رغم أن الفنان الراحل، الكاتب النبيل اسامة انور عكاشة، أصبح من أهم كتاب الدراما العرب، وهو الذي أعلي من شأنها عربيا - ومصريا بشكل لافت، إلا أن الخطوات الأولي لكاتبنا الكبير كانت في حقل القصة القصيرة، والتي لم تفتقر إلي ذلك الحس الدرامي والصوري والمشهدي القائم والمتحرك في تلك البدايات البيضاء، والتي كانت ضمن كتابات جيل الستينيات العفي، الذي أعطي للقصة القصيرة مذاقا وأبعادا جديدة بعد زلزال يوسف ادريس القصصي في الخمسينيات. والمدهش أن الذي قدم اسامة أنورعكاشة في أول مجموعة قصصية له عام 7691، وهي مجموعة (خارج الدنيا) كان أحد الذين كتبوا للسينما، وأشهر قصة له هي (شباب امرأة).. الكاتب (أمين يوسف غراب)، وهو الذي أجاز المجموعة للنشر، يقول غراب في تقديمه للمجموعة: (هذا الكتاب »خارج الدنيا« الذي يضم مجموعة من القصص القصيرة، يسرني أن أذكر أنني قرأته ثلاث مرات، قرأته كناقد وكعضو في لجنة القصة، وقرأته مرة ثالثة كمعجب بهذا الأديب الجديد، ولا أريد أن أقول: الناشيء، وبما ضمه كتابه من قصص أكثرها جيد يدل علي أن الكاتب له حاسة فنية تتذوق الفن والأدب وتتأثر به)، وعندما كتب غراب تلك المقدمة البعيدة للكاتب الشاب، والذي لايتجاوز عمره السادسة والعشرين، لم يكن يعلم أن هذا الأديب ستنفتح له سبل الكتابة عبر أجناس أخري عديدة (الرواية والمسرح والنثر الفني ثم الدراما التليفزيونية)، وبالطبع كان غراب رفيقا بالكاتب، ومشجعا ومبصرا له، وناصحا ايضا، حيث أنه (أي غراب) استشعر أن عكاشة يتسرع في الكتابة، وأن عدم التأني في إنجاز وإنهاء بعض القصص جعل هذا البعض غير مكتمل، فيقول: (ولولا هذه العجلة التي أشرت إليها لقدّم شيئا اكثر جودة من هذا)، ولكن غراب يعترف بأنه يقدم عملا ناجحا للجمهور..
وبعيدا عن هذا التقديم الأولي والمبعثر، لا أريد أن أشير إلي أن قصص المجموعة الأولي تحمل بذور البدايات التي نبتت وأورقت وأثمرت فيما بعد، ولم يكن التوقف من عام 7691 إلي عام 4891 حيث الاصدار الثاني - إلا درجة تأمل العالم الذي سيخوض فيه الكاتب، ويبدع فيه، ويفجر طاقاته الكامنة، ومنذ الاصدار الأول تجلت الروح الانسانية العالية، والنزوع الفطري والاجتماعي نحو تحقيق قيمة العدل بجانبيه الوجودي والاجتماعي، فهو يهدي مجموعته: (إلي كل من يستطيع أن يعطي الانسان... زهرة حب، أو بسمة أمل. أو كلمة سلام).. ولم يكن هذا البيان النظري المتمثل في الإهداء إلا ترجمة لكل القضايا الاجتماعية والانسانية والوجودية التي انطوت عليها القصص، ففي قصته الأولي (آدم والصياد) عندما ذهب الأب/ الزوج/ الصياد إلي حيث منابع الخير، لكي يعود لأولادي بخير وفير، وغاب طويلا في رحلة الصيد، ليحصل علي أي قدر من هذا الخير، وعندما تأخر الرزق، عاد، فأنكرته زوجه، وأنكره »أولاده، ووجد نفسه ضائعا بين حبائل مؤامرة غريبة لم يفهمها، ولم يدرك أبعادها، وبعد شد وجذب، وعدم قدرة علي السيطرة، عاد مرة أخري إلي المجهول، ليلقي حتفه الغريب: (وبينما كان يهبط.. أحس بالمياه حوله كفراش وثير - وبقيت له لحظات تغافل فيها عن الألم.. واختناقة النهاية... وداهمه السؤال كلحن أخير.. تري.. أكل ما يحدث الآن.. حلم سخيف.. أم هو يموت حقا؟)، والملفت للنظر أن الموت أو الضياع يطارد كل شخصيات المجموعة، رغم أن أصحاب الهم الواحد يتكاتفون لمواجهة هذا الضياع أو الفقد، ويتجلي هذا في القصة التالية (انسان الساعة الواحدة) حيث أن شرطيا وعجانا في فرن وصبية يسمعون صياحا وصراخا غريبين، وعندما تتكشف الأمر يتضح أن الصراخ والصياح لطفل وقطة محبوسين في غرفة احدي الممرضات، والتي تمارس عملها ليلا، فنجد الشرطي (رمز العدل الوهمي) والعجان الشرير الذي يقع تحت طائلة الفقر والجهل، والصبي (حميدو) الذي ظل يدافع عن سمعة الممرضة، والتي تكاتف أهل الحارة لطردها، حيث أنهم ظنوا سوءاً أنها تذهب لممارسة الرذيلة ليلا.. ولكنها عندما تعود، تقتحم غرفتها وتلتقط ابنها وتعطيه ثديها ليرضع وتنام من شدة التعب والارهاق.. ولكن كل هذا يؤكد ضياع الكائن البشري وسط ملابسات واحداث اجتماعية شبه غرائبية، ولايسعنا أن نشيد بالحركة العالية التي ضجت بها القصة، هذه الحركة هي احدي المميزات والخصائص التي انفرد بها عكاشة في كل ما كتب، فكتاباته - دوما - لاتعرف السكون، إنه قادر علي اكتشاف أعمق التناقضات بين الأفراد، والطبقات، أحيانا اكتشاف تناقضات حادة في شخصية واحدة.. فقصة »القضية« تنطوي علي هذه التناقضات، تبدأ بمشهد لمحكمة حيث يترافع الاستاذ »منصور عوني« المحامي الشهير في إحدي القضايا المهمة، والتي سيكتب لها النجاح، وهناك المرأة صاحبة القضية تجلس لتستمع إلي محاميها الذي يناضل من أجل إثبات بنوة طفلها لأبيه الذي يريد أن يتنصل من أبوته، وبجوار المرأة يجلس »حسين عبدالمعين«.. وكيل المحامي.. وتدور الاحداث والحوارات الخارجية بين الأشخاص، والتداعيات الحوارية، ثم الحوار الداخلي الذي يحدث بين حسين عبدالمعين - وكيل المحامي - ونفسه، حيث أنه يري أحقيته في هذه المكانة التي يرتفع إليها المحامي، فهو الذي علم منصور كل شيء، ودله علي جميع الثغرات التي تفلت منها كل الكوارث، وينظر للقاضي من أجل الحصول علي أي تقدير، ولكن بلا جدوي - وعندما تنتهي الجلسة يخرج حسين متوهما أن القاضي التفت إليه، ويذهب حسين إلي المجهول، الضياع، ولا أحد يعثر عليه، هنا تبدو فكرة العدل الضائع في المجتمع، والفريضة الغائبة دوما، هذه الفريضة التي تؤكد عليها جميع شخصيات المجموعة، ولا نريد أن تفوت الفرصة دون أن نشيد باللغة الشفافة الشاعرية الرقيقة، والمفعمة بالمشاعر الفياضة.. والدالة في وقت واحد.. فتستمع إلي حسين يخاطب نفسه قائلا: (أنا لم أدخل كلية الحقوق في شبابي.. طبعا.. وإلا لهان الأمر ولكني صاحب هذا المجد العريض الذي يمرح في أرجائه الاستاذ منصور عوني، فقد عرفت القانون قبل أن أراه، وربما قبل أن يعرف هو معني كلمة قانون،.. وتتداعي الجمل والمفردات والمعاني في سلسلة من الأبنية المترابطة، والمسيطر عليها فنيا بشكل لافت للنظر، وتعلو هذه النبرة في قصتي (البيت الكبير) و(الزيارة).. البيت الكبير ينشأ صراع بين قدامي أصحاب الحارة، وبين الجيل الجديد في الحارة، وهو جيل الأبناء، الأبناء يريدون تغيير وجه (حارة المغربي)، والكبار (الآباء) يريدون تثبيت المشهد علي ما هو عليه، انها - بالطبع قضية ازلية، ولكن الحيل الاجتماعية والفطرية والغريزية التي يستخدمها الفريقان المتصارعان، تشكل فنية القصة، ويستخدم فيها الكاتب أعلي قدراته لتجسيد هذا الصراع..
أما قصة (الزيارة) فهي لاتختلف كثيرا عن قصة (البيت الكبير) الأم التي ربت ابنها ليصبح طبيبا، ويذهب إلي البندر، وتظل تنتظره إلي أجل غير مسمي وهو لا يأتي، وتسأل كل من يذهب إلي مصر ليأتي بالخبر اليقين، فلا جدوي، وعندما تلوح بارقة أمل أنه سيأتي لزيارتها، تشتري له أوزة، وتظل تعمل علي تسمين وتغذية هذه الأوزة، انها أوزة الدكتور.. ولاتفقد الأمل أبدا في زيارته، حتي عندما يذهب الشيخ محيي إلي مصر، ويعود بخبر أن الدكتور تزوج وسافر إلي الخارج ولن يعود إلا بعد خمس سنوات، لاتصدقه، بل تكذبه، ولكنها تهذي ببضع كلمات: (الوزة اللي دفعت فيها سبعين قرش بتعضني.. بعد ما زغطتها ثلاث أسابيع.. شايفة ياحاجة.. وكنت باقول عليها وزة الدكتور).. هكذا نجد شخصيات أسامة أنور عكاشة في مجموعته الأولي، تعاني من الضياع والهذيان والموت، وافتقاد العدل.. هي ذات القضايا التي رافقت كاتبنا في معظم ما كتبت من قصص وروايات ومسلسلات درامية، والاطلالة العميقة علي عالمه القصصي الأول، يقول أن راجلنا لم يتخل عن قضاياه التي نذر قلمه - دوما - من أجلها.