فتحي عبد السميع بين أحمد المريخى وجمال القصاص لو فكرت يوماً أن أكتب عن صديقي التاريخي سيكون علي رأس اختياراتي الشاعر فتحي عبدالسميع، ولا أظن أنه سيكون اختياري بمفردي، فهناك كثيرون من جيلي، أضاء لهم فتحي الطريق في البدايات. في بيته كنا نجلس بالساعات ليقرأ لنا قصائد لأدونيس أو لمحمد الماغوط وصلاح عبدالصبور وأمل دنقل ومحمد عفيفي مطر، أو ليناقشنا في ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة، كانت مكتبته بوابتنا إلي عالم الأدب، في مجتمع قاس يدير ظهره للقراءة كالصعيد. فتحي صاحب التجربة العميقة في شعر النثر، التجربة التي بناها بدأب وعناية، منذ ديوانه الجميل »الخيط في يدي» يعزل نفسه داخل شرنقة لا يغادرها إلا للضرورة القصوي، ولأنه شديد التهذيب تجرحه معاملة الأجلاف. جاء مرة من قنا إلي القاهرة بصحبة محمود مغربي وأمبارك إبراهيم، وأحدهم ذكر اسم شاعر مشهور، واقترح أسامة جاد اصطحابهم إلي حيث يعمل هذا الشاعر في مؤسسة حكومية قريبة من وسط البلد. يقول فتحي: »كنا سعداء رغم الخجل، وكنا نتعزز ونبالغ في إظهار الكسوف القروي ونحن نتقدم نحوه، وكان أسامة جاد يسخر منا، لأن الكاتب المشهور لا يعمل تقريباً، بل يلتقي بالأدباء لكي يكسر تلك البطالة المقنعة. كان صديقنا الكاتب مغروراً وفظاً، وهو يسمع تقديمنا بوصفنا شعراء جاءوا من الصعيد خصيصاً ليسلموا عليه». ويضيف: »طردنا تقريبا بدعوي انشغاله، لقد جرح صداقتنا الوهمية، وظل الجرح يؤلمنا حتي الآن، وترك في صدورنا عقيدة راحت تتجدد عبر مواقف لا حصر لها، مع أدباء وموظفين في وزارة الثقافة أو الإعلام وغيرهم. الأديب الجدير بالاستقبال لا يستحق تلك الجدارة من خلال كتابته أو وعيه، بل من خلال خدمات أخري يمكن أن يقدمها أو يُحتمل أن يقدمها في يوم ما. تلك هي العقيدة التي بدأت تتسلل إلينا وتستقر وتكبر، منذ التقينا بذلك الكاتب المشهور، والذي أحلم بصفعه منذ ثلاثين عاماً، وقد قابلته عدة مرات بعدها وكانت يدي تنتفض ولا تتحرك، وها هي تنتفض الآن بقوة وتصفعه، ولأنها صفعات خيالية تواصل الصفع إلي مالا نهاية. ويمنعها رد فعل أو صراخٌ أو تدخلٌ من المارة». يحذر فتحي المبدعين من جرح الصداقات الوهمية التي تولد من خلال القراءة لهم: »إنها مؤلمة جداً و خالدة، وأسوأ ما فيها يتفجر عندما يخون الكاتب نفسه ويتخلي عن جوهره الحر النزيه». لا يحتاج صاحب »الموتي يقفزون من النافذة» و»خازنة الماء» إلي وقت حتي يقول: »هذا صديقي المقرب»، لا يحتاج حتي إلي لقائه حتي يقولها مقتنعاً وحذراً في نفس الوقت. يقولها مقتنعاً ويشعر أن اقتناعه بها يمكن أن يفسدها، إنه صديق مقرب في ظل شروط معينة، يخاف من تغييرها »لأن القرب كامل في تلك اللحظة، والتغيير لن يزيد القرب نضجاً بقدر ما يجعله عرضة للخطر». الوضع سهل في حالة الحديث عن الصداقة بشكل عام، بالنسبة له، فلديه أصدقاء لم يفترق عنهم منذ المرحلة الابتدائية، يعرفون أسراره ويعرف أسرارهم، لا توجد بينهم حواجز، ويجدهم عندما يريد ودون أدني حرج في استدعائهم لأي أمر: »لقد مرت صداقتنا عبر غربال العشرة الطويلة، وصارت نموذجا حياً للصداقة كما تعرفها ثقافتنا الشعبية، أما بالنسبة للوسط الثقافي فلدي أزمة كبيرة. لا صديق لي بذلك المعني المعروف، ويحيرني مفهوم الصداقة نفسه بسبب ارتباطه بمخلوق سحري اسمه الكتابة، وبسبب عدم التناغم بين البعد الزمني والمكاني في علاقتي بالمثقفين». يري فتحي أن »الكتابة صديق عظيم، يصغي إليك ويحدثك، يذيب الحدود والمسافات والحواجز، الكتابة صديق مشترك يجمع بين الكاتب وآخرين لا حصر لهم ولا حد لتنوعهم، كل مبدع قرأتُ له وأعجبني صار صديقاً حقيقياً، دون الحاجة إلي العيش معه، أو معرفة تفاصيل حياته، القراءة تصنع صداقة نقية وعميقة، غالباً ما تتعكر عند العشرة، أو الاحتكاك المباشر، وهكذا يبقي أفضل الأصدقاء هم الذين لم نلتق بهم أبداً، أو تستحيل مقابلتهم بحكم بُعدهم في الزمان أو المكان». ويقول إنه في الوسط الثقافي لا تقتصر الصداقة علي الأشخاص، فهناك كائنات أكثر قرباً من أي شخص، مثل النيل: »إنه صديق مقرب، لا يتكلم أبداً، لكنه يعرفني جيداً، يعرفني أكثر مني، لقد التقينا صدفة بحكم مولدي لكن علاقتي به تعمقت جداً بالقراءة عنه وحوله وما يتصل به، تعمقت بالنظر إليه، صحيح أنه لم يقف بجانبي في أي موقف، لأنه لا يستطيع ترك ضفتيه، ولا يملك مالاً يدسه في جيبي، لكنه ينظر لي، ويصل إلي أعماقي، وفي كل موقف واجهته كان لنظرة النيل، وكائنات أخري، دور في انتصاري». وهو يري أن صداقته بالنيل ليست جموحاً شعرياً، بل هي تجسيد لصداقاته التاريخية في الوسط الثقافي، لأنها تمضي هي الأخري، مثل النيل، بلا أحداث أو حكايات، مجرد لقاءات متباعدة جداً قد تفصل بينها سنوات، وهكذا يمكن القول إنه يملك صداقات تاريخية في الوسط الثقافي علي مستوي الزمن، لا علي مستوي المكان: »الصداقة عامة شيء والصداقة في سياق الوسط الثقافي شيء مختلف. هناك براءة تخطو بين الفخاخ عندما ننزل الحركة الثقافية لنشبك أصابعنا في أصابع المبدعين. العقل من أخطر تلك الفخاخ، وغالباً ما نسقط في شباكه بدرجات مختلفة». فتحي يفهم الصداقة كعاطفة في المقام الأول، كلقاء وجداني بلا حسابات، ويري أننا حينما ننزل الوسط الثقافي بقلوبنا، سرعان ما تتدخل الحسابات، ويُشبِّه الأمر بالنزول إلي ملعب الكرة، حيث تكون الأيادي متشابكة في البداية، وسرعان ما تفترق ويصل الأمر حد العداء. يعلق: »أنا لا أنزل الوسط الثقافي بحثاً عن أصدقاء، بل بحثاً عن متعي كقارئ، أو تحققي ككاتب، أريد من يعلمني أو يرشدني أو يشجعني أو يقدم لي أي مساعدة تساهم في تحققي، لست بريئاً في مد يدي بالصداقة لكل شخص أتوقع منه القيام بدور إيجابي في مسيرتي، لأن الصداقة ليست غايتي، وهذا لا يعني أن كل هذه الأيدي تخلو من صداقة حقيقية، سنعثر علي صداقات نادرة وقوية بدرجات ما، وسوف تكون غالباً نتيجة للنهر الإنساني الذي يجمعنا، النهر الذي يمنحنا بركاته بغض النظر عن نوايانا، هكذا نربي صداقات حقيقية نادرة، وأخري زائفة، ونشاهد الكثير من الأصابع التي صافحتنا وهي تتحول إلي حراب مسمومة وتقفز في ظهورنا»، ويضيف: »تكتسب الأشياء هويتها في أعيننا من خلال الموقع الذي تقف عليه القدمين، وموقعي بالنسبة للوسط الثقافي صغير وبعيد جداً، لقد عشت حياتي في آخر الصعيد، مجرد موظف في المحكمة يحب القراءة، وله محاولات في الكتابة، صادفتْ بعض النجاح، لكنه لم يؤثر علي هويتي كموظف في المقام الأول، وقارئ في المقام الثاني والثالث، وكاتب في المقام الرابع. مدينتي جزء صغير من الوسط الثقافي، لكنه جزء بعيد عن كل شيء، ونحتاج إلي تسع ساعات في القطار علي الأقل لنكون في الوسط الثقافي بأهدابنا الذابلة وملابسنا المنهكة. لم يكن في مدينتي مطبعة، أو دار نشر، أو منفذ لبيع الكتب، أو مكتبة عامة، وحتي تعرفي علي (البي دي إف) مؤخراً كانت القاهرة هي المصدر الوحيد للكتب، باستثناء الدور العظيم الذي لعبته هيئة قصور الثقافة في فترات معينة». ويتساءل: »ما الذي يمكن أن أعرفه عن الوسط الثقافي من موقعي هذا؟ وكيف لا أنظر إلي الأدباء والمثقفين بوصفهم أنقياء، ولا يمكن أن تقترب أظافرهم من أحشائي. حتي الذين أسمع عنهم حكايات سيئة أقابلهم بترحاب، لأن بعد المكان لا يجعلني أشعر بمساوئهم أبداً، ولا يجعلهم يتخلون هم عن لطفهم وجمالهم عندما يلتقون بي، وهكذا، أعتبرهم جميعاً من عمار حياتي، وكأن البعد يزيدهم جمالاً، وكأن الغياب الذي يمتد بيننا يزيدهم ويزيدني شفافية ونقاء». أغلب أصدقائه في القاهرة من الجنوبيين الذين عرفهم في الصعيد قبل استقرارهم هناك، مثل أحمد المريخي، سعد القليعي، محمد شعير، فارس خضر، سمير سعدي، أسامة جاد، عبد الصبور بدر، يس الضوي، محمد عامر، مصطفي عبادة، عبدالرحيم طايع، أحمد عطالله. وبعيداً عن تلك الذكريات القديمة في قنا، يقول إنه لا توجد ذكريات جديدة، لا توجد أحداث، هناك فقط لقاءات سريعة، أو محادثات تليفونية، وهناك هوية أخري تزاحم الصداقة أو تتداخل معها، وهي هويته كضيف، وهكذا يتنافسون في الحفاوة به، ويستمعون باهتمام إلي أفكاره أو مسيرة الكتب التي يحلم بكتابتها. وهناك قسم من الجنوبيين الذين عرفهم في القاهرة، مثل طلعت شاهين، وشعبان يوسف، وأمجد ريان، وعبده جبير، ومحمد الحمامصي، وغيرهم، وهم أيضاً يتعاملون معه بكرم كبير. يقول ويضيف: »لا أغادر أحدهم، حتي أكون ممتلئاً بالطاقة والحماس، والحرص علي مواصلة لعبتي مع الكتابة». وهناك نفس الدور يلعبه آخرون لا ينتمون إلي الجنوب، بل إلي الهوية الأم وهي الثقافة العربية في مصر أو خارجها، ورغم اللقاءات النادرة التي تجمعه، أو جمعته، بهم إلا أنهم يتركون في أعماقه أثراً جميلاً، ويذكر علي المستوي العربي صبحي حديدي، وصلاح فائق، وعبدالرحيم الخصار، ونصر حميل شعث، ومحسن الرملي وغيرهم. أما المصريون فهم كثر جداً ويتوزعون علي كل المحافظات، ويقول إنه لا يستطيع ذكرهم بسبب العدد، ويكتفي بثلاثة نماذج ربما تكون دالة علي طبيعة علاقته بالوسط الثقافي. يحكي: »دخول البيت من أهم طقوس الصداقة، والذين يفتحون لنا أبواب بيوتهم يرفعون مستوي القرب، ويخلقون عهداً مقدساً، ونحن في الصعيد نستقبل الأصدقاء في ديوان العائلة، ونستقبل قلة مصطفاة في حجرة خاصة في البيت لها باب مستقل نسميها (المنضرة)، ومن يُسمح له بتجاوز ذلك المكان، يصبح في الأعالي وفق ترتيب الصداقة. بيوت المثقفين التي دخلتها نادرة جداً، وكان جمال القصاص، أول من استضافني في بيته في بداية ظهوري، لقد منحني شعوراً قوياً بصلة الدم التي تجمعنا، صلة الدم التي يخلقها الشعر، لا تلك التي تخلقها الثقافة القبلية التي ولدت في حجرها. أقول صلة الدم لأن تلك الجملة تعبر عن قوة ومتانة العلاقات الإنسانية، وقدرتها الكبيرة علي جمع الأفراد تحت راية واحدة، وسحق أي عقبة تعكر تلك العلاقة. لقد قالوا قديماً: العلم رحم لأهله، وأقول الإبداع رحم لأهله، وأول من منحني الشعور بذلك كان جمال القصاص، وما يزال المعني يتأكد من خلال آخرين، يمنحونني التوازن في مناخ صعب لا قبل لأحدٍ به حين يغيب الرحم الإبداعي العظيم. أذكر موقف عبدالمنعم رمضان الذي لم أقابله في حياتي، ووجدته فجأة يدافع عني بشراسة عندما تعرضت لهجوم من البعض، بلغت فيه الخسة حد تحريض الجهات الأمنية ضدي. لقد قابلت عبد المنعم رمضان لأول مرة كي أشكره علي موقفه، فهل تقوم صداقة علي لقاء وحيد؟ لقد كان أكثر شجاعة وشهامة من أناس أعرفهم منذ سنوات طويلة جدا، وأعتبرهم أصدقاء بالمعني الشائع للكلمة، لقد تحول فجأة إلي صديق ثم اختفي في النهر الذي لا أمل من النظر إليه. أذكر موقف ميسون صقر، والتي لم أقابلها سوي مرة واحدة بين جمع من الأدباء، ومع ذلك شدت من أزري في تجربتي المرضية، وتابعت حالتي الصحية بشكل لم أتخيله، وجعلتني أفكر كثيراً في عظَمة الرحم الثقافي، وبشاعة الجرائم التي نرتكبها في حق أنفسنا، ونحن ندوس عليه ونمزق أجمل الصلات التي تمنحها الحياة ليعرف البشر شيئاً عن الخلود». ينزل فتحي الوسط الثقافي بوصفه قارئاً في المقام الأول، فالقراءة في تقديره تصنع نوعاً رائعاً وفريداً من الصداقة، القراءة تقرب المسافات بين المبدع والمتلقي علي نحو قد لا نجده في أكثر الصداقات متانة، القراءة هي المقهي والشوارع والبيوت التي تلتقي فيها الأعماق لا الأبدان، صداقة القراءة أكبر من الصداقة العادية، هي خيالية في المقام الأول، لكن القلوب لا تفرق بين الخيالي والواقعي.. يعلق: »وأنا كقارئ أنصح الكتاب بأن ينتبهوا لصداقة القراء وصدمتهم المروعة عندما يصدر منهم سلوك يجرح تلك الصداقة الخيالية».
