وفقاً للتقويم الصيني فقد بدأ عام التنين بالفعل يوم الاثنين 32 يناير 2012، وهذا العام تحديداً هو عام التنين الأسود المائي، وليس أي تنين والسلام، وقد قرأتُ أن الآباء والأمهات في الصين يتطلعون لاستقبال مواليد عام التنين لكي يجلب لهم هذا الرمز الحظ والثراء، لارتباط رمز التنين وعامه بأباطرة الصين والسلطة والذكاء. والتنين هو الرمز الوحيد لحيوانٍ خرافي بين جميع الأبراج الصينية، التي تتخذ دائماً هيئة حيوان حقيقي مثل الأرنب والديك والفأر والأفعي، ربما لهذا يرغب الجميع في إنجاب أبنائهم في عام التنين، رمز السلطة الإمبراطورية في الصين القديمة، ومن بين هؤلاء المتفائلين استطاع الروائي المصري الشاب محمد ربيع أن يصدر روايته الثانية عام التنين خلال شهور هذا العام نفسه، روايته التي يتحوّل فيها النسر إلي تنين، الجمهورية إلي ملكية أو امبراطورية، وتتسرب سطورها إلي أعمق أركان منظومة السلطة المطلقة وفي الوقت نفسه إلي الثقوب السوداء التي تبتلع حياة الهامشيون من البشر. من روايته الأولي كوكب عنبر إلي روايته الثانية، استطاع محمد ربيع أن يقطع خطوات واسعة نحو عمل أكثر إحكاماً علي مستوي البنية، يجرّب في حدود المعقول، ولا يتعالي علي ما بات يُسمي الآن بالقضايا الكبري، ويتسلّح كذلك بدرجة من الاطلاع والخبرة المعرفية تقف جنباً إلي جنب سخرية مريرة تجلت في المواقف السردية ومفردات اللغة علي السواء. منذ الصفحات الأولي للرواية، أي المقتطفات السابقة علي متن الرواية نفسها، وهي الآية القرآنية »فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ« (الزخرف 54) وكذلك فقرة من كتاب سيد قطب في ظلال القرآن عن استخفاف الطغاة للجماهير ووسائلهم إلي ذلك, يدخلنا محمد ربيع إلي موضوع عمله الروائي ومدار همّه الفكري، وهي حرفة صناعة الديكتاتور والأهم الإبقاء عليه وغسل أدمغة الجماهير وتلهيتهم وتشويشهم، والإبقاء عليهم أسري حاجاتهم الأساسية لكيلا يتمكنوا من التفكير في أي شيء آخر يتجاوز حدود حياة البهائم. لم يعمد ربيع إلي دس أفكاره تلك حول الأنظمة الفاسدة الغاشمة دساً في ثنايا أحداث روايته كما اعتدنا في روايات سياسية كثيرة، بل مضي إلي ما هو أكثر جرأة من ذلك فخصّ لها فصولاً مستقلة عن فصول حكايته الأساسية التي سنصل لها بعد قليل، في صورة رسائل غامضة إلي شخصٍ أكثر غموضاً اسمه صلاح، رسائل نصح وتوجيه وإرشاد موجهة إلي هؤلاء الذين يحكمون علانية أو سراً. وفي كل رسالة منها يتناول المرسل خيطاً من خيوط الشبكة العنكبوتية المتمثلة في الدولة بآليات سلطتها وإعلامها وصحتها وتعليمها، إلي آخره. الروائي هنا يتبني صوت السلطة في احتقارها للجماهير واستخفافها بهم وإصرارها علي سحق الأفراد كالحشرات، وهو بهذه الحيلة استطاع أن يهرب من الخطاب المباشر المتوارث عن الأعمال الأدبية التي تتناول تيمة السلطة وأساليبها، ومن ناحية أخري يكتشف إمكانيات جديدة من داخل هذا الخطاب، في التعرية والسخرية المريرة وفضح جوانب مختلفة سواءً في صفوف ذوي السلطة أو في صفوف المحكومين. تبني خطاب السلطة وتشويهه والسخرية منه واللعب معه كان فرصة ذهبية خلال تلك الرسائل النصوص المتوالية، لم يقلل منها سوي زيادتها عن القدر المعقول إلي حدٍ ما، وبعض التكرار في ثناياها، وإعاقتها في أحيان قليلة لتدفق الحكاية الأساسية حكاية نعيم أبو سبعة - وهو بنصّ الغلاف الخلفي للرواية والذي أظن أن كاتبه هو الكاتب الصديق ياسر عبد اللطيف: »مواطن بسيط يعمل في مهنة علي وشك الانقراض [مهنة تجليد الكتب] تعرض علي مدار حياته العائلية والمهنية لكافة أشكال المحن حتي آل الأمر إلي أنه صار في عداد الموتي وهو علي قيد الحياة«. تبدأ الرواية بموت نعيم ورقياً، أي نجاحه أخيراً في إصدار شهادة وفاة سليمة مائة في المائة وهو مازال حياً لكي تستطيع أسرته الحصول علي مبلغ مالي كبير قيمة التأمين علي حياته. فبما أن حياة وموت الإنسان في الماكينة البيروقراطية ليست سوي ورقة مختومة بختم النسر فقد آثر نعيم أبو سبعة الموت علي أن يحيا بلا جدوي لمن حوله. هذه الحالة الإنسانية الموجعة تُقدم لنا في إطار من الكوميديا التي تصل لحد الهزل في بعض المواقف. يصل الأمر بالمشاركين في تمثيلية موت نعيم إلي تغسيله وتكفينه وتوسيده القبر، لكنها لم تكن المرة الأولي التي يدخل فيها نعيم قبراً مظلماً وحده، فقد فعلها منذ سنوات طويلة حين قيل له إنها الطريقة الوحيدة لإنجاب الولد، فأنجب الولد وأصابته في اللحظة نفسها حُبسة كلامية جعلته عاجزاً عن استخدام الكلمات بصورة طبيعية لبقية عمره. وتمضي رحلة نعيم من فصلٍ إلي آخر، وبينهما بالطبع تتوالي الرسائل إلي صلاح، ومن محنة إلي أخري، حيث يستغرق ربيع في بعض تلك المحطات إذ تجتذبه هنا لعبة أو يثير شهيته هناك موقف ضاحك، متنقلاً بين تلك الحالات دون أن يستنفد أياً منها، بل ربما بشيءٍ من التعفف عن بعض الحالات التي يمكنها أن تنتج روايات كاملة، وإذا أتينا علي ذكر الحبسة الكلامية فإننا لا نجد الروائي الشاب يتتبع هذه الحالة إلي نهاية الشوط فيما عدا حكاية القاموس المشترك الذي أعده مع وهيب وهيب، بل يتم نسيانها تماماً في فصول لاحقة كأن لم تكن، وهناك أيضاً غرام نعيم أبو سبعة المفاجئ بالدفاتر الصغيرة وحرصه علي جمع صور الموتي من نعي الأهرام. وكلها أفكار ذكية وتحمل بداخلها طاقات سردية هائلة، لكنها تبدو في الصورة الكلية لعام التنين أقرب إلي زخارف سردية ممتعة، إذ تبقي الرواية حريصة في ظني علي اللعب بكل ثقلها في مساحة أخري، تمتد ما بين أغوار البيروقراطية المصرية وطرائق صناعة الاستبداد واللعب بعقول الجماهير. يمتد هذان الخطان الأساسيان طوال الرواية دون أن يلتقيا إلا قرب نهايتها، حيث تختلط الأوراق وتتجمع الخيوط العنكبوتية، ويتم الانقلاب علي كاتب الرسائل نفسه واتهامه بدلاً من نعيم بالنصب علي شركة التأمين للتخلص منه، لمصادفة تشابه الأسماء التام بينهما، أم لعلّه هو نفسه نعيم؟ أم لعله وجهه في المرآة الشاب الذي اشتري كتاب نصيحة الملوك بتجليد من صنع يد نعيم نفسه ذات يوم بعيد وانعكاسه الذي يبدّل كل تفصيل من النقيض إلي النقيض، فيصير اليمين يساراً واليسار يميناً، ويتحوّل نعيم المهزوم المطحون المغلوب علي أمر الذي يتلقي الاهانات الجسدية البذيئة راضياً صاغراً من هنا وهناك طول عمره إلي نعيمٍ آخر قاهر وقامع وعارف بكل طرائق سلب الحريات وتكميم الأفواه وتغييب الوعي. وإذا كان ربيع منذ روايته الأولي مولعاً بالحديث العام خارج سياق السرد، كما في الحديث عن أصل تسمية الحنفية وكتابات ثروت عكاشة في كوكب عنبر، فإنه في عام التنين لم يتخلَ عن ولعه هذا، لكنه استطاع أن يربط بين موضوعات مثل أصل آلية تسجيل المواليد والوفيات مع بداية الدولة الحديثة في مصر بشخصيات أبطاله، حيث صرنا نعرف أن جدّ نعيم وهو أبو سبعة، وجد زوجته وهو أبو رجل، هما الشخص نفسه الذي كان يمنح اسمه لكل المواليد الذين بلا أبٍ معروف. كما ربط بين حديثه عن أدب نصائح الملوك أو الطواويس وبين الرسائل إلي صلاح، وكذلك بالأفكار الكثيرة حول طبيعة عملية صنع الحاكم ونظام الحكم. لمسة السخرية المريرة والتي تتجاوز الحدود إلي الهزل التام لا تكاد تغيب طوال فصول الرواية، فهي إمّا مبطنة بين سطور الرسائل إلي صلاح، أو مكشوفة وفاضحة في مواقف وطرائف حياة »بطلنا« نعيم أبو سبعة، الذي يظهر بصورة فوتوغرافية لمحمد ربيع نفسه بين صفحات الرواية في خبر نعيه. لكنها أحياناً تشطّ بعيداً كما في مشهد "ولود الوصخة" حين يستولي الجنون علي عطيات زوجة نعيم وتبدأ بشتيمة جيرانها، وسرعان ما تندمج في رقصة »ولود الوصخة« حتي ينضم إلي هتافها جماهير الفجّالة والعاملون فيها.يشكّل ربيع لوحته الروائية من عناصر عديدة، يحاول أن يصهرها معاً في سبيكة واحدة لإنتاج لوحته النهائية. لا يخشي من انفلات خيط الحكاية باعتراض صفحات شبه صحفية تيار سرده، ويستعين بالصور، كما في صورة الملك تحتمس الثالث شديد الشبه بالفرعون الأحدث مبارك، ومن هذه المواد يتخلق عالمه الذي يتراوح ما بين محاكاة واقعنا كما نختبره يومياً، وما بين المبالغة في الابتعاد عن منطق الواقع وصورته، كما في مشهد نعيم في المجمّع من أجل استخراج شهادة الوفاة الوردية. وبين الطرفين المطلقين يتأرجح عالم ربيع بين اللعب والالتزام، بين المزاح والجدية، بين الفكاهة والأسي. ويبقي مثيراً للإعجاب احترام ربيع لصنعة الرواية، وعكوفه علي تطوير أدواته واشتغال عوالمه الخاصة، دون أن يصم أذنيه عن صراخ الواقع المحيط بنا، وهو جهد جدير بالتحية والاحتفاء.