الطيب تيزيني من المعلوم والثابت والمؤكد، أن التراث العربي بكل تجلياته الفلسفية والفكرية واللغوية والتاريخية والأدبية، ظل ردحا طويلا من الزمان في القرن العشرين، حكرا علي وجهات نظر تقليدية، وجهات نظر شارحة وساردة ومنسحقة أمام ما تم تأصيله عبر قرون عديدة سابقة، مع تثبيت كافة القصص والأحاديث الأسطورية الخاصة بذلك التراث العربي، هذا عدا اختراقات قليلة بدأت مع الشيخ الإمام محمد عبده في محاولاته لتحديث المتداول والثابت ووضعه علي مائدة البحث العقلاني غير المنسحق والمستسلم لما سبق وتم التعامل معه بقداسة مانعة للتفكير الحر، وجامعة لمجمل العلوم الوضعية العديدة، ثم الشيخ علي عبد الرازق (1925)الذي ضرب آلة البحث في التراث والتاريخ الإسلامي، لكي ينسف كافة الأساطير الخاصة بالخلافة الإسلامية، ويدخل في صراع ليس متكافئا مع سدنة السلطان السياسية، تحت رايات دينية ملفقة، ثم الشيخ خالد محمد خالد في كتابه »من هنا نبدأ 1950»، والذي صودر في حينه، وعاد للتداول بحكم محكمة، وتمت طباعته عشر مرات في العام ذاته، وبعده كان كتاب (الله) 1955 للدكتور الشاب مصطفي محمود، والذي صودر للأبد، ولم يغامر مؤلفه لإعادة نشره مرة أخري. إنها اختراقات قليلة، ولكنها كانت مرموقة ومدوّية ومثيرة للجدل طويلا، ولكن لاقي أصحابها أشكالا من العنف أطاح بوظائفهم وبحريّاتهم بشكل شبه قاتل، مثلما حدث مع الشيخ علي عبد الرازق الذي تم تكفيره، وفصله من وظيفته، ومحاولة إسكاته حتي رحل في العام 1966، أي ظل شبه ساكت لزمن يربو عن الأربعين عاما، وظل التراث حكرا علي أصحاب النظرة الواحدة، مع إضفاء حالة القداسة التي تمنع من التساؤل ومحاكمة الموروث والتشكيك في مصداقيته وصحة توجهه، وعدم استطاعته أن يكون صالحا لكل زمان ومكان. في ظل ذلك الاحتكار شبه المطلق، أصدر المفكر والباحث الدكتور الطيب تيزيني كتابه »مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط» عام 1971، ليقتحم به ذلك العالم شبه المغلق علي هؤلاء السلفيين من ناحية، وعلي هؤلاء الذين بتبنون وجهات نظر تقليدية، وجهات نظر تؤمن بنظرية »ليس في الإمكان، أبدع مما كان»، وهذا التوجهان، السلفي المتطرف، والتقليدي، كانا يعتبران أن مساحة التراث حكرا عليهما، ولا مجال لأي تساؤلات مريبة، ورغم الاختراقات سالفة الذكر التي حدثت علي مدي القرن العشرين، إلا أن هذا التياران »السلفي والتقليدي»، استطاعا أن ينتصرا في المستوي الظاهري علي تلك الاختراقات، فأسكتا الشيخ علي عبد الرازق حتي رحل، وظلّت كرابيجهم تلاحق د طه حسين بعد كتابه »في الشعر الجاهلي» 1925، وتم مايشبه مصادرته، وحذف الفصل الإشكالي منه، وإعادة طباعة ونشر الكتاب عام 1927 تحت عنوان »في الأدب الجاهلي»، ويظل هذا الفصل مطاردا حتي عقد التسعينات من القرن العشرين، ويخضع الشيخ خالد محمد خالد للضغوط والمطاردات التي تعرّض لها علي مدي أربعة عقود، ويأخذ مسارا شبه إصلاحي، بعد تمرده العنيف في كتابه »من هنا نبدأ»، وهكذا انفرد السلفيون والتقليديون بغالبية مساحات البحث والتنقيب في التراث العربي والإسلامي، حتي جاء الطيب تيزيني. ويعتبر الناقد محمد دكروب أن تجربة مشروع الطيب تيزيني، من أولي التجارب التي يخوضها الفكر العربي الآخذ بالماركسية وبالمنهج الجدلي، في ميدان دراسة التراث العربي ، بأفق جديد وشمولي وعميق، رغم أن تجارب كانت قد سبقته، ولكن علي استحياء علي مدي القرن العشرين، منها تجربة الباحث بندلي الخوري في كتابه »من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام» 1927، ورغم أهمية هذا الكتاب الكبير، إلا أنه كتاب اقتصر علي البحث في الحركات والانتفاضات الاجتماعية بالدرجة الأولي، ثم كانت هناك أبحاث وقراءات تراثية أخري نشرت علي مدي عقود سابقة في مجلتي »الطليعة، والثقافة الوطنية» في لبنان، وذلك قبل صدور جهود حسين مروة العظيمة. ومن هنا تأتي أهمية جهود الطيب تيزيني الريادية، تلك الجهود التي دعمت الباحثين والمفكرين العلمانيين والماركسيين فيما بعد، وعلي رأسهم المفكر حسين مروة، والذي كتب في مقدمة كتابه »النزعات المادية في الفلسفة العربية _الإسلامية»، ناسبا الفضل في هذا المجال لصديقه ولأستاذه الطيب تيزيني، فقال: »أحب أن أمهّد لحوارنا بكلمة بصدد صديقي الدكتور تيزيني، فالواقع إنني، عندما ابتدأت بعملي هذا، كنت أشعر بوحدة، (بوحشة)، إنني وحدي أقوم بهذا العمل، وكنت في موسكو أعيش منفردا في قوقعة الانصراف إلي هذا العمل، عندما أطلّ عليّ كتاب الدكتور تيزيني (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط»، فشعرت أنه يوجد معي من آنس به، وهو سائر في الطريق نفسها، وليست مصادفة أن الدكتور طيب أنجز كتابه في الحين الذي أعدّ أنا فيه كتابي.. إنها ظاهرة لحّحة موضوعية.. شعرت أنني أنا، في عملي هذا، شكل من أشكال هذه الظاهرة، فليست الظاهرة إذن فردية أو قضية فئة معينة..». ويلفت النظر في هذا البوح أو الاعتراف الذي أدلي بها المفكر الأبرز في هذا المجال، إلي عدة ملاحظات تخصّ الطيب تيزيني، فضلا عن فضيلة الاعتراف بالفضل، الملاحظة الأولي تكمن في أن جهود الدكتور تيزيني، ليست جهودا جاءت في فراغ، أو نتيجة تفكير منفصل عن التشابكات الفكرية العديدة، بل أتت تلك الجهود لكي تشكل ضرورة حتمية تفرضها التطورات الفكرية والاجتماعية المحيطة بالحالة الفكرية في العالم العربي، قياسا إلي حالته في مطلع القرن العشرين، الملاحظة الثانية تشير إلي أن جهود الدكتور تيزيني، جهود ريادية في فكّ مغاليق التراث الفكري العربي_الإسلامي، في ضوء المنهج الماركسي المادي الجدلي، ومن يتابع مشروع وكتابات الدكتور الطيب تيزيني، سيدرك جوهر الإبداع البحثي الذي أنجزه دكتور تيزيني. أما الملاحظة الثالثة، وهي من وحي ماكتبه حسين مروة، وليست نتيجة مباشرة لما أدلي به، وهي أن كتابات الدكتور تيزيني فتحت المجال واسعا وعلي مصراعيه لمساءلة التراث العربي، وليس الانسحاق أمامه، ولم تقف تأثيرات مشروع تيزيني عند حسين مروة، بل تجاوزته بأشكال جدلية عند باحثين ومفكرين أخذوا طرقا تكاد تكون متصلة اتصالا مباشرا مع مساحات أوسع من القرّاء، فكانت جهود لنصر حامد أبوزيد وفرج فودة وخليل عبد الكريم وسعيد العشماوي في مصر، أما من كتبوا في العالم العربي، وساروا علي خطي تيزيني لا تستطيع هذه السطور إجمالهم أو ذكرهم علي عجل. والطيب تيزيني لم يكن يقف سريعا أمام الظواهر الفكرية التي مرّ بها العالم العربي، ولكنه كان يعيد الظاهرة إلي كافة الملابسات السياسية والاقتصادية والحضارية، مثلما فعل في دراسته القيّمة التي تصدرت كتاب فرح أنطون عن ابن رشد وفلسفته، والتراشق الفكري الذي دار بين فرح أنطون والشيخ محمد عبده في مطلع القرن العشرين، وفي هذا البحث الضافي وجد الدكتور تيزيني نفسه يعود للقرن السابع عشر، حتي يستطيع أن يصل للنتائج التي وصلت إليها الحالة الفكرية العربية والمصرية علي وجه الخصوص، والتي أنجبت الفرقاء مثل الشيخ محمد رشيد رضا في جانب، وفرح أنطون في جانب نقيض تماما، كما أفرد في البحث سياقا تاريخيا لتحليل ظاهرة الشيخ محمد عبده، والتي جاءت وفق شروط تاريخية وسياسية ومجتمعية عديدة، وليست هذه الضرورة تخضع للحتميات سابقة التجهيز، ولكنها ضرورات تنبثق من خلال الاحتمالات العديدة التي أسهب في سردها وتأويلها الدكتور الطيب تيزيني، والذي يحتاج مشروعه إعادة قراءة أعمق وأشمل في ظل ما يشبه التجاهل لجهوده الرائدة.