تتناول »أوراق.. سيرة إدريس الذهنية» السيرة الذهنيةلإدريس بطل عبد الله العروي الذي تفتحت عيناه علي وطنه المغرب وهو محتل مستعمر، لا يملك من زمام أمره شيئا، وحين أحس أن هناك خللا في التركيب؛ أراد أن ينفصل عن نفسه ليتأملها منعكسة في مرآة، فخطط حياة مخالفة لحياته؛ إنه أراد أن يفهم محيطه، عائلته، فانفصل مبدئيا عنهم ليراهم من بعيد بشفافية، وكان لابد أن يسعي لامتلاك وسيلة تعبير يُشخص بها واقعهم يتمثل قول نيتشة: ناقض نفسك! أنت ممثل ألعب كل الأدوار! تَقنّع، إذ الدور يدل علي حقيقة أعمق من الإقرار! كن كالحيّة إذا لم تتحسر تمت، الذهن غير المتقلب غير حر! فلم يغب عن ذهنه تحرر بلده الذي سيأتي عبر الكفاح والدرس أيضا؛ يري أن البناء علي الاسلام وتطويره بما يتماشي مع العصر هو السبيل للنهضة؛ الدين كما جاء في القرآن والحديث الصحيح يسير جدا، ونحن الآن أمام مشكلات جديدة سنحاول حلها بتطبيق المنطق الغربي العصري، كما حاول القدماء حل مشكلات العهد العباسي بتطبيق المنطق اليوناني؛ لا مناص أمامنا سوي أن نسعي للتغيير لنحافظ علي بقائنا وسط عالم متغير، ولابد من التحرك علي وجه السرعة، واتخاذ الإجراءات الجذرية كما فعلت الصين واليابان وغيرهما إنه رغم سفره وتعلمه بفرنسا لم يذب في الآخر، ولم يقتلع من جذوره بفعل الهوة الحضارية التي شاهدها: »جاء ادريس إلي باريس، فزاد وعيه بوطنيته المغربية وزاد وعيه بخصوصيته الحضارية بدأ يفهم معني قوله: أنا مسلم». وينادي بألا نتخلي عن شرقيتنا وميراثنا مع تأكيده علي أهمية التطويروحتميته: »كيف نتحالف مع أوروبا قبل أن نكون في المستوي المطلوب، أي نُدخل أجهزتنا الاجتماعية والإنتاجية والإدارية والتعليمية الإصلاحات الجذرية المطلوبة، ومهما يكن فليس من المعقول أن نعوض ضعفا حقيقيا بوهم قوة لا أساس لها. الوعي بالواقع هو آخر سلاح يملكه الانسان العاقل، فلا يجوز أن نسمح لغيرنا أن يجردنا منه بحيلة لا تنطلي إلا علي الصبيان». يتعرض لفترة دراسته بفرنسا وانفتاحه علي الفلسفة والادب؛قرأ نيتشه وبروست الذي استعاد زمنه المفقود عبر الكتابة فأضفي عليها عمقا كأنه عاشها مرتين، وخط للكُتاب بعده طرقا أكثر عمقا في النظر للزمن والكتابة: »في الوقت الذي كان ادريس يمر بتجارب عاطفية مختلفة تتعلق بالوطنية، بالثورة الاجتماعية، بالحب بالعزلة؛ كان يفكر رغما عنه في الشكل الملائم لكل تجربة في الشكل الذي يوحد في مجال الوعي عواطف متعددة» وما أجمل استدعاؤه لمقولة جويس: أن الفن هو محاولة الكاتب لوقف زحف التاريخ! تتلمذ علي يد جيل دولوز، وحضر دروس ريمون أرون عالم الاجتماع الفرنسي الشهير لينادي علي الانسان العربي:لا سبيل أمامك سوي أن تغوص في نفسك ووجدانك حتي تمسك بندائك الداخلي وتسعي لتحقيقه: يستشهد بالآية القرآنية (تبوءوا الدار والإيمان ..) أي أقاموا المدنية وأخلصوا الايمان. القارئ لهذ السيرة، الصادرة في طبعة مصرية مؤخرا عن هيئة الكتاب، سيتذكر الأيام للدكتور طه حسين، وكل الكتاب العرب الذين مروا بنفس التجربة بداية من رفاعة الطهطاوي وحتي رواية سهيل إدريس الحي اللاتيني، وبعضا من رائعة الطيب صالح موسم الهجرة للشمال وبطله مصطفي سعيد، وتأكيد معظمهم علي أنه لابد أن تتسع مساحات الحرية وانطلاق العقل كسبيلين أساسين لتحرر الانسان العربي ومن وجهة نظره أننا يجب أن نكتب روايات تربوية تجعل الفرد عامل في محيطه، عائلته ووطنه لا ينسي أثر السينما في تكوينه بل يعمد إلي الحديث عن بعض الأفلام المهمة، ويذكر في نهاية الرواية السيرة أسماء هذه الأفلام ومخرجيها: شاهد إدريس أفلاما كثيرة وسجل علي بعضها ملاحظات نقدية متولدة عن تطلع إلي تعبير شامل عما في الوعي من هموم عمومية وخصوصية، عن تطلع إلي الحياة الحقة الواعية بذاتها. لقد غلب علي هذه السيرة الجانب الفكري بحكم أن كاتبها مفكرمرموق في مجال الفلسفة والأيديولوجيا، ليسفيها تصنع أو ادعاء، إنه مفكر متسق مع ثقافته العربية والإسلامية، لم يخنع أمام الثقافة الغربية كما يفعل آخرون لأن الخنوع والذوبان في الآخر سينتج مسخا ثقافيا ينعكس سلبا وارتباكا في رؤية ونظر الانسان العربي، وهذا ما نراه الآن، لابد أن نبني علي ما لدينا: لا موجب لليأس، أمامنا مستقبل، أمامنا دور احتفظ التاريخ لنا به ، اذا لم نتنكر لنفسنا ، اذا جاهدنا وحافظنا علي هويتنا الإسلامية بشرط تطويرها وإتاحة مساحات للعقل والتأويل لنا المشرق ولهم المغيب. لقد عمد العروي متأثرا بخلفيته الفلسفية إلي كتابة عمل ملتبس ما بين الرواية والسيرة الذاتية، إنه يري أن ذلك أكثر اتساقا؛ فهو يحكي ويحلل بما يجعله يخلخل قناعات القارئ، فهو لا يمتعه فقط بل يبث رسائله عبر السرد الروائي وهذا يستفزه في ثوابته التي في الغالب بها كثير من العطب، بشرح أقرب إلي المقالة الفلسفية.لقد صمم أن يحيا واقعه ويحكم عليه في نفس الآن، قال: التاريخ تتابع أحداث، الحب تموج الوجدان كل رواية سيرة، إما من الحب إلي التاريخ لاكتشاف المجتمع في قلب الذات، وإما من التاريخ إلي الحب لإنقاذ الذات من الغرق في خضم التاريخ.