعه؟.. أسمعت؟.. ابني يقول هذا الكلام.
... كأن المحامي أحسن مني.. أنا الذي علمت منصور عوني ألف باء المحاكم والقضايا.. ولكن من يسمع؟ القاضي في الداخل يتداول مع مستشاريه وقد يكون في هذه اللحظة يتبادل معهم عبارات الاعجاب ببراعة الاستاذ منصور أو ربما يشرب معهم أقداح الليمون المثلج.. أو قد يفعلون أي شيء آخر.
ولكنهم قطعا لا يعرفون شيئا عن حسين عبدالمعين.. صاحب الفضل الأول في هذه القضية وكل قضايا منصور عوني.. آه.. لقد اتعبك التفكير يا سيد حسين.
... فقط.. لو لم يقل مجدي تلك العبارة؟ لسار كل شيء في طريقه.. ربما كنت تفكر بدورك في الراحة واعتزال المهنة ولأصبح لك شيء تعتز به.. ذكرياتك.. وابنك.. ولكن الآن لن تعود الي سابق عهدك، ففي النفس دموع تتساقط وتنعي العمر والتعب والكفاح.. الكفاح من أجل ماذا؟.. أكنت تظن أن ينحسر الظل عنك يوما؟.. واذا حدث ذلك فماذا يبدو تحت الظل؟.. إلا شيء.. لا شيء قطعا.. فالظل هو حقيقتك.. هو كيانك.
.. ابدأ أنت يا حسين رجل أصيل.. الآخر هو الظل.. منصور عوني لا يساوي بشهادته وعلمه وشهرته جناح ذبابة بجانب خبراتك وتجاربك.. أجل.
لقد كان لك مجرد لسان.. طوال عمره وحتي اليوم لم يفعل شيئاً إلا بيدك وجهدك.. ولكنه مع ذلك الاستاذ.. الاستاذ منصور عوني.. بجلالة قدره.. ليس هذا عدلاً يارب.. ان الصورة »مقلوبة« العدل هو.
- محكمة
.. وانتفض حسين عبدالمعين وانفجرت مسامه كالميازيب بالعرق وتعلقت عيناه بالمنصة »الحكم.. لقد انتهت القضية.. آخر قضايا الاستاذ.. وآخر عمرك يا حسين.. والعدل ستناله السيدة.. وأنت؟.. لن تنال شيئا ربما ناداك الاستاذ بعد الجلسة ليعطيك بعض الجنيهات.. مكافأتك فقط؟.. وماذا تنتظر؟.. العدل.. صه!.. القاضي يتكلم.
- حكمت المحكمة حضوريا بقبول الدعوي المقدمة من السيدة.. شكلاً وموضوعاً وانسابت الكلمات حتي انتهت بعد دقائق.. فانطلقت زغرودة مهللة.. وتعالي الهمس.
- العدل يا سيادة القاضي.. يحيا العدل.
»لم يا حسين صحت هكذا؟.. لم فعلت ذلك؟.. علي كل حال لقد ضاع بين أصداء الزغاريد.. ولكن لقد نظر إليك.. أجل القاضي نظرإليك ويالها من نظرة يا حسين.. وكأنه نفذ إلي أعماقك.. كأنه الوحيد الذي عرف المغزي الحقيقي لصيحتك. عيناه. أجل عيناه.. لقد بدت فيهما نظرة..
نظرة فاهمة عميقة.. انه يدعوك يا حسين أهذا حقيقي؟ لا تكن أبله.. لم تكن غير لفتة عابرة وربما لم تكن موجهة إليك، كلا.. لست أعمي.. لقد شملك.. بنظرة فاهمة عميقة انه يدعوك.. أين هو؟ لقد غاب في الداخل.
وبدا حسين عبدالمعين ذاهلاً عما حوله.. ولم يلتفت لكلمات فرحة قالتها السيدة له.. ولم يلتفت لاشارة من محاميه بأن يتبعه.
ورغم أفراحها وانشغالها بما بدا علي زوجها السابق من كمد فقد عادت تلاحظه ودهشت حين رأته مازال يحملق ذاهلاً في المنصة كان بينها وبينه.. خيط رفيع ولكنه متين.
- يا حسين افندي.. يا عم حسين..
ونظر إليها وبسمة غريبة تملأ كل وجهه.. ويسألها بصوت خافت متلهف:
- شفتيه؟.. وأجابت بسؤال غير فاهم: هو مين؟
- القاضي.. شفتي بص لي ازاي؟
وغمرتها موجة باردة من اشفاق حزين؟
- إنت تعبان يا حسين افندي؟.. روح ارتاح..
ونظر إليها في استغراب ساخر وقال بلهجة متأففة.
- اروح فين يا ست؟.. الراجل عايزني.. حاروح احكيله علي كل حاجة وادار ظهره مبتعدا بخطوات سريعة، وبدافع لا تدريه استمهلت بعض أقاربها وخرجت تتبعه.
وفي الردهة الواسعة سمعت حديثه مع أحد رجال الشرطة.
- هو خرج من زمان يا شاويش؟
- لسه راكب عربيته دلوقت.
- ما تعرفش بيته فين؟
- لا والله يا حسين افندي..
.. وحين رأته يخطو مسرعا ليغيب خلف المنحني العريض أحست بجزع فضمت ابنها إلي صدرها في خوف ملهوف، واستدارت بعينها.. والتقطت أنفاسها حين لمحت الأستاذ منصور عوني.
- يا أستاذ.. يا منصور بيه
- خير ان شاء الله يا هانم؟
- ماله ؟ حسين افندي..
- خرج دلوقت وبيقول انه رايح للقاضي في البيت..
ونظر إليها في استغراب وكأنه يتساءل عن سبب اهتمامها بالرجل العجوز وفي الوقت نفسه لم يفهم شيئا مما قالته.. ولكنه ضحك في النهاية وقال بلا مبالاة.
- اتفضلي روحي انت وكفاية عليكي اللي شفتيه..
واجابته باستنكار: والراجل الغلبان ده؟
- دا بيضحك.. هو حسين افندي كده.. يحب يضحك دائما.. وتركها لأقاربها.. وركب سيارته.
ولم يعرف الأستاذ منصور عوني أن حسين عبدالمعين لم يكن يضحك.. بل لم يتذكر أنه لم يعرف الضحك في حياته إلا صباح أحد الأيام القريبة.. حين رأي بمحض الصدفة - صورة غير واضحة لوكيله السابق.. السيد حسين عبدالمعين وتحتها كلمات تكاد تضيع في زحمة الصحيفة.
»حسين عبدالمعين.. في الخمسين من عمره.. خرج من منزله صباح يوم ولم يعد.. الرجاء ممن يعثر عليه الاتصال بمخبر الجريدة.. تليفون رقم ».......«
وأحس الاستاذ ببغتة عميقة.. ولكنه افاق منها بعد لحظات ليرسم تقطيبة علي وجهه.. ثم اكمل ارتشاف قهوة الصباح وتمتم في خفوت:
- شيء غريب.. إيه اللي جري للراجل؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.